جـرائـم الـحـرب فـي حـلـب
الحمد لله الذي هدانا للإيمان {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43] نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ يبتلي عباده بالسراء والضراء، وبالعافية والبلاء، ويفتن بعضهم ببعض {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ جاء من عند الله تعالى بالحق، فكان دينه رحمة للخلق، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، والزموا دينه ولا تتركوه؛ فإنه الحق من ربكم، ولا نجاة إلا به {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
أيها الناس: للحرب أخلاق يحافظ عليها من لا يستخفهم فرح بنصر، ولا يستبد بهم تمكن من عدو؛ فهم كبار النفوس، أقوياء القلوب، عظماء في تعاملهم مع غيرهم، حتى مع أعدائهم.
وأما الجبناء الضعفاء فهم الذين إن ظفروا على عدوهم فرغوا ما في قلوبهم من عقد وأمراض نفسية، وتلذذوا بتعذيب ضحاياهم، وطال عذابهم من لا ذنب لهم.
وفي الإسلام قواعد للحرب تضبط سلوك المحاربين؛ لئلا يتجاوزا في حروبهم حدود المشروع، ومن ذلك وصية النبي صلى الله عليه وسلم للجند بقوله: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» رواه مسلم.
فكل المذكورات في هذا الحديث وغيره من الأحاديث تمثل حدودا لا يتجاوزها الجند في حروبهم.
وقد التزم المسلمون في تاريخهم الطويل بهذه الضوابط مما حدا بكثير من أهل الملل الأخرى أن يقبلوا حكم المسلمين فيهم، وينضووا تحت سلطانهم، ويفضلوا حكمهم على حكم غيرهم. وكتب التاريخ وكتابات المستشرقين دالة على ذلك.
ولما انتقلت السيادة في الأرض إلى غير المسلمين، وضعوا إعلانات عدة، واتفاقيات تنظم الحقوق في الحروب، ووضعوا توصيفا لمخالفتها تسمى (جرائم الحرب) وتعاقب عليها القوانين الدولية حسب زعمهم، وهذه الحقوق ذكروها لمن هم في مناطق النزاع، نقارنها مع ما يجري في حلب التي تحرق ويباد أهلها على مرأى ومسمع من العالم الحر بدوله الكبرى ومنظماته الدولية؛ فمما ذكرته اتفاقياتهم: وجوب نقل الأطفال والنساء والجرحى والمرضى والعجزة والمسنين من مناطق النزاع أو المناطق المحاصرة أو المطوقة.
وفي حلب لا يسمحون بنقلهم منها، وعصابات الصفويين تنتظر الهاربين الهائمين على وجوههم لتغتصب نساءهم، وتقتل رجالهم، وتذبح أطفالهم. والجرحى من كثرتهم ينزفون في شوارع حلب وأزقتها حتى يموتوا. وهذا على مرأى من العالم الحر الذي لا يمنع الصفويين والنصيريين من ذلك، ولا يلزمهم بتنفيذ قوانين الحروب؛ لأنه شريك أساسي في جريمة ذبح الحلبيين.
وتنص اتفاقياتهم على وجوب حماية النساء من أي أعتداء على شرفهن وخاصة الاغتصاب أو هتك حرمتهن.
والنساء الحلبيات في سجون الصفويين والنصيريين يستجدين العالم حبوب منع الحمل من كثرة تعرضهن للاغتصاب الجماعي، ومنهن من تموت من كثرة مغتصبيها. ومن حملن منهن يرسلن للعلماء يستفتين عن حكم إجهاض حملهن من جراء الاغتصاب. وهن بالمئات بل بالآلاف، والعالم الحر الذي خط اتفاقيات قوانين الحروب، وعقوبات جرائم الحرب يعلم ذلك، ويُنقل إليه، ولا يحرك ساكنا؛ لأن المغتصبات مسلمات.
ومما ذكروه في اتفاقياتهم: أن المدنيين يجب حمايتهم من الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية، وتحريم قصد مهاجمة المدنيين والمنشآت المدنية.
وفي حلب تدك الطائرات النصيرية والصليبية بالقنابل المحرمة دوليا وبالبراميل المتفجرة المنازل والأسواق والمخابز وأماكن تجمع المدنيين، بقصد إبادتهم. وفي هذا الأسبوع فقط كان القتلى في حلب بالمئات، والجرحى بالآلاف من المدنيين، وكثير منهم من الأطفال والنساء.
وتنص اتفاقياتهم على حماية من يسمونهم رجال الدين، وعدم قصد دور العبادة بالأذى.
ورأينا الصفويين والنصيريين في الشام وفي العراق يقتلون أئمة المساجد، ويربطون المؤذنين في المنائر ثم يفجرونها، ويقصدون المساجد بالتفجير والقصف، ويصورون ذلك وينقلونه للعالم وهم يفخرون به. ولم يحاسبهم على ذلك القانون الدولي ودوله العظمى الممسكة بتلابيب العالم، بل لم يسعوا إلى إيقافه، وهو في ازدياد.
وتنص اتفاقياتهم في شأن الحروب على عدم إيذاء الأسرى ومعاملتهم معاملة إنسانية.
والواقع الذي نقل في الصور الثابتة والمتحركة عبر كثير من وسائل التواصل أن الصفويين والنصيريين يتلذذون بتعذيب الأسرى، وتقطيعهم وهم أحياء، وسلخ جلودهم، وسحلهم في الشوارع حتى الموت. ولم يتحرك أصحاب القانون الدولي ولا دوله الكبرى لوقف هذه الانتهاكات المقززة التي تعارض الفطر السوية، وتدل على العقد النفسية في الباطنيين.
ويحرم القانون الدولي في الحروب تعذيب الأسرى، أو تشويه جثث القتلى، أو أي صورة من صور العقاب البدني.
وتعذيب المدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة، ولم يشاركوا في النزاع، بل تعذيب الأطفال الذي لا يمكن تصور مشاركتهم في الحروب أشهر من أن يذكر على أيدي الباطنيين الحاقدين على أهل السنة.
والقانون الدولي يحرم استخدام الأسلحة الحارقة في الحروب، والباطنيون مع الصليبيين يحرقون حلب بالقنابل التي حرمها قانونهم الدولي وبالبراميل المتفجرة، ويواصلون حرقها كل يوم.
وتنص قوانينهم الدولية على تحريم تجويع المدنيين أو قصد مصادر الماء والغذاء والدواء بالإتلاف.
والباطنيون يجوعون مدنا كاملة بحصار محكم، ويقصفون قوافل الإغاثة بالطعام والدواء قبل وصولها أو يصادرونها حتى مات كثير من الأطفال والنساء من الجوع في عدد من المدن الشامية، وحلب ترزح تحت وطأة الجوع والحصار منذ سنوات، ولا تتحرك القوى التي خطت القانون الدولي في الحروب.
وتنص قوانينهم في الحروب على وجوب حماية المستشفيات وأماكن الرعاية الصحية، وتحريم الاعتداء عليها.
والطائرات الصليبية مع النصيرية تقصد المستشفيات في حلب فتحيلها إلى ركام، ونقلت مقاطع للجرحى والمرضى وهم يسحبون من المستشفيات بعد قصفها، ومقاطع لممرضات جمعن المواليد والخدج في مكان يأملن أن يكون آمنا من القصف داخل المستشفى، وهن يبكين على فصل الأجهزة الضرورية عن هؤلاء المواليد. ولم يحرك النظام الدولي أي ساكن.
كل هذه القوانين والاتفاقيات الدولية في حماية من ابتلوا فكانوا في بؤر الصراع والحروب لم يطبق منها شيء، إن هي إلا حبر على ورق، فلا تساوي قيمتها المداد الذي خطت به.
كان الله في عون إخواننا المضطهدين في دينهم، ورفع الغمة عنهم، وأدال لهم على أعدائهم {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} [آل عمران:126].
وأقول قولي هذا واستغفر الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أيها المسلمون: جرائم الحرب التي منعتها قوانينهم الدولية باتت هي الأصل في كل حرب تسعر ضد المسلمين، وصار انتهاك قوانين الحرب يتكرر في كل عدوان على بلد مسلم، ولا يحاسب المجرمون على انتهاكاتهم للقوانين التي وضعتها الدول الكبرى ومنظماتها الدولية؛ لترسخ حقائق يجب أن يفطن لها المسلم:
منها: أن هذه القوانين الدولية ليست للجميع، ولم توضع لإقامة العدل، ولا لحماية الناس، بل هي مجرد سلاح صنعه الأقوياء يستخدمونه متى شاءوا ويعطلونه إذا شاءوا؛ لنعلم أن حكم الطاغوت لا ينقلب إلى حق، ولا يبسط العدل.
ومنها رسوخ القواعد القرآنية الواضحة في عداوة الذين كفروا للمؤمنين {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] {إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101].
والعلمانية الغربية ما زادت عباد الصليب إلا وحشية على وحشية الرهبان فيما يسمى بالقرون الوسطى. ومحارق محاكم التفتيش انتقلت الآن من أوربا إلى العراق والشام، والمعذِبون للمسلمين عمائم الباطنية بدل رهبان الكنائس. فالقلوب هي القلوب ولو تدثرت باللباس الأنيق، ونزعت الصلبان من الرقاب لتجعلها أوشمة على الأجساد، والحال هو الحال، والقسوة هي القسوة، والحقد هو الحقد، إلا أن وسائل التعذيب والحرق والقتل والإبادة ليست بدائية كما كانت في القرون الوسطى. بل هي الكترونية وعلى أحدث ما تنتجه الصناعات والتقنيات الحديثة.
ومنها: أن الظلم في الأرض لن يزول بقوانينهم الطاغوتية، بل سيزداد، ويزداد معه الخوف، وينزع الأمن من الأرض. ولا أمن إلا بعدل، ولا عدل لجميع البشر إلا في شريعة الله تعالى {أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
فلنحس –عباد الله- بمعاناة إخواننا، ولنكثر لهم من الدعاء، فهم أحوج ما يكونون إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».
وصلوا وسلموا على نبيكم....