كيد الأعداء ومكرهم (إحاطة الله تعالى بكيدهم ومكرهم)
الحمد لله العليم الحكيم؛ أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ يملي للظالمين ويمهلهم، حتى إذا أخذهم لم يفلتهم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كاد به المشركون ومكروا، فأحبط الله تعالى مكرهم، وقلب عليهم كيدهم {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [الأنفال:30] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وثقوا بوعده لعباده، وعذابه لأعدائه؛ فإنه سبحانه وعد المؤمنين بنصرهم، كما أوعد الكافرين بالانتقام منهم، وجعل ذلك سنة حتمية لا بد من وقوعها {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} [الرُّوم:47]
أيها الناس: حينما يريد أحد أن يمكر بأحد ويكيد به فإنه يجمع معلوماته عنه، ويتلمس مواطن ضعفه، حتى يوقعه في حبائله، ويقضي عليه بكيده ومكره. فإن كان مخالطا له بقرابة أو جوار أو صداقة أو شراكة أخفى عنه ما يضمره، وأظهر له النصح وهو يمكر به، فلا يعلم صاحبه إلا وقد تردى في حفرته، وبانت له حقيقة من كان يخادعه.
هكذا يفعل الأفراد مع الأفراد إذا دبت الغيرة فيهم، أو شبت نار العداوة بينهم. وتفعله الدول والأمم بعضها مع بعض، فيكيد بعضها ببعض. وعالم السياسة عالم مملوء بالمكر الكبير، والكيد العظيم حتى أنشئت له مراكز ضخمة بميزانيات عالية، للتخطيط له وتنفيذه.
وأهل الكفر والنفاق أهل كيد ومكر بالمؤمنين قديما وحديثا، والقرآن مملوء بذكر كيدهم ومكرهم، وتواريخ القرون الماضية طافحة بعرض ذلكم المكر والكيد، والواقع يشهد له خلال العقود المنصرمة.
ومما يجهله الكفار والمنافقون في مكرهم بالمؤمنين وكيدهم بهم؛ أنهم لا يشعرون أنهم يقعون في شر أعمالهم، ويساقون إلى مواطن هلاكهم، فيرتد عليهم كيدهم ومكرهم، ويكررون ذلك ولا يتعظون؛ عقوبة من الله تعالى لهم، وابتلاء للمؤمنين بهم؛ فالله تعالى يدافع عن الذين آمنوا؛ لأنهم أولياؤه، وهو سبحانه وليهم {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البقرة:257] ونتيجة هذه الولاية: النصر والغلبة {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ} [المائدة:56].
وعدم شعور الكفار والمنافقين بمكر الله تعالى بهم، وفرحهم هم بمكرهم بالمؤمنين، وظنهم أنهم ينتصرون ويحققون ما يريدون؛ مقصوص في القرآن في ذكر القوم السابقين الذين مكر الله تعالى بهم، في حين أنهم كانوا يظنوا أنهم يمكرون بالمؤمنين، قال الله تعالى فيهم {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] إنهم لم يشعروا أن الله تعالى محيط بمكرهم، وأنه سبحانه يمكر بهم؛ فييسر لهم مرادهم من المكر والكيد حتى كادوا أن يبلغوا النهاية، ويقطفوا الثمرة؛ فيقلب الله تعالى عليهم مكرهم، ويصيبهم ببعض كيدهم {وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:50-51]. وهذه سنة عامة في كل من مكر بالمؤمنين؛ فإن الله تعالى يصيبه بمكره من حيث أنه أراد إصابة المؤمنين به {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123]. وفي آية أخرى {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَللهِ المَكْرُ جَمِيعًا} [الرعد:42] وفي آية ثالثة {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} [إبراهيم: 46] وفي رابعة {قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} [يونس:21].
فإذا كان مكرهم عند الله تعالى، وكان له عز وجل المكر جميعا، وكان سبحانه أسرع مكرا، وكانوا هم بمكرهم إنما يمكرون بأنفسهم؛ لأن الله تعالى يقلبه عليهم، ويمكر بهم وهم لا يشعرون.. إذا كان الأمر كذلك فكيف لا يثق المؤمن بالعليم الخبير، وهو سبحانه محيط بمكر الماكرين، عليم بكيد الكائدين؟! وكيف لا يخاف مَنْ مكر بالمؤمنين وكاد بهم أن يرتد عليه كيده ومكره؛ لأن الله تعالى يمكر به.
وعجبٌ ممن يخادع الله تعالى في أوليائه، فيُظهر وده لهم، ويوهمهم بأنه معهم، وهو يكيد بهم، ويمكر عليهم؛ كما هو حال المنافقين الذين قال الله تعالى فيهم {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] إنهم ماضون في خداعهم للمؤمنين، والكيد بهم، ولا يشعرون أنهم إنما يخدعون أنفسهم، ويكيدون بها، ويمكرون عليها، فما أعظم قدرة الله تعالى على البشر! وما أشد جهلهم به سبحانه وتعالى! وما أعلى منزلة المؤمنين عنده عز وجل!
ومن كاد الله تعالى له ليس كمن كاد عليه، ومن مكر له ليس كمن مكر عليه، وفي قصة يوسف عليه السلام مع إخوته دلالة على ذلك، فيعقوب عليه السلام خاف على يوسف كيد إخوته {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5] وهم جماعة أقوياء قد {أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102] ولكن الله تعالى مع يوسف {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] فانتصر يوسف الغلام الوحيد الضعيف على إخوته وهم كثر كبار أقوياء؛ لأن الله تعالى كاد ليوسف، ومكر له؛ ولذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم «رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ... » فمن مكر الله تعالى له انتصر وغلب مهما كان ضعفه وقلته، ومن مكر الله تعالى عليه هزم وخاب وخسر مهما بلغت قوته وعدته وكثرته.
وهذا هو السر في أن مكر الكفار والمنافقين لا ينجح، ويرتد عليهم، رغم تكراره وكثرة الإنفاق عليه، والبراعة في التخطيط له وتنفيذه. وسبب ذلك: أن الله تعالى مطلع على سرهم، محيط بمكرهم، عالم بما يكيدون وما يمكرون؛ فمن كيده سبحانه بهم أنه يمضي لهم مكرهم وكيدهم، ويحققون به نجاحات تفرحهم، فيتمادى بهم مكرهم إلى غايتهم، حتى إذا كادوا أن يبلغوها قلب الله تعالى عليهم مكرهم، وأصابهم بكيدهم، ونجى المؤمنين من شرهم؛ ولولا ذلك -ومع كثرة كيدهم ومكرهم- لفني المسلمون مما لقوا من كيد أعدائهم في القديم والحديث. وفي هذا المعنى يقول الله تعالى {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182- 183]. فتأملوا -عباد الله- سنة الاستدراج فيهم، وهي سنة تحتم تحقيق بعض مرادهم من أجل الإملاء لهم، وغرورهم بقوتهم، وتماديهم في طغيانهم؛ حتى إذا ظنوا أنهم تمكنوا من مرادهم؛ مكر الله تعالى بهم، وبدد سعيهم، وأذهب ريحهم، وشتت شملهم، وقلب مكرهم وكيدهم عليهم. وَكَيْدُ اللَّهِ تعالى قَوِيٌّ لَا انْفِلَاتَ مِنْهُ لِلْمَكِيدِ.
وبما أن الله تعالى عليم بسرهم، محيط بكيدهم ومكرهم؛ فإنه سبحانه يوهنه ويحبطه ولا بد، ويرده على أصحابه لا محالة {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الكَافِرِينَ} [الأنفال: 18]، ولذا كان كيدهم ومكرهم مهما عظم ليس له من الأثر في المؤمنين إلا أذى يصيبهم، وهو ينفعهم ولا يضرهم {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 25] وبالتقوى والصبر يتجاوزه أهل الإيمان {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120] فثقوا بالله تعالى وأيقنوا، وإليه أنيبوا، وعليه توكلوا {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160].
نسأل الله تعالى أن يرفع الذل والهوان عن المؤمنين، وأن يحبط كيد الكفار والمنافقين، وأن يردهم على أعقابهم خاسرين، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أن الكائدين بالمؤمنين الماكرين بهم؛ يرتد عليهم مكرهم، ويحل بهم عذاب ربهم، وهم في حال غفلتهم {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26].
أيها المسلمون: من أعظم المكر الذي مكره الكفار في هذا الزمن كذبة النظام الدولي؛ فإنه حينما أنشئ بهيئاته ومنظماته ومحاكمه كانت أهدافه المعلنة: الحياد بين الدول، ونشر السلم العالمي، وإنهاء النزاعات والحروب. ولكن الملاحظ أن الحروب والنزاعات زادت في وقته أكثر من ذي قبل، ووجهت بوصلتها إلى الدول النامية؛ لتُسحق وتحرق ويباد أهلها بإشراف دولي أممي مرتب؛ ليبقى لدول العالم الأول أمنها ورفاهيتها، بالقضاء على من يزاحمها، ونهب بلدانهم وخيراتهم.
والمتتبع للهيئات الدولية منذ نشأتها يجد أن كل قراراتها كانت ضد المسلمين ولمصلحة أعدائهم، أيًّا كان دينهم؛ فهي كانت مع الصهاينة في احتلال فلسطين، وكانت مع الهندوس في تقسيم كشمير، وكانت مع البوذيين في سحق مسلمي بورما وتركستان، ومع الصليبيين في سحق مسلمي البوسنة وكوسوفا والشيشان والأفغان، وفي فصل تيمور الشرقية وجنوب السودان، وكانت مع الصفويين في التسلط على لبنان واليمن، وسحق سنة الأهواز والعراق، وكانت مع القرامطة النصيريين في حرق الشام وإبادة أهلها، ولا زالت حلب تحرق في وضح النهار، وأمام النظام الدولي الذي يشرف على المحارق والمذابح.
والماكرون الكائدون بالمسلمين يقتسمون الأدوار، ويخادعون الناس بتراشق الألفاظ، وتقاذف الاتهامات، بينما هم يجتمعون على هدف واحد، وهو إبادة أهل السنة، وحرق بلدانهم، وإحلال الفوضى فيها.
وهذا المكر الذي مكروه، والكيد الذي كادوه؛ مرتد عليهم لا محالة، وعائد إليهم ولا بد؛ فتلك سنة الله تعالى التي لا تتخلف {وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].
فالواجب على أهل الإيمان نبذ اليأس والقنوط، ونصرة المستضعفين المستضامين بما يستطيعون، من تخفيف جراحهم وآلامهم، ومواساتهم بكل أنواع المواساة، والتعريف بقضاياهم، والإلحاح في الدعاء لهم، والدعاء على أعدائهم، وهو أعظم ما يقدم لهم؛ فإن الأمر بيد الله تعالى، وهو القادر على كشف هذه الغمة، ورد كيد الكافرين والمنافقين ومكرهم عليهم، وإنزال نقمته سبحانه بهم {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10].
وصلوا وسلموا على نبيكم....