غرس الإيمان في قلوب الأولاد (2)
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71]
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: أعظم النعم نعمة الإيمان، وهي أكبر أرباح الدنيا، بل لا يخرج الإنسان من الدنيا بشيء يفيده إلا بالإيمان ولوازمه من العمل الصالح. وأكبر الخسران أن يفارق الإنسان الدنيا بلا إيمان فيخلد في العذاب، نعوذ بالله تعالى من ذلك.
ورغم أن هذه القضية هي أخطر القضايا وأعظمها، وهي معلومة لكل مؤمن، ويجب العناية بها؛ فإن كثيرا من الناس في غفلة عن تنمية إيمانهم وزيادته بالعمل الصالح، وفي جهل عن غرس الإيمان وأصوله وأجزائه في قلوب أولادهم، ومنهم من هو آمن من فقد الإيمان وهو يعيش زمنا يرى فيه الشبهات تتخبط كثيرا من الناس فتفسد قلوبهم، وتخرجهم من إيمانهم {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] قَالَ التابعي الجليل ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ رحمه الله تعالى: " أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ "
إن سلب الإيمان، والتردي في الكفر والنفاق أقرب إلى الواحد من شراك نعله، ولا سيما في هذا الزمن الذي أُرخص فيه الإيمان، وجُهر فيه بالتمرد والإلحاد، وقُصفت القلوب بالشبهات، وأُحيطت بالأهواء والشهوات، وصار رفض الشريعة وأحكامها يدعى الناس الناس جهارا عبر وسائل الإعلام، فيتأثر بذلك كثير من الشباب والفتيات؛ فمن أحب أولاده غرس الإيمان ومعانيه وأصوله وأجزاءه في قلوبهم، ومن خاف عليهم حصنهم ضد الشبهات، وتعاهد إيمانهم بالزيادة والنماء.
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وطريقته في غرس الإيمان في القلوب، وجد فيها عناية خاصة بالأطفال وبالشباب؛ لأن من شبَّ على شيء شاب عليه، والقناعات تغرس في الأطفال فيشبون عليها ويهرمون. وما تلقاه الإنسان في مرحلة الطفولة وبدايات الدراسة من معلومات أصبحت لديه كالمسلمات التي يبنى عليها غيرها، ويعسر انتزاعها من قلبه ولو كانت أخطاء كبيرة. فغرس الإيمان والمفاهيم الصحيحة في الأطفال والشباب يبقيها في قلوبهم، فلا تميد بهم الشبهات، ولا تغيرهم الشهوات، بل يبقى إيمانهم راسخا في قلوبهم.
وإليكم طرفا من غرس النبي صلى الله عليه وسلم مفاهيم الإيمان في قلوب الأطفال؛ لنتأسى به في ذلك فنحافظ على جيل من الشباب والفتيات يريد الملاحدة أن يتخطفوه من أيدينا؛ ليصنعوه على أعينهم ثم يوجهوه حرابا تطعن في عقيدتنا وشريعتنا وتاريخنا، وفي كل ما يمت بصلة إلى ديننا وأمتنا.
كان ابن عباس رضي الله عنهما صبيا نجيبا، ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان فتى يافعا، له من العمر ثلاث عشرة سنة، وكان قبل هذا السن يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان وأصوله وأجزاءه، ونقل من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ فَكَانَ يَقُولُ: «التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ»
وكم في هذا الذكر من أصول الإيمان ومفرداته، ويكفي أنه يتضمن الشهادتين اللتين هما أصل الإيمان ومبتداه ومنتهاه، وهما مبنى كل أجزاء الإيمان وتفصيلاته. كان عليه الصلاة والسلام يعلمهم إياه –وابن عباس صبي صغير- كما يعلمهم السورة من القرآن في حفظه وإتقانه، وفهم معناه، وضبط لازمه ومقتضاه، وهذا من غرس الإيمان في الصغار.
وأعجب من ذلك، وأكثر غرسا للإيمان أن النبي صلى الله عليه وسلم استثمر ركوب ابن عباس معه يوما على الدابة، واختصاصه به؛ ليعلمه الإيمان، ويغرسه في قلبه، قال ابْنُ عَبَّاسٍ يحكي ذلك: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: «يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ». رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ. زاد أحمد في روايته «وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا»
فلنتأمل هذا الحديث جيدا، وما فيه من معاني الإيمان، والتعلق بالله تعالى وحده دون سواه، وصرف الدعاء له، والاستعانة به وحده لا شريك له، وغرس الإيمان بالقدر في قلبه؛ لئلا يرجو غير الله تعالى، ولا يخاف إلا منه سبحانه. ويسلحه بالصبر على العسر؛ لأن طريق الإيمان شاقة عسيرة، ولها تبعات يحملها صاحبها، لن يسعفه في الثبات على إيمانه إلا الصبر على ما يلقى فيه، ويفتح له أبواب الفأل؛ لئلا يصيبه اليأس عند اشتداد العسر، واستحكام البلاء.
يغرس صلى الله عليه وسلم كل هذه المعاني الإيمانية الكبيرة العظيمة في قلب غلام حدث ربما كان في العاشرة من عمره أو دونها بدليل أنه في بعض الروايات قال «يَا غُلَيِّمُ» مما يدل على صغر سنه، وفي بعض الروايات أنه قدّم بمقدمة تدل على أهمية ما سيعلمه ليعتني به فقال:«يَا فَتَى أَلَا أَهَبُ لَكَ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ» ولربما أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أردفه خلفه إلا ليعلمه هذه الفصول من الإيمان، بدليل رواية الفريابي وفيها: «أَهْدَتْ فَارِسُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةً شَهْبَاءَ مُلَمْلَمَةً، فَكَأَنَّهَا أَعْجَبَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.... ثُمَّ رَكِبَ فَقَالَ: «ارْكَبْ يَا غُلَامُ»، يَعْنِي: ابْنَ عَبَّاسٍ، فَرَكِبْتُ خَلْفَهُ، فَسِرْنَا حَتَّى حَاذَيْنَا بَقِيعَ الْغَرْقَدِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى مَنْكِبِي الْأَيْسَرِ، وَقَالَ... » ثم علمه ما أراد أن يعلمه.
فأي قلب عامر بالإيمان يمتلكه ذلك الغلام الذي غرست فيه هذه المعاني الإيمانية العظيمة؟!
ومن تابع سيرة ابن عباس بعد بلوغه ورشده، ثم في كهولته فشيخوخته بان أثر ما غرس في قلبه من معاني الإيمان في طفولته.
فلنحرص - عباد الله – على تلقين الشباب والفتيات والأطفال معاني الإيمان وأصوله؛ تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ونفعا لأولادنا وأولاد المسلمين، ووقاية لهم من العذاب، فلا نجاة في الآخرة ولا فوز إلا بالإيمان والعمل الصالح {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التَّحريم:6]
بارك الله لي ولكم في القرآن...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28]
أيها المسلمون: كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي صغار الصحابة رضي الله عنهم على الإيمان، ويغرسه في قلوبهم، ويعلمهم شرائعه، ويخاف عليهم التفلت من الإيمان وتركه أو الإخلال به؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخشى عليهم من تجاوز الحد في الإيمان حتى يبلغ بهم الغلو في الدين، وكما علم صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنهما أساس الإيمان وأصوله وشرائعه، وغرس في قلبه معانيه العظيمة وهو دون البلوغ؛ فإنه عليه الصلاة والسلام علمه مجانبة الغلو في الدين؛ لأن الغلو قد يخرج الإنسان من الإيمان وهو لا يشعر. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ جَمْعٍ – أي في مزدلفة -: "هَلُمَّ الْقُطْ لِي - أي: حصى الجمار- " فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعَهُنَّ فِي يَدِهِ، قَالَ: " نَعَمْ بِأَمْثَالِ هَؤُلاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ" رواه أحمد.
وظهر أثر هذا الغرس في ذلك الغلام لما كبر ابن عباس فصار إماما يعلم الناس الإيمان، ويزرعه في قلوبهم، قال شقيق بن سلمة رحمه الله تعالى: خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَمِيْرٌ عَلَى المَوْسِمِ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ النُّوْرَ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ، وَيُفَسِّرُ، فَجَعَلْتُ أَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ وَلاَ سَمِعْتُ كَلاَمَ رَجُلٍ مِثْلَ هَذَا، لَوْ سَمِعَتْهُ فَارِسُ، وَالرُّوْمُ، وَالتُّرْكُ، لأَسْلَمَتْ.
وظهر ضبطه لإيمانه بعيدا عن الغلو في مناظرته للخوارج وكانوا ستة آلاف فرجع منهم عن غلوه بعد المناظرة ألفان، وهذا يدل على رسوخه في الإيمان والعلم، وقدرته على التعامل مع أهل الغلو، ولولا أن ابن عباس رضي الله عنهما قد غُرس فيه الإيمان منذ طفولته، وتعاهد هو إيمانه في شبابه وكهولته لما كان له هذا الشأن، ولما عرف بهذا العلم والذكر.
وكل هذه محفزات على العناية بالأطفال والشباب والفتيات، في دلالتهم على الإيمان، وغرسه في قلوبهم، وتعليمهم شرائعه، وتعاهدهم بما يقويه ويزكيه، وحفظهم مما ينقضه وينقصه ويشوشه.
وصلوا وسلموا على نبيكم...