• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مسلمو القرم.. والخوف من الشبح

مسلمو القرم.. والخوف من الشبح "الروسي"


ما إن تسكن آلامٌ فترةً من الزمان حتى تتجدد أخرى، ولا تكاد الجراحات تندمل حتى يأتي من ينكئها لتعاود النزيف من جديد.. هذا هو حال المسلمين اليوم في ظل ما يواجهونه عالميا من اضطهاد وتهميش وسط صمت إسلامي وعربي مطبِق؛ ففي القريب تصدَّرت حملات التطهير العرقي لمسلمي بورما من قبل البوذيين عناوين الصحف بمختلف لغاتها، ثم سُلِّطت الأضواء على إفريقيا الوسطى لما واجهه مسلموها من قتل وتهجير على أيدي النصارى، والآن توقَّف مؤشر البوصلة عند مسلمي شبه جزيرة القرم إثر ضمها إلى روسيا بناء على استفتاء مطعون بنزاهته دوليا.

وقد وصف محللون سياسيون عملية ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، بـ "أسلس عملية غزو في التاريخ الحديث، إذ انتهت قبل أن يدرك العالم الخارجي أنها قد بدأت".

وكان التتار المسلمون في شبه جزيرة القرم، أبدوا خوفهم على حاضرهم ومستقبلهم من السيطرة الروسية، كما يقول رفعت تشوباروف، زعيم تتار القرم، خاصة بعد التجارب المريرة التي لاقوها في فترة الاتحاد السوفيتي السابق ومجازر "جوزيف ستالين"، مفيدا بـ "قاطعنا الاستفتاء على انضمام منطقتنا إلى روسيا، رغم تعهد السلطات الموالية لروسيا بإعطائنا مساعدات مالية وحقوقا مناسبة في امتلاك الأراضي".

تقع شبه جزيرة القرم في جنوب أوكرانيا، ويحدها من الجنوب والغرب البحر الأسود، ومن الشرق بحر آزوف، وكان اسمها فيما مضى "آق مسجد"، أي "المسجد الأبيض"، قبل أن يستولي عليها الروس الشيوعيون.

وتبلغ مساحة شبة جزيرة القرم 26,150 كيلو مترا، أما المنطقة التي كانت تخضع لنفوذها فتبلغ أضعاف هذه المساحة، وينتشر فيها التتار، ثم انتشر فيها القوازق حتى تخوم أوكرانيا، ثم تقلصت مع الزمن حتى انحصرت في شبه الجزيرة هذه.

وصل الإسلام إلى القرم عن طريق التتار، وذلك في عهد القبيلة الذهبية التي يرجع نسبها إلى جوجي الابنِ الأكبر لجنكيز خان. ولما مات جوجي قبل أبيه أقطع جنكيز خان لولده باتو بلاد روسيا وخوارزم والقوقاز وبلغاريا، وأُطلق عليهم القبيلة الذهبية أو مغول الشمال، وهي أول قبائل المغول في اعتناق الإسلام. ويعد بركة خان أول من أسلم من أمراء المغول، وذلك عام 650هـ وهو عائد من قرة قورم عاصمة دولة المغول الكبرى. ثم بايع الخليفة العباسي المستعصم بالله في بغداد، وأتم بناء مدينة سراي (مدينة سراتوف في روسيا الآن)، عاصمة مغول الشمال، وبنى فيها المساجد، وجعلها أكبر مدن العالم في ذلك الوقت.

كانت دولة المغول المسلمة في بلاد القرم وما جاورها، على علاقة طيبة مع دولة المماليك في مصر والشام، وكانا يقفان معا في حملات الجهاد ضد هجمات البيزنطيين.

بدأ الضعف يدب في دولة التتار المسلمين بعد عصر القوة الذي زاد على 120 عاما؛ نتيجة الصراع بين أبناء الأسرة الحاكمة وتفشي الظلم، فاستقل الحاج شركس في استراخان، واستقل ماماي ببلاد القرم، وزاد الضعف باجتياح تيمور لنك مدينة سراي في مطلع القرن التاسع الهجري، ما أدى إلى تفتت الدولة الواحدة إلى خمس دول، هي: القرم، استراخان، خوارزم، قازان، سيبريا الغربية، وهذا كله شجع الروس على الوقوف في وجه التتار الذين ظهر ضعفهم واضحا للعيان.

تحرك الروس ضد التتار، غير أن حاكم التتار توقتاميش (762- 798هـ) تمكَّن من صد هجماتهم ودخل موسكو عام 783هـ، غير أنه وقع القتال بينه وبين تيمور لنك، الذي تمكن من هزمه عام 788هـ، واختفى ولم يعلم له مكان. وعين تيمو لنك على سراي أميرا من قبله، وحينها عاود الروس هجماتهم على التتار في القرم وما حولها.

بعد ذلك ظهرت الدولة العثمانية كقوة عظمى في الجنوب، وتمكَّن السلطان محمد الفاتح من فتح القسطنطينية عام 857هـ، وغيَّر اسمها إلى إستانبول، أي عاصمة الإسلام، وبذلك انتقلت قيادة المذهب الأرثوذكسي المسيحي إلى موسكو، ومن هذا المنطلق فقد أثار المسؤولون الروس الروح الصليبية لدى مواطنيهم، فعدّوا التتار والعثمانيين عدوا واحدا، وقد كان كذلك، إذ عدّ العثمانيون بلاد القرم من أملاك الخلافة الإسلامية.

في بداية الأمر لم يكن العثمانيون ليهتموا بأمر الروس؛ إما ازدراءً بقوتهم واحتقارا، وإما لانشغالهم بما هو أكبر من ذلك، وعلى الجانب الآخر كان الروس أكثر تخطيطا وإدراكا لمهمتهم الدينية الصليبية، فعملوا على إيقاع الخلاف بين الأسر التترية، واتجهوا ناحية الشرق لاحتلال قازان، ولم يتحركوا صوب القرم حتى لا يجعلوا العثمانيين يحسون بالخطر الروسي القادم.

وما هي إلا سنوات حتى احتل الروس إمارات قازان 959هـ، والباشغرد 959هـ، واستارخان 961هـ، وسيبريا الغربية 1078هـ، وهكذا غدت بلاد التتار تحت الاحتلال الروسي باستثناء بلاد القرم، التي أجَّلها الروس خوفا من العثمانيين.

ولما أصاب الدولة العثمانية الضعف في الجهة الشمالية، تمكن الروس من غزو شبه جزيرة القرم في سنة 1198هـ - 1783م، بعد أن قتلوا 350 ألفا من مسلمي القرم.

وتراوحت السيطرة الغربية على بلاد القرم بعد أن ضعفت الخلافة العثمانية بين روسيا الشيوعية وألمانيا النازية، فعندما قامت الحرب العالمية الأولى دمَّر الروسمدينة سيمفروبول، وقضوا على الحكومة التترية، غير أن الألمان تمكنوا من احتلال القرم من الروس، ثم انسحب الألمان بعد مدة.

سيطر الروس الشيوعيون على بلاد القرم بعد الألمان، وعندها أعلن التتار الجهاد والدفاع عن الدين، ورأى الشيوعيون أن حبل المقاومة طويل، فلجأوا إلى حرب التجويع، فجمعوا الطعام والأقوات من البلاد، ليموت المسلمون جوعا، وكان معدل موت المسلمين 300 شخص يوميا، وعندها فضّل المجاهدون لأنفسهم الموت من أن يصيب الناس ما أصابهم من بلاء بسبب اعتصام المجاهدين ومقاومتهم.

وفي الحرب العالمية الثانية احتدمت المعركة بين الروس والألمان على أبواب القرم، وظن التتار أن الألمان سيكونون أرحم عليهم من الروس المجرمين، فقرروا الاستسلام لهم انتقاما من الروس، ولم يدر في خلدهم أن الكفر ملة واحدة، وأن عداوة النصارى موجهة للإسلام والمسلمين، فما إن علم الألمان أن المستسلمين من التتار المسلمين حتى نزعوا منهم السلاح وساقوهم حفاة 150 كيلو مترا سيرا على الأقدام ودون طعام، وبدأ المسلمون يموتون جوعا، وبدأ الأحياء يأكلون لحم الأموات، فلما أدرك الألمان ذلك أخرجوهم من السجن وأبادوهم رميا بالرصاص.

وبعد هزيمة ألمانيا في الحرب، عاد المستعمرون الشيوعيون إلى القرم، واتهم الروس التتار بأنهم من أعوان الألمان، فدخل الشيوعيون العاصمة (باغجه- سراي)، وطمسوا معالم الإسلام فيها، حتى دكوا المساجد الأثرية، مثل: جامع خان، وجامع بازار، وجمعوا المصاحف وأحرقوها في الميادين العامة، فكان مجموع ما هدمه السوفييت 1558 مسجدا في شبه جزيرة القرم، والعديد من المعاهد والمدارس، وأقاموا مكانها حانات للخمر وحظائر للماشية ودور للهو.

بعدها انطلق الجنود الروس الشيوعيون في الشوارع والطرقات يفتحون نيران أسلحتهم دون تمييز، حتى قتل من المسلمين ربع مليون مسلم، وأرغموا أهلها على الهجرة الإجبارية إلى سيبيريا وآسيا الوسطى، خصوصا في أوزبكستان، وهرب مليون وربع مليون منهم إلى تركيا وأوروبا الغربية، وبعضهم في بلغاريا، ورومانيا، ثم تدفقت جماعات المستعمرين من الروس والأوكرانيين فحلت محل السكان الأصليين، ولم يبق من خمسة ملايين مسلم من تتار القرم غير نصف مليون.

في ديسمبر من عام 1991م أعلنت أوكرانيا استقلالها رسميّا عن الاتحاد السوفييتي. وفي يونيو 1992م وافقت السلطات الأوكرانية على إعطاء شبه جزيرة القرم حكما ذاتيّا. وعقد تتار القرم مؤتمرهم الأول في مدينة سيمفروبل عاصمة الإقليم وذلك في يونيو من العام نفسه، وأسسوا المجلس الأعلى للتتار القرم كممثل للشعب التتاري المسلم.

ووفقا للإحصائيات الأوكرانية لعام 2001م، بلغ عدد سكان القرم 2,033,700 نسمة. وتتكون التركيبة السكانية من عده مجموعات عرقية: روس 58.32%، أوكرانيون 24.32%، تتار القرم المسلمون 12.1%، بيلاروس 1.44%، تتار 0.54%، أرمن 0.43%، يهود 0.22%، ويونانيون 0.15%.

وأخيرا؛ لا شك في أن مخاوف مسلمي شبه جزيرة القرم على لسان زعيمهم رفعت تشوباروف، في محلها؛ فالعداء الروسي لهم ليس له حدود, وإذا أضفنا إلى ذلك حالة الضعف والتردي العربي والإسلامي العام, فإن لسان حالهم يقول "حسبنا الله ونعم الوكيل".

أعلى