أجهزة التواصل الاجتماعي "نهر بر وخير في بحر إثم وشر"
الحمد لله باسط النعم، دافع النقم، جزيل العطاء، رافع البلاء،
نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فهو الغني الحميد، البر الرحيم، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ جعل للحق أنصارا وأعوانا، يلتمسون البر،
ويدعون إلى الخير، وينشرون الفضيلة، ويئدون الرذيلة، فبهم تستقيم أحوال المجتمعات،
وتحل البركات، وترفع العقوبات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ربّى أصحابه على تعظيم
أمر الذنب، وعدم الاستهانة بقليل الشر؛ فإن القليل مع القليل يصبح كثيرا، وقال: «إِيَّاكُمْ
وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه
إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله
تعالى وأطيعوه، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أقوالكم وأفعالكم قبل أن
توزنوا، وتأهبوا للعرض على الله تعالى بتكثير الطاعات والحسنات، وتقليل المعاصي
والسيئات؛ فإن من نوقش الحساب عذب {يَوْمَئِذٍ
تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقَّة:18].
أيها
الناس: من كان سببا في هداية أحد من الناس كان له
أجر هدايته وعمله الصالح دون نقص أجر العامل، ومن كان سببا في إضلال أحد كان عليه
وزر من أضله مع وزره، وهي قاعدة شرعية لحفز الناس إلى نشر الهدى والخير، وتخويفهم
من نشر الضلالة والشر {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ
كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ
عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25] {وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] وقال النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ
مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا،
وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ
تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» رواه مسلم.
ولقد
كانت الدعوة إلى الخير أو إلى الشر محصورة في وسائل محدودة لا تبلغ كل الناس ولا
أكثرهم، ولا تتخطى حدود المكان الذي يدعو فيه صاحبه، وليس لها من الجاذبية في
العرض، ولا السرعة في الوصول كما هو واقع الناس اليوم حينما أصبح تبليغ الخير أو
الشر في أجهزة بحجم الكف، تحمل في الجيب، فلا تتعطل وسيلة البلاغ، ولا تفارق
صاحبها في سفر ولا حضر، ولا في ساعة من ليل أو نهار، بل هي ملازمة له ملازمة ثوبه
أو ظله، وفي أقل من ثانية يرسل ما يريد فيراه في لحظته مئات أو ألوف أو ملايين،
سواء كان كتابة أم صوتا أم صورة ثابتة أم متحركة.
لقد
نفع الله تعالى الناس بهذه الوسائل نفعا عظيما؛ فرفعت منسوب الوعي لديهم، وضخت لهم
صحيح المعلومات والوثائق، وأزالت الغشاوة عن أبصارهم، وقضت على كثير من الدجل
الرخيص الذي كان يمارس عليهم؛ إذ ميادينها مفتوحة للجميع، لا تحتكرها دولة أو
طائفة أو حزب أو جماعة، وفي جو كهذا يظهر الحق، فيزهق الباطل؛ لأن مبنى الباطل على
الدجل والكذب، ولا يصمد أمام الحق. ووسيلة أهل الباطل التعمية على الحق وإخفائه،
وحجبه في الظلام لئلا يراه الناس. والدعوة إلى الله تعالى بواسطة وسائل التواصل
الاجتماعي، وبيان الحق عبرها لا يحتاج إلى إذن أحد ولا وصايته، ولا يمكن حجبه عن
الناس، كما أن الحماية التي يتترس بها أهل الفساد، والحصانة التي تمكنهم من بث
فسادهم وهم آمنون من كشفهم قد كسرتها وسائل التواصل الاجتماعي، فيكشف من شاء
حقيقتهم وهو آمن من صولتهم وكيدهم.
وهي
وسيلة من وسائل صلة الرحم، وتفقد الأصحاب، والتواصل بينهم بمكالمتهم والسؤال عنهم،
وإسداء النصح والخير لهم بلا تكلفة ولا مئونة.
وهي
وسيلة لتناقل العلوم والمعارف، وتبادل الفوائد والمنافع، ولا يحصى ما ينثر فيها من
نكت وفرائد، وسنن وفوائد، ما كان كثير من الناس يعلمونها، وكم فيها من تنبيه على
أخطاء كانوا يقعون فيها. وفيها يذكِّر أهل الخير بعضهم بعضا بمناسبات الخير،
ويدلونهم على مجالاتها، ويفتحون لهم مغاليق أبوابها، وييسرون لهم أسبابها، ويذللون
عقباتها، وكم من سنة مهجوة أحييت بها، ومن طاعة فعلت بسببها، وكم تاب من عاص، وكم
أسلم من كافر، بسبب رسالة أو تغريدة أو مقطع أو صورة؟! ومنافع أخرى جمة في مجالات
في أمور الدين والدنيا، وفي الخير والعلم والمعرفة والطاعة. فيا لكسب من ظفر
بخيرها وبرها، وحجز نفسه عن شرها وإثمها.
وهي
كما كانت وسيلة للخير مشرعة الأبواب، مهيئة الأسباب، تتهاوى أمامها المعوقات،
وتذلل الصعاب؛ فهي كذلك وسيلة لنشر الشر والإثم، والصد عن البر والخير، وكسب
الأوزار العظيمة بكلمات معدودة، وثوان قليلة. فينشر شرًّا أو يدعو إلى إثم، أو
يفتري كذبا، أو يشيع فاحشة، وفي ثانية واحدة يطالعها عشرات أو مئات أو ألوف،
فينشرها بعضهم أو أكثرهم فلا يمضي يوم أو بعض يوم إلا والملايين يحتفظون بها في
أجهزتهم ويتناقلونها. ولا سيما مع تعدد وسائل النشر، وتنوع برامج التواصل
الاجتماعي، حتى إن المادة الواحدة من الخير أو الشر لتصل الواحد عبر منافذ عدة، إن
فاته الاطلاع على بعضها لم تفته كلها.
إن
وسائل التواصل الاجتماعي كشفت ما في المجتمعات من خلل في التدين، وضعف في التربية،
وانحطاط في الأخلاق.
إنها
قد أزالت الغفلة عن أمور تجب الغفلة عنها؛ فأولاد المسلمين من بنين وبنات ما كانوا
يعرفون كثيرا من الفواحش، ولا يعلمون عن كثير من الممارسات الأخلاقية المنحطة حتى
تعلموها من هذه الوسائل؛ فالفضول قادهم لمعرفتها، وضعف الوازع جرأهم عليها، وحب
التجربة جرهم إليها، فمنهم من غرق في الرذائل بسببها، وتأملوا الوصف القرآني
للمؤمنات بالغفلة {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
المُحْصَنَاتِ الغَافِلَاتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] أي: غافلات عن الفواحش ومقدماتها، بل
تستحي الغافلة من عرض الزواج عليها وهو حلال؛ ولذا كان إذن البكر في الزواج
صماتها؛ مراعاة من الشارع الحكيم سبحانه لها لحيائها.
هذا
الحياء وهذه الغفلة قضت على كثير منها وسائل التواصل الاجتماعي، فصار الكلام
الفاحش البذيء يتناقله كثير من الشباب والفتيات، بل ربما الأطفال، ناهيكم عن الصور
الفاضحة، والمقاطع الفاحشة، والتباهي بانتهاك الحرمات، والمجاهرة بالسوء، فيحكي
بعضهم ما عمل البارحة من فواحش وقد بات يستره ربه سبحانه، فيصبح يكشف ستر الله
تعالى عليه على الملأ من الناس، بل على ألوف وملايين، وهذا مجاهرة بالإثم، ولو كان
كاذبا فيما قال، ولو تخفى خلف أسماء وهمية؛ فإنه لن يخرج من دائرة المجاهرين الذين
لا يعافون، ومن يشيعون الفاحشة في الناس.
وأخطر
من ذلك أن هذه الوسائل فتحت عيون من فيهم ضعف على أنواع من الفواحش غليظة الحرمة
كالنظر إلى المحارم والسحاق وعمل قوم لوط، وبناء علاقات محرمة في هذه المجالات
بواسطة التواصل والمراسلة وتبادل الصور والمقاطع؛ مما يحتم العناية البالغة بشحن
الأولاد كل فترة بجرعات إيمانية وأخلاقية تحصنهم ضد هذا البلاء المستطير، وتخويفهم
من عذاب الله تعالى، وبيان عاقبة التساهل في ذلك، وإيضاح آثاره الدينية والأخلاقية
والاجتماعية والصحية.
ومن
الآثار الخبيثة لوسائل التواصل الاجتماعي أنها جرأت الفساق والفاسقات على الشرع
الحكيم بالخوض فيه بلا علم، ورد النصوص أو تأويلها، وتهوين الواجبات والمحرمات،
وبث الشبهات لإسقاط كثير من الأحكام كما هي طريقة أهل الأهواء، ويتلقف ذلك العامة؛
فيصابون بالشك في بعض أحكام دينهم، وتكثر البلبلة والجدال في أوساطهم، ومجالس
الناس شاهدة على تفشي هذه الظاهرة بعد انتشار هذه الوسائل، حتى صار الانقسام بين
الناس، واختلافهم على دينهم ظاهرا في مجتمعات المسلمين.
وأخطر
من ذلك أن الزنادقة والملحدين استغلوا وسائل التواصل الاجتماعي لكسر المقدسات في
نفوس المسلمين، وتهوينها في قلوبهم بالتسمي بأسماء الله تعالى، أو الاتصاف بأوصافه
سبحانه، أو السخرية به عز وجل، أو الطعن في رسله وكتبه وشرائعه. ومع إِلْفِ الناس
لذلك تهون المقدسات في قلوبهم، وتضعف غيرتهم على دينهم، ويتلاشى غضبهم لله تعالى،
وهذا هو مقصد الملاحدة: أن يعتاد المسلمون على الطعن في ربهم ونبيهم وكتابهم
ودينهم، وتنتزع الحمية لذلك من قلوبهم، ومعلوم أنه لا يمكن ردع هؤلاء الملاحدة لِاستتارهم
خلف أسماء مستعارة، وبث فكرهم الإلحادي بوسائل التواصل الاجتماعي. وربما أشاع بعض
الناصحين فكرهم من حيث لا يدري، وذلك بنشر كلامهم على وجه الإنكار له، وهم يفرحون
بنشره؛ لأن الناس إن أنكروه اليوم بشدة خف إنكارهم له مع كثرة تداوله حتى يألفوه.
والواجب حماية القلوب من الميوعة والليونة في هذه الجوانب؛ وذلك بتجنب الاطلاع على
كلام الزنادقة والملحدين، وحظر حساباتهم، وحذف قوائمهم، وتنبيه من يصله شيء من ذلك
إلى حذفه مباشرة وعدم الالتفات إليه، ولا إرساله لغيره حتى يموتوا بغيظهم، ويحصن
المؤمنون عن إلحادهم وتجديفهم.
وكم
من مريد للخير لا يبلغه! وكم من ناصح ينشر الإثم بجهله! فإن أهل البدع ينشرون
بدعهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي في صور من يدعون إلى الخير، فيشيعون أحاديث
موضوعة، وقصص مكذوبة، وأعمال غير مشروعة، فيتلقفها جهلة الناس، ويتبرعون بنشرها
محتسبين أجرها. والواجب على من بلغه شيء من ذلك أن يتثبت بسؤال أهل العلم عن صحته
قبل نشره، فإن تبين خطؤه نبه مرسله إليه ووعظه؛ فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ
كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»متفق عليه.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى
أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» رواه مسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ
وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد
لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله
وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما
بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131، 132].
أيها المسلمون:
وسائل التواصل الاجتماعي ابتلاء من الله تعالى لعباده، والابتلاء إما أن يئول
بالعبد إلى الخير، وإما أن يئول به إلى الشر؛ فإذا تجاوزه العبد بخير اختيار كان
نعمة عليه، وخيرا له، وإن أخفق فيه كان نقمة عليه، وشرا له.
إن
وسائل التواصل الاجتماعي أوعية لتخزين الخير أو الشر ونشرهما، إنها مسارب لبث
الهدى أو الضلال، وأدوات لإظهار الحق أو الباطل. وواقعها المشاهد يدل على أنها بحر
متلاطم من الشر والإثم والشهوات والباطل، يجري في وسطه نهر عذب من الحق والبر والخير،
فمن لزم وسط النهر حاز خيرها وبعد عن شرها، ومن فارق نهر الخير فيها وقع في بحر
الإثم والفجور، ومن لزم حافة نهر الخير فيها اغترف منه واغترف من بحر الإثم،
والأغلب في الناس التخليط بينهما، فيستقبل خيرا وشرا، وحقا وباطلا، وينشره، ولكن
العبرة في الإكثار من هذا والإقلال من ذاك، ومن عجز عن قصر نفسه على خيرها، وأسرف
في شرها؛ فالسلامة لا يعدلها شيء، ولو اعتزلها كلها، وأراح نفسه منها، فلا له ولا
عليه، وكل عامل سيجد عمله فلينظر العبد لنفسه لا لغيره {أَمْ
لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى *
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم:
36 – 41].
وصلوا
وسلموا على نبيكم...