فالعناصر النادرة باتت تدخل في صلب الصناعات العسكرية، والفضائية، والرقمية، والذكاء الاصطناعي، والطاقة النظيفة. هذا يعني أن من يتحكم في مصادرها وسلاسل توريدها لا يحكم فقط السوق، وإنما يملك مفاتيح القرارات الجيو-استراتيجية.
في لحظة تتحرّك فيها خرائط
التنافس الدولي بصمت كثيف، خرج اجتماع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقادة آسيا
الوسطى في واشنطن ليكشف عن مسار جديد يعيد تشكيل هندسة النفوذ في
منطقة
أوراسيا، لم يعد الصراع بين القوى الكبرى مقتصرًا على خطوط النار التقليدية، ولا
مقتصرًا على منظومات التسلّح أو التوسع الميداني. مصدر التوتر الجديد يكمن تحت
الأرض: معادن نادرة، ويورانيوم، ومعادن انتقال الطاقة، ومعها فرصٌ لمراكمة سلطة
اقتصادية تُتيح السيطرة على سلاسل التوريد الحساسة، ومن ثمّ إعادة ترسيم موازين
القوة في العقد المقبل.
الولايات المتحدة ــ وهي
تنظر إلى تراجع احتياطاتها من تلك العناصر ــ تدرك أنّ مستقبل صناعاتها الدفاعية
والتكنولوجية يمرّ عبر بوابة آسيا الوسطى؛ تلك المنطقة التي ظلّت لعقود ساحة نفوذ
حصري لروسيا والصين. في المقابل، ترى موسكو وبكين أنّ واشنطن لا تعود فقط لانتزاع
الحصص الاقتصادية، بل لتغيير بنية التحالفات في قلب المسرح القاري المرتبط بأمنهما
الاستراتيجي، وبين هذا وذاك تزداد المنطقة تحوّلًا إلى ميدان خافت الصخب لكنه عميق
الرمزية في سياق معقد منذ نهاية الحرب الباردة.
ثروة تحت الرماد
تمتد آسيا الوسطى على
مساحات جغرافية هائلة، تتقاطع فيها مسارات التجارة والطاقة والتاريخ. وتضم في جوفها
احتياطيات واسعة من اليورانيوم، والليثيوم، والنحاس، والذهب، والتنغستن، والعناصر
الأرضية النادرة. وتحديدًا، تُعد كازاخستان أكبر منتج عالمي لليورانيوم، كما تُعدّ
أوزبكستان مصدرًا مهمًّا لليثيوم والنحاس، بينما تمتلك قرغيزستان وطاجيكستان موارد
هامة من الذهب والمعادن الثمينة. هذه الثروة المعدنية لم تُستثمر تاريخيًا وفق
مقاييس السوق العالمية، بل ظلّت تحت هيمنة شبكات مرتبطة بروسيا والصين، بما يتوازى
مع إرث جيو-سياسي معقّد.
ومع الانعطاف العالمي تجاه
الانتقال الطاقي، أصبح الطلب على المعادن الاستراتيجية أعلى من أي وقت مضى.
فالعناصر النادرة باتت تدخل في صلب الصناعات العسكرية، والفضائية، والرقمية،
والذكاء الاصطناعي، والطاقة النظيفة. هذا يعني أن من يتحكم في مصادرها وسلاسل
توريدها لا يحكم فقط السوق، وإنما يملك مفاتيح القرارات الجيو-استراتيجية. ولا
يُمكن فصل الصراع على المعادن عن مشهد التنافس الدولي. تاريخيًا، ورغم وجود
الاستكشافات الواسعة في عهد الاتحاد السوفيتي، فإن كثيرًا من الاحتياطيات لم تدخل
طور الاستغلال المكثف، إما بسبب ضعف البنية اللوجستية أو عجز الإطار المؤسسي. الآن،
تبدو أبواب المنطقة مفتوحة أمام قوى تتطلع إلى إعادة صياغة مستقبل صناعاتها
اعتمادًا على هذه الموارد.
هيمنة روسية
وتغوّل صيني
لسنوات طويلة؛ مثّلَ
المجال السوفيتي السابق فضاءً حصريًّا للنفوذ الروسي. بعد الاستقلال، حافظت موسكو
على قوتها عبر أدوات عسكرية واقتصادية وثقافية جعلت آسيا الوسطى امتدادًا للأمن
القومي الروسي. في قطاع المعادن، لم تكن المسألة اقتصادية فحسب؛ بل كانت ترتبط
بالبنية الدفاعية الروسية، التي تعتمد على موارد المنطقة لتأمين الصناعات
الإستراتيجية.
|
|
مما لا شك فيه فإن مكانة آسيا الوسطى في العقد القادم ستتعاظم لا محالة،
ليس فقط بوصفها خزان معادن، بل بوصفها حلبة إعادة صياغة التحالفات، وسيشهد
العقد المقبل أيضا انتقالًا أكبر نحو محور المعادن |
وعلى الرغم من دخول الصين
تدريجيًا إلى المنطقة خلال العقدين الماضيين، ظلّت روسيا تمتلك ممسكات النفوذ
الأعمق: قواعد برية، أطر أمنية مشتركة، واتفاقات تجارية طويلة. هذه البنية جعلت
الدول الخمس (كازاخستان، أوزبكستان، تركمانستان، قرغيزستان، طاجيكستان) تتعامل مع
الاعتبارات الروسية عند تصميم أي شراكة معدنية مع أطراف خارجية. لكن الحرب في
أوكرانيا فرضت ارتجاجًا بالغًا في بنية النفوذ الروسي؛ فقد دفعت العقوبات الغربية
موسكو لإعادة ترتيب أولوياتها، وأتاحت للدول الوسطى هامشًا أكبر للمناورة، ما جعل
واشنطن ترى في هذا التصدع لحظة استراتيجية لإعادة التموضع.
الصين، منذ إعلان مبادرة الحزام والطريق، تبنّت استراتيجية تحويل آسيا الوسطى إلى
ممر استراتيجي للطاقة والمعادن والبنية التحتية التجارية. وقد قامت شركاتها
باستثمارات ضخمة في المناجم، وشبكات السكك الحديدية،
وممرات النقل، ومرافق المعالجة. وبهذا تحوّلت بكين إلى اللاعب الاقتصادي الأكثر
حضورًا في المنطقة. النفوذ الصيني لم يُبنَ على القوة العسكرية كما فعلت روسيا، بل
على الإقراض والبنى التحتية وتمويل الطرق والأنابيب.
وبذلك، نجحت الصين في ربط
اقتصادات المنطقة بها، عبر عقود طويلة الأمد، وأحيانًا عبر قروض يصعب ردها، ما
منحها أوراق ضغط واسعة. وهذا ما جعل بكين تسيطر عمليًا على ممرات نقل المعادن إلى
الأسواق الآسيوية، بما يمنع استخدامها خارج خرائطها. ومع توسع الصناعات الصينية
المعتمدة على العناصر النادرة، أصبحت آسيا الوسطى امتدادًا طبيعيًا لاحتياجات بكين
الاستراتيجية. هنا، صار النفوذ الصيني في المعادن مرتبطًا بمنظومة أكبر تشمل الطاقة
والصناعة واللوجستيات؛ ما يجعل انتزاعه مهمة شديدة التعقيد.
التدخل الأمريكي
قدّمت إدارة ترامب ما يشبه
خطة جديدة للانخراط الاستراتيجي في منطقة آسيا الوسطى، مستغلة لحظة تراجع موسكو
النسبي وانغماس الصين في مشكلات داخلية. اجتماع ترامب الأخير مع قادة آسيا الوسطى
عكس تحوّلًا من دبلوماسية الخطابات إلى دبلوماسية الصفقات؛ صفقات تُعطي أولوية
للمعادن الحيوية بوصفها رافعة لإعادة بناء القدرة الصناعية الأمريكية، وفك ارتباط
سلاسل التوريد الأمريكية بالخصوم، وتحديدًا بكين، وقد تحرّكت الإدارة الأمريكية على
مستويين:
1- توقيع اتفاقات تنقيب
ومعالجة وبناء منشآت تشغيل، لتأمين الإمدادات، لا سيما وأن السوق العالمية
للمغناطيسات والبطاريات والشرائح العسكرية ستتوسع عشرات المرات، ما يجعل السيطرة
على المواد الخام مسألة أمن قومي.
2- إبرام تعهدات لوجستية
تتيح تصدير المعادن إلى السوق الأمريكية مباشرة، وبالتالي المساهمة في قطاعات
الدفاع، والطائرات، والسيارات الكهربائية، والاتصالات، والذكاء الاصطناعي.
صعوبات وعراقيل
بالرغم من ذلك؛ تواجه
الولايات المتحدة في آسيا الوسطى بعض العقبات الكبرى، التي تُهدد أي تحرك واسع،
ويمكن تخليصها في الآتي:
1- الجغرافيا:
دول منطقة آسيا الوسطى
حبيسة برًّا، ولا منفذ لديها على مياه مفتوحة، ما يجعل تصدير المعادن نحو الغرب
عملية معقدة تمر غالبًا عبر روسيا أو الصين؛ أي عبر الخصوم الاستراتيجيين أنفسهم،
لذا فإن واشنطن بحاجة لتطوير بدائل أخرى، هنا يبرز الممر الأوسط عبر بحر قزوين إلى
أذربيجان ثم جورجيا وتركيا بوصفه الخيار الأكثر واقعية لإنشاء طريق مستقل نحو
أوروبا والأسواق العالمية، رغم ما يتطلبه من استثمارات ضخمة في البنى التحتية ورفع
كفاءة النقل البحري والبري. أما المسارات الجنوبية عبر إيران فمقيّدة بالعقوبات
والعداء السياسي، بينما تبقى الطرق نحو باكستان أو الهند غير مجدية ما دامت تمر
بالصين أو ترتبط بممراتها. وبالتالي، تتجه واشنطن إلى بناء شراكات سياسية واقتصادية
مع أنقرة وباكو ودول المنطقة لتعزيز هذا الممر، باعتباره المنفذ الاستراتيجي شبه
الوحيد القابل للحياة لفك ارتباط سلاسل الإمداد من القبضة الروسية ـ الصينية خلال
العقد المقبل.
2- معركة التكرير
والمعالجة:
حتى لو حصلت واشنطن على
امتيازات استخراج المعادن، فإن المعركة الأهم تكمن في مرحلة المعالجة. الصين اليوم
تسيطر على أكثر من 85٪ من طاقة معالجة العناصر النادرة عالميًا، كما تسيطر على
قطاعات صناعة المغناطيسات عالية القوة، التي تُعدّ القلب التكنولوجي للصناعات
الفائقة. آسيا الوسطى تفتقر إلى منظومات معالجة متقدمة، ما يعني أنّ واشنطن بحاجة
إلى بناء مرافق محلية أو نقل الخام إلى منشآت أمريكية أو تابعة لحلفائها. الخيار
الأول مكلف ويحتاج استقرارًا سياسيًا وضمانًا أمنيًا، والثاني يحتاج بنى لوجستية
معقدة. هذه الفجوة هي مكمن قوة الصين.
3- بين الاستقلال
والتبعية:
دول آسيا الوسطى لا ترغب
في الانضواء الكامل تحت سقف قوة واحدة. منذ الاستقلال، اعتمدت سياسة تعرف بـ "تعدد
المحاور"، حيث تسعى لبناء توازن بين موسكو، وبكين، وواشنطن، وأنقرة، والعواصم
الأوروبية، هذا التوازن يمنحها مكاسب اقتصادية وأمنية دون انغماس في محاور مغلقة.
واشنطن تدرك أنّ الدول الوسطى لن تغادر حضن موسكو فجأة، ولا تريد أيضًا خسارة الصين
التي تمثل أكبر شركائها تجاريًا. لذا، فإن الولايات المتحدة تتبنّى لغة "الشراكات"
لا "التحالفات"، وتعرض بدائل دون أن تطلب قطع العلاقات مع بكين أو موسكو، لكن هذا
التوازن سيظل هشًا.
سيناريوهات
مستقبلية
إن إعادة تعريف منطقة آسيا
الوسطى لن يكون مجرد تنافس على موارد، بل على حرية الوصول إلى التكنولوجيا
العسكرية، وعلى من سيكون صاحب اليد العليا في الصناعات التي تحدد شكل القوة خلال 30
عامًا قادمة، فإذا نجحت واشنطن في تثبيت وجودها تلك المنطقة، فإن أهم أثر سيكون
تفكيك احتكار موسكو ـ بكين لسوق المعادن الحرجة. هذا التفكيك سيفتح الباب أمام
تشكيل بنية اقتصادية متعددة الأقطاب عالميًا، ويمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسة:
1- نجاح أمريكي تراكمي
قد تتمكن واشنطن من تطوير
مسارات توريد ومعالجة بديلة، وتبني منشآت تشغيل، وتوسع تمويل مشاريع التعدين. مع
الوقت، تُصبح آسيا الوسطى جزءًا من شبكة التوريد الأمريكية، وتتحوّل المنطقة إلى
ساحة تابعة لواشنطن.
2- اختراق محدود
قد تنجح الولايات المتحدة
في الدخول إلى بعض القطاعات، لكن البنية اللوجستية وضعف المعالجة يحدّان التأثير.
تبقى الهيمنة بيد موسكو وبكين، والوجود الأمريكي وظيفيًّا لا بنيويًا، يُولد هذا
المشهد حالة توازن هشّ، تُتيح للهند وتركيا لعب أدوار ثانوية، بينما تبقى واشنطن
لاعبًا مهمًا لكن غير حاسم.
3- انتكاسة أمريكية
قد تفشل واشنطن بسبب عوائق
جيو–سياسية
أو استثمارية أو لوجستية، وبالتالي ستعود موسكو وبكين للسيطرة، وتظل المنطقة ضمن
الفضاء الأوراسي بضوابطه التقليدية، في هذا السيناريو سيفقد الغرب فرصة ثمينة
لإعادة تشكيل السوق العالمية للمعادن، وتتعزز الهيمنة الشرقية على الصناعات عالية
التقنية.
4- اضطراب مزمن
يُحتمل أن يؤدي تصاعد
التنافس الدولي إلى توتير المجتمعات المحلية عبر استغلال الانقسامات العرقية أو
السياسية أو الاقتصادية، بما قد يفضي إلى اضطرابات داخلية أو انقلابات سياسية وتشظي
السلطة، هذا السيناريو يخدم موسكو وبكين بوصفهما الأكثر قدرة على الاستفادة من
الفوضى وتعويم الأنظمة الهشّة.
مما لا شك فيه فإن مكانة آسيا الوسطى في العقد القادم ستتعاظم لا محالة، ليس فقط
بوصفها خزان معادن، بل بوصفها حلبة إعادة صياغة التحالفات، وسيشهد العقد المقبل
أيضا انتقالًا أكبر نحو محور المعادن،
حيث سترتفع قيم النفوذ الجيو-اقتصادي على حساب النفوذ العسكري التقليدي. ما سيجعل
واشنطن مضطرة للبقاء في المنطقة على المدى الطويل، عبر التمويل والتطوير لا عبر
الثقل العسكري، على خلاف ما فعلته في الشرق الأوسط. وما يبدو اليوم صراعًا صامتًا
تحت الأرض، قد يكون بعد سنوات محرّكًا لتحولات عميقة في شكل النظام الدولي، نظام قد
تتبدّل فيه مراكز القوة، ويُعاد فيه رسم معنى الهيمنة نفسها.