تُعد الفاشر مفتاحًا لمستقبل السودان، حيث أن سقوطها في يد الدعم السريع يهدد بتفكك البلاد وتفاقم الأزمة الإنسانية في إقليم دارفور الغني بالموارد. هذا الوضع يحمل تداعيات إقليمية خطيرة، خاصةً على مصر، مع خطر تصاعد عدم الاستقرار واحتمالية الانفصال.
تُعد مدينة الفاشر أكثر من مجرد عاصمة لولاية شمال دارفور؛ إنها مركز الثقل السياسي
والعسكري والاقتصادي في غرب السودان، ونقطة الوصل التاريخية بين المركز والأطراف
منذ قرون مضت.
مع اندلاع الحرب بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع في أبريل 2023، تحولت
المدينة إلى آخر معاقل الجيش في الغرب، قبل أن تسقط تحت سيطرة الدعم السريع في
أكتوبر 2025 بعد حصار دام أكثر من 500 يوم، مما أثار مخاوف من تفكك السودان وإعادة
رسم خريطته السياسية. وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، أدى سقوطها إلى ارتكاب جرائم
واسعة النطاق، بما في ذلك عمليات إعدام جماعي وانتهاكات جنسية، مما يعزز من الأزمة
الإنسانية الأكبر في العالم حاليًا.
ثانياً: دارفور.. الموقع والمساحة والسكان
يقع إقليم دارفور في أقصى غرب السودان، بين خطي الطول 22-27 شرقًا والعرض 10-16
شمالًا، ويحده تشاد من الغرب، وإفريقيا الوسطى من الجنوب، وليبيا من الشمال،
وكردفان من الشرق. تبلغ مساحته حوالي 510 آلاف كيلومتر مربع، أي نحو خمس مساحة
السودان الكلية، ويبلغ عدد سكانه وفق تقديرات الأمم المتحدة لعام 2024-2025 ما بين
8 إلى 10 ملايين نسمة، ضمن إجمالي سكان السودان البالغ 48 مليونًا.
يتميز الإقليم بتنوع قبلي يتجاوز 80 مجموعة إثنية، أبرزها الفور والزغاوة
والمساليت والعرب الرحل. كما يُعد دارفور من أغنى المناطق بالموارد الطبيعية، مثل
الذهب والنفط والمعادن والثروة الحيوانية، حيث يساهم بأكثر من 30% من صادرات الذهب
والماشية، بالإضافة إلى موقعه الاستراتيجي كبوابة نحو غرب إفريقيا. ومع ذلك، أدت
الحرب إلى نزوح أكثر من 10.8 مليون شخص داخليًا و2.3 مليون إلى دول مجاورة بحلول
سبتمبر 2024، مع تفشي المجاعة في مناطق مثل الفاشر.
ثالثاً: الفاشر.. الموقع والرمزية
تزايدت أهمية دارفور في الآونة الأخيرة بعد فقدان قوات الدعم السيطرة على العاصمة
الخرطوم وبعض المدن السودانية الأخرى، وكانت السيطرة عليها خطوة مهمة لقوات الدعم
من أجل بسط سيطرتها على آخر ولاية من ولايات إقليم دارفور الخمس.
وتشغل الفاشر 57% من إجمالي مساحة دارفور الكبرى، مما يمنحها موقعا إستراتيجيا، حيث
يحدها من الشمال الغربي والغرب كل من ليبيا وتشاد على التوالي، كما أنها تحادي سبع
ولايات سودانية وتربطها طرق حيوية بأربع ولايات والخرطوم.
تقع مدينة الفاشر على ارتفاع 700 متر فوق سطح البحر، وتبعد نحو 800 كيلومتر غرب
الخرطوم. كانت عاصمة سلطنة دارفور الإسلامية التي ازدهرت بين القرنين السابع عشر
والتاسع عشر، ثم أصبحت مركزًا إداريًا وعسكريًا رئيسيًا بعد ضم الإقليم إلى السودان
عام 1916. يُعد مطارها الدولي من أبرز المنشآت، ويُستخدم للإمداد الجوي والعمليات
الإنسانية، مما جعلها محورًا للنزاعات منذ 2003. في الحرب الحالية، شهدت حصارًا دام
18 شهرًا، انتهى بسقوطها في أكتوبر 2025، مع تقارير عن قتل جماعي وصور أقمار صناعية
تظهر بقع دماء حول المنازل.
رابعاً: الأهمية الاقتصادية
تُعد الفاشر العاصمة الاقتصادية لدارفور، حيث تضم أكبر أسواق الإقليم لتجارة
الماشية والحبوب والذهب، ومركزًا لتجميع الذهب من مناجم جبل عامر وسرف عمرة. كما
كانت قاعدة للمنظمات الدولية مثل
UNAMID سابقًا.
تقارير البنك الدولي تشير إلى إمكانية أن تصبح دارفور "محركًا اقتصاديًا غربيًا"
للسودان مع الاستقرار، لكن الحرب أدت إلى مجاعة وانهيار اقتصادي، مع تقارير عن
تناول سكان الفاشر أعلاف حيوانات سامة للبقاء على قيد الحياة. كما أن الإقليم يساهم
بنسبة كبيرة في الثروة الحيوانية والزراعية، لكن النزاع أدى إلى فقدان هذه الموارد
جزئيًا.
خامساً: الأهمية العسكرية
كانت الفاشر آخر قاعدة رئيسية للجيش السوداني في الغرب، تضم مقر الفرقة السادسة
مشاة وقواعد دفاع جوي ومستودعات إمداد. سقوطها في أكتوبر 2025 يعني سيطرة الدعم
السريع على دارفور بالكامل، مما يفتح الطريق لربط مناطق نفوذها في كردفان والخرطوم.
تقع المدينة على تقاطع طرق تربط السودان بتشاد وليبيا، مما يمنح السيطرة عليها
تحكمًا في خطوط التهريب والسلاح. أدى الانسحاب الجيش إلى مخاوف من فظائع، مع تقارير
عن قتل قائد الفرقة السادسة وآخرين.
سادساً: التداعيات على السودان
تداعيات عسكرية: يفقد الجيش قواعده الغربية، مما يحول دارفور إلى منطقة نفوذ مستقلة
للدعم السريع، ويخل بالتوازن بين الشرق (تحت الجيش) والغرب، مع إمكانية هجمات
إضافية خارج دارفور.
تداعيات سياسية: ستشكل سيطرة الدعم السريع على المدينة نقطة تحول وربما تعزز من
وجود ما تسمى بالحكومة الموازية التي شكلتها قوات الدعم مؤخرا، واختارت الإقليم
مقرا لها.
كما أن بسقوطها سيعزز الدعم السريع شرعيته كسلطة أمر واقع، مما يقوي موقفه في
التفاوض، وقد يؤدي إلى إدارة محلية مدعومة خارجيًا، مفتوحًا الباب لانفصال تدريجي
مشابه لجنوب السودان.
تداعيات إنسانية: تشير بيانات من الأمم المتحدة إلى فرار أكثر من مليون شخص من
الفاشر خلال حصارها من قوات الدعم السريع المستمر منذ 18 شهرا. وتشير تقديرات إلى
أن ربع مليون مدني لا يزالون فيها.
وتفاقم الأزمة التي وصفتها الأمم المتحدة كأسوأ في إفريقيا، مع مجاعة محتملة في خمس
مناطق إضافية بحلول مايو 2025.
سابعاً: أثر انفصال دارفور المحتمل على السودان
يُعد سيناريو الانفصال من أخطر التداعيات:
خسارة خمس المساحة والسكان، مما يضعف الوزن الجيوسياسي.
فقدان موارد أساسية، بنسبة تفوق 30% من صادرات الذهب والثروة الحيوانية.
تحول الإقليم إلى ساحة تنافس إقليمية ودولية، مما يزيد الهشاشة.
إضعاف الجيش وفتح الباب لتفكك في كردفان أو الشرق. حيث حذر تقرير مجموعة الأزمات
الدولية من أن الانفصال قد يؤدي إلى "تفكك السودان إلى دول متناحرة غير مستقرة" دون
تدخل إقليمي.
ثامناً: الانعكاسات الإقليمية.. مصر في صدارة الاهتمام
تراقب مصر التطورات بقلق شديد لأسباب متعددة:
ارتباط أمنها القومي بالجيش السوداني كحائط صد جنوبي.
خطر تمدد الدعم السريع شمالًا، مما يخلق عدم استقرار على حدود وادي النيل.
اختلال التوازن لصالح أطراف مثل الإمارات.
إضعاف العلاقات الاقتصادية، حيث دارفور محور لطرق التجارة المصرية-الإفريقية.
دراسات مصرية تحذر من أن سقوط دارفور قد "يعيد رسم الخريطة الأمنية لحوض النيل"، مع
تدفق لاجئين ومخاوف من تسلل عناصر إجرامية.
تاسعاً: قراءة مستقبلية
تمثل الفاشر مفتاح مصير السودان؛ صمودها كان يحافظ على أمل الوحدة، لكن سقوطها يفتح
بابًا لواقع من الكانتونات المسلحة والولاءات المتعددة، مما ينذر بتحول السودان إلى
دويلات متصارعة. لن تقف التداعيات عند الخرطوم، بل ستتسع إلى الإقليم الإفريقي، مع
مخاوف من تصعيد النزاعات الحدودية.
عاشراً: خاتمة
تجسد الفاشر الصراع بين الدولة والكيانات المسلحة، وبين مركز يسعى للوحدة وأطراف
تسعى لفرض واقع جديد. مصيرها ليس محليًا، بل إقليميًا يمس أمن وادي النيل وغرب
إفريقيا. مع سقوطها ربما يكون قد حسم مصير معركة عسكرية مؤقتا، لكن مستقبل السودان
كله الآن كدولة موحدة أصبح على المحك، والسودان اليوم أصبح في حاجة ماسة لدعم سياسي
واقتصادي وعسكري، إقليمي ودولي لأن سقوط السودان أو تفكه - لا قدر الله - لن يكون
سقوطا منفردا وتداعياته ستكون أكثر من كارثية على دول الإقليم القريب منها والبعيد