هذا الصراع حول مدينة الفاشر يعيد إنتاج الأزمة السودانية في صورتها الأعمق، حيث يتواجه مفهوم الدولة الحديثة مع إرث المليشيات والقبائل والاقتصاد المسلح. وفي هذا السياق، تحولت الفاشر إلى مختبر حيّ لقياس قدرة الدولة على البقاء
تعيش مدينة الفاشر اليوم
واحدة من أكثر لحظات السودان تعقيدًا منذ اندلاع الحرب
في السودان،
إذ تحولت من مجرد ساحة مواجهة إلى مركزٍ يختبر حدود الدولة وملامح مصيرها. فالحصار
الطويل، والانهيار الإنساني، وتراجع سلطة الحكومة المركزية، جعلت من الفاشر مرآةً
مكثفة لما آلت إليه البلاد بعد عام ونصف من الصراع بين الجيش والدعم السريع. في هذه
المدينة تتقاطع خطوط الجوع والسياسة والميدان، وتتعقد حسابات القوى الإقليمية
والدولية على نحوٍ غير مسبوق. فهل تمثل الفاشر آخر معارك الدولة السودانية قبل
الانهيار الكامل؟ وهل يمكن أن تفتح مأساتها بابًا لتسوية تعيد التوازن السياسي
والعسكري في البلاد؟ أم أن سقوطها سيكون إعلانًا صريحًا لنهاية السودان الذي نعرفه؟
الفاشر.. عقدة
الميدان
ليست الفاشر مجرد مدينة
محاصرة في غرب السودان، بل تمثل اليوم عقدة الميدان التي تحدد اتجاهات الحرب في
البلاد كلها. موقعها الجغرافي يجعلها نقطة التقاء بين ولايات دارفور، وامتدادًا
لخطوط الإمداد القادمة من ليبيا وتشاد، ومحورًا استراتيجيًا لأي طرف يسعى إلى
السيطرة على غرب السودان أو تطويق الشمال. لذلك لم يكن تمسك الجيش بها مسألة رمزية
فحسب، بل خيارًا وجوديًا لحماية ما تبقى من مراكز الدولة في الإقليم، ولمنع قوات
الدعم السريع من إحكام الطوق حول مناطق النفوذ الحكومية المتبقية.
منذ الأشهر الأولى للحرب،
أدرك الطرفان أن السيطرة على الفاشر ليست هدفًا محليًا، بل مفتاحًا لمعادلة القوة
في البلاد. فـ "محمد حمدان دقلو" (حميدتي) كان ينظر إليها كبوابة توحيد دارفور تحت
سلطته، فيما يراها الجيش آخر خطوط الدفاع عن وحدة السودان. وهكذا تحولت المدينة إلى
ساحة صراع مركزي، تداخلت فيها القوى المحلية مع الحسابات الإقليمية والدولية، من
تهريب السلاح إلى المساعدات الإنسانية المشروطة، لتصبح الفاشر بؤرة الحرب التي
تختصر مشهد الانهيار. ومنذ منتصف عام 2024، خضعت الفاشر لحصار خانق تزداد قسوته مع
مرور الأشهر، حيث أغلقت قوات الدعم السريع جميع الطرق المؤدية إليها تقريبًا، ومنعت
دخول الوقود والدواء والغذاء إلا عبر قنوات محدودة لا تكفي لبقاء السكان. وقد أدى
هذا الحصار إلى واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخ دارفور الحديث، حيث يواجه
مئات الآلاف خطر المجاعة، وتنهار الخدمات الصحية على نحو شبه كامل، في ظل عجز
المنظمات الدولية عن الوصول الآمن إلى المدينة.
|
يبدو أن الحرب حول المدينة لم تعد بين جيش نظامي وقوة متمردة، بل بين
نموذجين متنازعين للدولة: أحدهما يسعى للحفاظ على الهياكل التقليدية
للسلطة، والآخر يبني سلطته على الولاءات الإقليمية والاقتصاد الموازي.
|
ورغم المحاولات الدولية
والإقليمية للضغط على الأطراف لفتح ممرات إنسانية، فإن كل المبادرات اصطدمت بحسابات
ميدانية معقدة، إذ يرى كل طرف في إمداد المدنيين وسيلة ضغط أو ورقة تفاوض. ومع غياب
آلية تنفيذ حقيقية، تحوّل الحصار إلى أداة سياسية بامتياز، يُعَاقب بها السكان
ويمتحن بها العالم قدرته على التحرك خارج حدود البيانات الدبلوماسية. وفي ظل هذه
المعادلة القاسية، أصبحت الفاشر عنوانًا لانكسار الضمير الدولي قبل أن تكون مأساة
سودانية خالصة.
توازن هش
ومتغيّر
يتعامل الطرفان المتحاربان
حول الفاشر مع ساحةٍ معقدة يصعب حسمها عسكريًا. داخل المدينة، يعتمد الجيش السوداني
على مزيج من القوات النظامية وبقايا وحدات الدعم الشعبي المحلي، إلى جانب فصائل من
حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل
إبراهيم. تُقدّر أعداد القوات الموالية للجيش داخل المدينة بما بين ثمانية إلى عشرة
آلاف مقاتل ينتشرون في خطوط دفاع داخلية تعتمد على أسلوب الدفاع العنقودي للحدّ من
تأثير القصف المدفعي. في المقابل، تفرض قوات الدعم السريع حصارًا من ثلاثة محاور
رئيسية، وتسيطر على الطرق المؤدية إلى نيالا والجنينة وامبرو، وتعتمد على وحدات
سريعة الحركة مسلحة بأسلحة خفيفة ومدفعية متنقلة، هدفها إنهاك القوات داخل المدينة
أكثر من خوض معارك اقتحام مباشرة.
هذا التوازن الميداني الهش
لا يعكس تفوقًا لأي طرف بقدر ما يشير إلى استنزاف طويل الأمد. فالقوات الحكومية
تواجه نقصًا حادًا في الوقود والمؤن، وتعتمد على جسور إمداد جوية محدودة من مناطق
شمال كردفان، بينما تعاني الدعم السريع من ضعف الإمداد اللوجستي وتباين الانضباط
بين تشكيلاتها المتعددة. وتشير بيانات منظمات مراقبة النزاع إلى أن محاولات
الاقتحام التي نفذتها قوات الدعم السريع في يونيو وسبتمبر 2025 فشلت، وأسفرت عن
خسائر فادحة قُدّرت بأكثر من 300 قتيل، مقابل تراجع قدرة الجيش على شن عمليات مضادة
بعد استهلاك معظم مخزونه في الدفاع عن المنشآت المدنية.
ويُلخّص المشهد الميداني
الراهن حول الفاشر في عدد من النقاط المفصلية:
* تمركز القيادة العسكرية
للجيش في الأحياء الشمالية والشرقية للمدينة، مقابل سيطرة الدعم السريع على الأطراف
الغربية والجنوبية، ما يجعل خطوط النار ثابتة منذ أكثر من خمسة أشهر.
* تنامي الدور القبلي
والمناطقي، إذ بدأت قوات الدعم السريع في استمالة مجموعات محلية في ضواحي المدينة
مقابل ضمانات بالحماية والمساعدات.
* تراجع الإسناد الخارجي
لكلا الطرفين؛ حيث تقلّصت الإمدادات القادمة من الشمال للجيش بسبب الوضع الاقتصادي،
فيما فقدت قوات الدعم السريع جزءًا من الدعم المالي الإقليمي نتيجة الضغوط الدولية
المتزايدة.
ولا شك أن هذا المزيج من
الانهاك الميداني والتصدعات المحلية يجعل أي توازن قائم حول الفاشر مرحليًا
ومؤقتًا، قابلًا للانهيار في أي لحظة مع تغيّر بسيط في المعطيات أو التحالفات، وهو
ما يُبقي المدينة على حافة الانفجار العسكري والسياسي في آنٍ واحد.
البعد الإقليمي
الخفي
وراء خطوط القتال، تتحرك
قوى إقليمية كبرى بهدوء، ترسم ملامح صراع طويل الأمد. فليبيا وتشاد يتأثران مباشرة
بمآلات الوضع في الفاشر، إذ إن أي اختلال في ميزان القوة قد يفتح طرق تهريب جديدة
ويعيد إشعال التوترات على حدودهما. في المقابل، تتابع الإمارات ومصر التطورات بعين
حذرة، حيث تُتهم إحداهما بدعم الدعم السريع لوجستيًا، بينما تراهن الأخرى على بقاء
الجيش متماسكًا حفاظًا على وحدة السودان ومنع تمدد الفوضى نحو الشمال.
مآلات مفتوحة
ومخاطر قادمة
تطرح الفاشر ـ اليوم ـ
سؤال الدولة السودانية بحدّ ذاته: من يملك شرعية السيطرة؟ ومن يمثل بقايا السلطة
المركزية؟، إذ
يبدو أن الحرب حول المدينة لم تعد بين جيش نظامي وقوة متمردة، بل بين نموذجين
متنازعين للدولة: أحدهما يسعى للحفاظ على الهياكل التقليدية للسلطة، والآخر يبني
سلطته على الولاءات الإقليمية والاقتصاد الموازي. هذا الصراع يعيد إنتاج الأزمة السودانية في
صورتها الأعمق، حيث يتواجه مفهوم الدولة الحديثة مع إرث المليشيات والقبائل
والاقتصاد المسلح. وفي هذا السياق، تحولت الفاشر إلى مختبر حيّ لقياس قدرة الدولة
على البقاء. فاستمرارها في الصمود يعطي أملًا بأن المركز لم يفقد قبضته تمامًا،
بينما سقوطها يعني انهيارًا رمزيًا وجغرافيًا لمنظومة الحكم. لذلك تُعامل المدينة
بوصفها خط الدفاع الأخير عن فكرة السودان الموحّد، لا مجرد مساحة جغرافية على خريطة
دارفور.
|
كلّ سيناريو من سيناريوهات الحرب في الفاشر يحمل في طيّاته تحولًا أعمق في
بنية السودان السياسية والعسكرية معًا. فالفاشر ليست مجرد معركة على أطراف
دارفور، بل مفصلٌ في تحديد ملامح الدولة السودانية المقبلة |
أمام هذا المشهد، تتقاطع
السيناريوهات المحتملة لمستقبل الفاشر، ويمكن تلخيص أبرزها في ثلاثة اتجاهات
رئيسية:
* سيناريو الانهيار
الكامل: في حال سقطت المدينة بيد الدعم السريع، فإن ذلك سيمنح حميدتي سيطرة شبه
كاملة على دارفور، ويفتح الطريق نحو الشمال والغرب، مما يسرّع بتفكك الدولة
السودانية إلى كيانات مناطقية.
* سيناريو التسوية
المؤقتة: قد تنجح ضغوط الأمم المتحدة أو بعض الدول الإقليمية في فرض هدنة إنسانية
تمتد تدريجيًا إلى تفاوض سياسي، لكنها لن تنهي الحرب ما لم تُحسم مسألة السلطة
والموارد.
* سيناريو الجمود الطويل:
وهو الأكثر احتمالًا في المدى القريب، حيث تستمر الحرب منخفضة الوتيرة، ويُترك
المدنيون تحت الحصار، بينما تتعايش الأطراف المتحاربة في حالة استنزاف متبادل.
نهاية مفتوحة
للسودان
كلّ سيناريو من سيناريوهات الحرب في الفاشر يحمل في طيّاته تحولًا أعمق في بنية
السودان السياسية والعسكرية معًا. فالفاشر ليست مجرد معركة على أطراف دارفور، بل
مفصلٌ في تحديد ملامح الدولة السودانية المقبلة؛
دولة المؤسسات أم دولة الميليشيات. فاستمرار الحصار والانقسام يعيد تشكيل مراكز
القوى داخل الإقليم، ويغذي نزعة الانفصال الواقعي بين شرق البلاد وغربها، في حين
يقوّض قدرة الحكومة في بورتسودان على فرض سلطة مركزية ذات معنى. من هنا، لا تبدو
الحرب في الفاشر حدثًا محليًا بقدر ما هي اختبار لبنية السودان الحديثة، بما تحمله
من أسئلة حول وحدة الجيش، وشرعية القيادة، ومستقبل النظام السياسي كله.
يبدو أن مصير السودان يمر
عبر بوابات الفاشر. فصمود المدينة يعني بقاء الحد الأدنى من التوازن الذي يسمح
بمسار سياسي لاحق، وربما استعادة الحوار الوطني برعاية إقليمية، بينما سقوطها سيمنح
قوات الدعم السريع سيطرة جغرافية شبه كاملة على دارفور، بما يتيح لها إعلان إدارة
موازية أو سلطة أمر واقع. وهذا السيناريو الأخير لا يُنذر فقط بانقسام البلاد
فعليًا، بل بامتداد الفوضى إلى ولايات كردفان والجزيرة، ثم إلى الشرق، لتتآكل فكرة
الدولة المركزية التي وُلدت بعد الاستقلال.
في النهاية، تبقى الفاشر
أكثر من جغرافيا محاصرة؛ إنها مرآة مكشوفة لوطنٍ يختبر آخر ما تبقّى له من معنى
السيادة. معركتها ليست فقط بين بندقية وأخرى، بل بين مشروعَي بقاء وانهيار. وإذا
كان التاريخ لا يدوّن تفاصيل الجوع والخوف كما عاشها أهل المدينة، فإنه سيتذكر أن
الفاشر كانت ـ وربما لا تزال ـ آخر مدينةٍ تقف في وجه العدم، وأول مدينةٍ تكتب
ملامح السودان الذي سيأتي.