تصر قيادة قسد على المطالبة بالحكم الذاتي أو شكل من أشكال الفيدرالية في مناطق سيطرتها، وهذا الأمر يرفضه الرئيس الشرع بشكل قاطع، هذا التباين في الرؤى يجعل من التوصل إلى حل للأزمة أمرًا بالغ الصعوبة، ما يساهم في استمرار حالة الجمود والسؤال: ما الذي يؤخر حسم
لماذا تأخرت الحكومة السورية في حسم تمرد قوات سوريا الديمقراطية والتي يسيطر عليها
الأكراد، ويشار إليها باختصار قَسَد؟
أهي استراتيجية من الحكم الجديد في التعامل مع ملفات الأقليات المتمردة؟ أم هو تربص
الكيان الصهيوني بالنظام الجديد بدمشق؟
أم أن هناك إصرارًا أمريكيًا على دعم التمرد الكردي لأجندة خاصة بها؟ مع العلم
بوجود عسكري أمريكي في شرق سوريا؟ وما هو الموقف التركي الداعم الأكبر للحكم
السوري الجديد؟
ولكن نبدأ في البداية بالتعرف على قسد.
من هي قسد؟ ولماذا تمددت في محافظات الشمال الشرقي السوري الثلاثة،
على مساحة ما يقرب من ٢٨٪ من مساحة سوريا؟
قسد هو اختصار عربي لقوات سوريا الديمقراطية، أو (SDF) وهو
الاختصار الذي اشتهر عنها في وسائل الإعلام الغربية.
وقسد ائتلاف عسكري يسيطر عليه ميليشيات كردية والمنتمية أيديولوجيا لليسار، حيث
تدعم الولايات المتحدة تلك الجماعات المتمردة، ولكن يُعتقد أن الأكراد ومعظمهم من
أهل السنة، لا ينظرون إلى تلك المنظمة بارتياح، خاصة أنها تجبر الأسر على تجنيد
فتياتها في صفوف المقاتلين، الأمر الذي يخالف الدين والتقاليد المجتمعية.
وتعمل قسد كجناح عسكري رسمي للإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا،
والمعروفة أيضاً بشكل غير رسمي باسم "روج آفا".
تأسست هذه القوات في 10 أكتوبر 2015 وكانت مهمتها المعلنة هي إنشاء سوريا علمانية
وديمقراطية، وذات حكم فيدرالي، كما يقول موقع قسد على الإنترنت.
تتألف تلك القوات بشكل أساسي من مقاتلين كرد وعرب وآشوريين، ويُعد المكون الكردي
الأبرز في هذا الائتلاف هو وحدات حماية الشعب المعروفة اختصارا ب YPG.
وتعتبر قوات سوريا الديمقراطية هي الشريك الرئيس للغرب في القتال ضد تنظيم الدولة
الإسلامية (داعش) في شمال شرق سوريا، فقد كانت الدول الغربية تريد الاعتماد بصفة
أساسية على قوات على الأرض تتلقى الخسائر البشرية وتحرر الأراضي، بينما تتولى
القوات الغربية أعمال القصف الجوي وجمع المعلومات.
لذلك توثقت علاقة قوات قسد مع الدول الغربية في الحملة العسكرية التي قادتها
الولايات المتحدة ودعمتها أوروبا ضد داعش، والتي بدأت في سبتمبر 2014. ومنذ ذلك
الحين، قدمت الولايات المتحدة دعماً عسكريا وماليا لقوات قسد، بينما دعمت القوات
الخاصة الفرنسية والبريطانية عمليات المجموعة على الأرض.
بفضل الدعم الدولي ونجاحها في طرد تنظيم الدولة الإسلامية، تمكنت قوات قسد من
السيطرة على مساحة شاسعة في شمال وشرق سوريا.
|
|
ولأن أكراد قسد تتركز نواياهم الحقيقية في السعي إلى الاستقلال عن سوريا،
والانضمام إلى المكونات الكردية الأخرى في المنطقة سواء في تركيا والعراق،
والإعلان في النهاية عن دولة كردية |
وشملت هذه الأراضي غالبية محافظة الحسكة، وما يقرب من نصف الرقة (بما في ذلك مدينة
الرقة)، ومناطق من دير الزور واحياء من حلب التي تقع غرب نهر الفرات. كما تشمل هذه
المناطق أجزاء كبيرة من حقول النفط والغاز الرئيسية في سوريا.
وفي عهد النظام السابق وعلى الرغم من اعتباره علنًا أن قسد المدعومة أمريكياً، قوة
انفصالية وخائنة في بعض الأحيان، مؤكدا على ضرورة وحدة الأراضي السورية تحت سيطرة
دمشق، إلا أنه في الواقع تعامل معها براجماتيًا، لدرجة التحالف.
فقوات قسد لجأت إلى نظام بشار وروسيا كوسيلة للحماية والدعم في مواجهة التهديدات
والهجمات التركية من جانب، ومن جانب آخر تعاون بشار ومن معه من الإيرانيين والروس
لهزيمة قوات الثورة السورية من العرب السنة، باعتبارهم الخطر الأكبر على النظام،
فجرى تفعيل قنوات غير رسمية لتجنب المواجهة العسكرية المباشرة بين الطرفين في
المناطق المتداخلة، مثل مدينتي الحسكة والقامشلي، وفي المقابل احتفظ النظام ببعض
المربعات الأمنية داخل مناطق سيطرة قسد.
وخرج تحالف قسد مع بشار إلى العلن في أكتوبر 2019، في أعقاب العملية العسكرية
التركية (نبع السلام)، حينها أبرمت قسد اتفاقاً مع دمشق وروسيا، سمح بانتشار قوات
النظام على الشريط الحدودي مع تركيا لمواجهة التوغل التركي.
أما علاقة قسد بروسيا، فقد أبرمت قسد تفاهمات مع الروس سمحت لهم بوجود عسكري في
مناطقها الحساسة، وكان مطار القامشلي هو النقطة الأبرز لهذا الوجود.
وعززت روسيا وجودها بشكل ملحوظ في مطار القامشلي، ليكون بمثابة قاعدة أو نقطة
ارتكاز لها في شمال شرق سوريا، حيث رسخت روسيا وجودها العسكري، ونشرت فيه طائرات
مروحية، ومعدات رادار، ووجوداً من الشرطة العسكرية.
وعلى ما يبدو فإن الوجود الروسي في شمال شرق سوريا كان بدعم تركي، معتبرا أنه أقل
خطورة من الوجود العسكري الكردي على حدوده.
الحكومة السورية والتعامل مع قسد
بعد إسقاط النظام في سوريا، ومجيء حكومة أحمد الشرع التي تعبر عن غالبية الشعب
السوري، فأصبح وجودها على الأقل كفيلا بوقف اضطهاد أهل السنة، وإبادتهم، وتهجيرهم.
وكان من المتوقع أن تُجبَر الأقليات التي شاركت بنفسها، أو بالتحالف، أو بالصمت،
على دفع ثمن ما اقترفه النظام الطائفي السابق، ولكن الشرع فاجأ الجميع باعتماد
استراتيجية جديدة للتعامل مع ملف الأقليات في سوريا.
تقوم تلك الاستراتيجية على ثلاثة ركائز:
1ـ دمج الأقليات وإشراكهم في الحكم، ومنع أي انتهاكات ضدهم ومحاسبة مرتكبيها.
2- التأكيد على مبدأ وحدة سوريا ورفض الانفصال تحت أي مسمى مثل الكونفدرالية، أو
حتى الفيدرالية.
3 - إرباك مخططات الخارج، باستغلال ملف الأقليات كورقة للضغط على توجهات النظام
الجديد.
ولكن كيف تعاملت الحكومة السورية مع ملف قسد من خلال الركائز الثلاثة تلك؟
أولا الدمج
اتخذت حكومة الشرع فور استلام الحكم عدة خطوات لدمج قسد في الحكم، كان أبرزها،
توقيع اتفاقية رسمية في شهر مارس الماضي، مع قيادة قسد، بهدف دمج كافة المؤسسات
التابعة للإدارة الذاتية الكردية في إطار الدولة السورية.
ويشمل الدمج حسب الاتفاق نقل السيطرة على المعابر الحدودية، والمطار، وحقول النفط
والغاز في شمال شرق سوريا إلى إدارة الدولة في دمشق، كما نص على الاعتراف بالمجتمع
الكردي كمجتمع أصيل في الدولة السورية، وضمان حقوقه الدستورية وحقوق المواطنة.
|
|
المؤثر في مشهد قسد ليس الأتراك فقط، فهناك الولايات المتحدة مع استمرار
تواجدها العسكري الرمزي في مناطق قسد، وهناك الكيان الصهيوني الذي يهدد
الجنوب السوري باجتياحاته المتكررة |
كما أكد الاتفاق على ضمان حقوق جميع السوريين، بما فيهم الأكراد، في المشاركة في
العملية السياسية وكافة مؤسسات الدولة بناءً على الكفاءة، دون تمييز ديني أو عرقي،
ونص كذلك على دمج قوات قسد ضمن وزارتي الدفاع والداخلية السوريتين.
وتم تشكيل لجان تنفيذية للعمل على تطبيق الاتفاق، وحدد لهدف الإنجاز موعداً لا
يتجاوز نهاية العام الحالي.
لكن،
ولأن أكراد قسد تتركز نواياهم الحقيقية في السعي إلى الاستقلال عن سوريا، والانضمام
إلى المكونات الكردية الأخرى في المنطقة سواء في تركيا والعراق، والإعلان في
النهاية عن دولة كردية،
فإن اتفاقهم مع الحكومة السورية كان لذر الرماد في العيون، فقد ماطلوا في تنفيذ
الاتفاق الموقع مع الحكومة السورية، مدعين أنهم يرغبون أن يضموا قواتهم إلى الجيش
السوري ككتلة واحدة وفي نفس أماكن وجودهم الحالي جغرافيًا، مع التزامهم بالشكليات
كرفع علم الدولة وغيرها، أي ضمنيًا وعمليًا بقاءهم منفصلين، الأمر الذي رفضته
الحكومة السورية بشدة وأصرت أن يتم التعامل مع قوات قسد كأفراد وليس كوحدة واحدة.
كما أن دمشق ترفض ضم وحدات معينة مثل وحدات حماية المرأة (YPJ) التي
تعتبرها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، وتطالب بحلها.
ثانيا بالنسبة للفيدرالية،
تصر قيادة قسد على المطالبة بالحكم الذاتي أو شكل من أشكال الفيدرالية في مناطق
سيطرتها، للحفاظ على إدارتها الذاتية القائمة، وهذا الأمر يرفضه الرئيس الشرع بشكل
قاطع، مؤكداً أن وحدة الدولة السورية لا تقبل الفدرالية، وأن الطريق الوحيد هو
العودة إلى مظلة الدولة الموحدة.
ورغم أن الاتفاق نص على تسليم المعابر وحقول النفط والغاز إلى إدارة الدولة، فإن
التفاصيل التنفيذية لهذه النقطة لا تزال موضع خلاف، حيث تعتبر قسد هذه الموارد ورقة
ضغط مهمة، وتصر على الاحتفاظ بأكثر من نص موارد النفط والغاز.
دور القوى الخارجية في الأزمة الكردية
منذ سقوط الكيان، تلعب تركيا دورا هاما مؤثرا في توجهات النظام السوري الجديد.
وورقة الأكراد تعد من أخطر مسائل الأمن القومي التركي، حيث يخشى الأتراك من تجدد
الأحلام الكردية بالانفصال في كل من سوريا وتركيا.
لذلك قامت تركيا بدور المحرض، ودفع النظام السوري إلى حسم قضية قسد عسكريًا، بينما
آثر النظام السوري إلى التريث والدفع بالحل السياسي إلى نهايته، وعدم اللجوء إلى
الحسم العسكري، إلا بعد نفاد جميع طرق الحل الدبلوماسي، خاصة أنه تم وضع مهلة زمنية
في اتفاق مارس إلى نهاية العام الحالي أي بعد أقل من شهرين، ويبدو أن هناك تنسيقًا
وتقاسمًا للأدوار بين الدولتين.
ولكن
المؤثر في مشهد قسد ليس الأتراك فقط، فهناك الولايات المتحدة مع استمرار تواجدها
العسكري الرمزي في مناطق قسد، وهناك الكيان الصهيوني الذي يهدد الجنوب السوري
باجتياحاته المتكررة،
كما أنه يتحالف مع الدروز، ويمنع الجيش السوري من حسم التمرد الدرزي في السويداء.
ويخشى التحالف السوري التركي من حسم مشكلة قسد عسكريًا، قبل الانتهاء من حسم ملف
تدخلات الكيان في سوريا. لأنه في حال التدخل المشترك للقوات التركية والسورية في
مناطق قسد، من المعتقد أن يتدخل الكيان عسكريًا ليسيطر على الجنوب السوري بأكمله
متذرعًا بالتدخل التركي العسكري المنتظر في شمال شرق سوريا.
فالتحالف بين أمريكا والكيان الصهيوني، يحاول استغلال ورقة قسد للضغط على نظام
الشرع لتطويعه، وفق أهداف الحلف الصهيوني الأمريكي.
والكيان الصهيوني له مصلحة في إبقاء سوريا مفككة وغير موحدة، خاصة مع ذهاب حليفه
القديم نظام الأسد ومجيء نظام جديد، تعتبره الدولة الصهيونية مقدمة لتحالف سني في
المنطقة.
هذا التحالف من وجهة نظر الصهاينة يريد الاستقرار وتجاوز مرحلة البناء ليستدير إلى
دولة الكيان ليشكل تهديدا وجودها لها.
وقد تعززت شكوك الكيان مع التأثير الكبير لتركيا في المشهد السوري، وتبني الحكم
السعودي للنظام الجديد ودعمه في مختلف المجالات خاصة الاقتصادي.
ويقوم المبعوث الأمريكي إلى سوريا توم باراك بدور الوسيط بين سوريا والكيان
الصهيوني.
ففي ظل رفض الحكومة السورية التطبيع مع الكيان، يضغط باراك بتصريحاته المتوارية،
والتي مضمونها غير المباشر،
يتلخص في ربط حل مشاكل قسد
والدروز بتعاون النظام السوري مع الكيان، وربما الاعتراف بوجود عسكري صهيوني جديد
في جبل الشيخ، والذي يطل على العاصمة دمشق، وهذا ما يرفضه الشرع ويصر على الانسحاب
الصهيوني منه. فالنظام السوري واقع في كماشة أو بين شقي الرحى، بين أمريكا والكيان.
هل هناك حلول وسط مطروحة؟
ربما وهذا الذي دفع المبعوث الأمريكي في منتدى المنامة الذي عقد هذا الأسبوع إلى
التصريح بأن المفاوضات بين الحكومة السورية والأكراد تتقدم بشكل ممتاز، وهو يقول
هذا التصريح في نفس الوقت الذي تتزايد فيه معدلات التوغل العسكري الصهيوني في
الجنوب السوري.