تُسلط الخطبة الضوء على دعوات الخليل إبراهيم (عليه السلام) كنماذج للتوحيد والإخلاص لله، مع التأكيد على أن الإسلام هو الدين الوحيد الصحيح الذي خُتم به النبوة، ورفضها التام لأي دين آخر أو مزاعم "صحة" الأديان السماوية، مُحذرةً من الشرك والتسوية بين التوحيد و
الحمد لله العليم الحكيم،
البر الرحيم؛ هدى من شاء من عباده للإيمان واليقين، وخُذل عن الإيمان به أهل
الجحيم، نحمده على ما هدانا واجتبانا، ونشكره على ما أعطانا وأولانا، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له؛ العظيم في ربوبيته، المستحق لعبوديته، الكامل في
أسمائه وصفاته، الحكيم في أفعاله، العدل في قضائه، الرحيم بعباده، الخير منه وإليه،
والشر ليس إليه، تبارك وتعالى، وعز وجل، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛
«كَانَ
يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى: أَصْبَحْنَا
عَلَى
فِطْرَةِ
الْإِسْلَامِ،
وَعَلَى كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه
وسلم، وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ»
ليربي أمته على الإيمان والتوحيد، واتباع ملة الخليل، صلى الله وسلم وبارك عليه
وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتمسكوا بدينه، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه؛ فإنكم
على دين الحق ﴿وَمَنْ
أَحْسَنُ
دِينًا
مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾
[النساء: 125].
أيها الناس:
أمر البشر باتباع ملة الخليل إبراهيم عليه السلام، ووصفت ملته بأنها أحسن الدين،
وأمر النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم بها، وهو أمر لأمته من بعده ﴿ثُمَّ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ
مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
[النحل: 123]. فلا عجب إذن أن تذكر قصص الخليل عليه السلام وأخباره وأوصافه وأقواله
في القرآن الكريم، وأن تسمى سورة باسمه. وفي سورة إبراهيم ذكر لأدعية مباركة دعا
بها الخليل عليه السلام، بدئت بقول الله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ
اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ
الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35]. فدعا الخليل بأمن البيت الحرام؛ لأنه بيت الرب
سبحانه، ومحل الحج والعمرة؛ فإذا أمن توافد الحجاج والعمار عليه؛ فعُمِرَ بطاعة
الله تعالى، وقد استجاب الله تعالى دعوة الخليل عليه السلام؛ فجعل البيت الحرام
آمنا قدرا وشرعا. أما قدرا فإن أهله كانوا آمنين والحروب تحيط بهم من كل جانب، ولم
يكن فيه خوف إلا في فترات قليلة من تاريخه لا تكاد تذكر، وفي ذلك يقول الله تعالى
ممتنا على أهل مكة ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا
حَرَمًا
آمِنًا
وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾
[العنكبوت: 67]، فجعل سبحانه في قلوب المشركين هيبة من انتهاك حرمة الحرم؛ فيرى فيه
الرجل قاتل أبيه فلا يقتله تعظيما للحرم، وأما شرعا فإن مكة محرمة بتحريم الله
تعالى لها؛ كما حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم قَالَ:
«إِنَّ
اللهَ
حَرَّمَ
مَكَّةَ،
فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا
أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ
شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا
لِمُعَرِّفٍ»
رواه البخاري.
ثم دعا الخليل له ولذريته
بمجانبة عبادة الأصنام، وهو الموحد الذي كسر الأصنام بيده، ودعا إلى التوحيد، ومع
ذلك يخاف من الشرك، بسبب سرعة الناس في الإشراك، وفتنتهم بالأصنام؛ فقال الخليل
عليه السلام ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ
تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
[إبراهيم: 36]. وكان إبراهيم التيمي يقول:
«مِنْ
يأمن
البلاء
بعد قول إبراهيم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ إِنَّ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ».
ودعا الخليل عليه السلام
للحرم بأن يقصده الناس حجاجا وعمارا، ودعا لأهله بالرزق ﴿رَبَّنَا إِنِّي
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾
[إبراهيم: 37]، والمراد بإسكان ذريته قرب البيت الحرام وضعه لهاجر ورضيعها إسماعيل
عليهما السلام في ذلك الوادي المهجور بأمر الله تعالى، ثم قفى إلى الشام، ورضيت
هاجر لما علمت أن الله تعالى هو الذي أمره بذلك وقالت:
«إِذَنْ
لَا
يُضَيِّعُنَا»،
وجزيت على هذه الكلمة العظيمة بنبع زمزم، ونبوة ولدها إسماعيل عليه السلام، وكان من
نسلها خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.
واستجاب الله تعالى دعوة
الخليل، فعمرت مكة، ووفد الناس إليها من أقطار الأرض حجاجا ومعتمرين، وجبيت إليها
الأرزاق من شتى البلدان؛ كما قال تعالى ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا
آمِنًا
يُجْبَى
إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾
[القصص: 57]، وقال في قريش ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي
أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ
مِنْ
خَوْفٍ﴾
[قريش: 3-4]. ولأن ما في القلوب لا يعلمه إلا الله تعالى، ومقاصد العباد في
أدعيتهم خفية؛ فإن الخليل عليه السلام استحضر علم الله تعالى بما في القلوب فدعا
قائلا: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى
عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [إبراهيم: 38]،
«أي:
أنت أعلم بنا منا، فنسألك من تدبيرك وتربيتك لنا أن تيسر لنا من الأمور التي نعلمها
والتي لا نعلمها ما هو مقتضى علمك ورحمتك».
وتذكر الخليل عليه السلام
إنجابه للولد في كبره، وبعد يأس زوجه سارة رضي الله عنها؛ فحمد الله تعالى على هذه
النعمة العظيمة وقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ
إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم: 39]،
وذلك أن الخليل عليه السلام دعا ربه سبحانه يطلب الذرية؛ فسمع الله تعالى دعاءه،
واستجاب له، وأعطاه سؤاله، فحمد الله تعالى على ما أعطاه. ودعاؤه يطلب الولد أخبر
الله تعالى عنه في سورة الصافات حين دعا فقال: ﴿رَبِّ
هَبْ
لِي
مِنَ
الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾
[الصافات: 100-101].
ثم دعا الخليل عليه السلام
لنفسه ولذريته بإقامة الصلاة، ودعا بتقبل الدعاء، ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ
الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ [إبراهيم: 40].
وهذا يدل على عظيم أمر الصلاة. وإقامتها: إكمال شروطها وأركانها وواجباتها،
والخشوع فيها، والعناية بسننها، وأداؤها في وقتها، وحضور المسجد لأجلها، والديمومة
عليها إلى الممات. كما يدل على عظيم أمر الدعاء، وقد قال النبي صلى الله
عليه وسلم:
«إِنَّ
الدُّعَاءَ
هُوَ
الْعِبَادَةُ»
رواه أحمد. فسأل قبول الدعاء؛ لأنه عبادة يؤجر عليها، وقد يقبل الدعاء ولا يستجاب
لصاحبه، وقد يستجاب له ولا يقبل دعاؤه؛ كما لو دعا الكافر فأعطي ما سأل؛ فإنه لا
يقبل دعاؤه ولا يؤجر عليه.
وختم الخليل عليه السلام
دعاءه بسؤال الله تعالى المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين يوم القيامة ﴿رَبَّنَا
اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾
[إبراهيم: 41]، ودعوته لوالده كانت عن موعدة وعدها إياه، قبل أن يعلم أنه
عدو لله ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ
عَدُوٌّ
لِلَّهِ
تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾
[التوبة: 114]. وهذا الدعاء من أجمع الدعاء وأعظمه؛ لأنه دعاء بالمغفرة للنفس
والوالدين والمؤمنين، فمن التأسي بالخليل عليه السلام الإكثار من هذا الدعاء، ربنا
اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
وأقول قولي هذا وأستغفر
الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا
مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم
إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:
281].
أيها المسلمون:
أعظم موضوع تضمنته دعوات الخليل عليه السلام الدعاء بمجانبة الشرك، ولازمه الإقامة
على التوحيد إلى الممات، وهي القضية التي كرس الخليل عليه السلام حياته كلها لها،
وقذف في النار بسببها، وفارق قومه مهاجرا إلى الله تعالى لأجلها.. إنها قضية
القضايا، وأساس وجود البشر، وعلة خلقهم ﴿وَمَا
خَلَقْتُ
الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
[الذاريات: 56].
والحيدة عن دعوة الخليل
عليه السلام هي حيدة عن التوحيد إلى الشرك، والزعم بصحة الأديان السماوية خلط للشرك
بالتوحيد؛ فإن اليهود والنصارى ادخلوا عقائد الشرك في دينهم، وحرفوا كتبهم، ولم
يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ حسدا له وللعرب إذ كان منهم، فكيف يدعي مدع بصحة
أديانهم، والله تعالى كفرهم في القرآن، وحكم عليهم بالنار ما داموا على أديانهم
المحرفة، وما داموا يزعمون لله تعالى الولد ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ
ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ
بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ
اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾
[التوبة: 30]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«وَالَّذِي
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ
لَا
يَسْمَعُ
بِي
أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ
وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»
رواه مسلم.
وأبعد من هؤلاء من زعموا
أن كل الأديان تؤدي إلى الله تعالى، فجعلوا عباد الأوثان من الهندوس والبوذيين
والمشركين كعباد الرحمن، وفي هذا تسوية للشرك بالتوحيد، والكفر بالإسلام، والنفاق
بالإيمان، وهو المنهج الضال الذي حاربه الخليل عليه السلام، وحاربه نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم، وحاربه سائر الرسل عليهم السلام، وحكى الله تعالى عن الخليل أنه
قال ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ
لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 78-79]، فهو دين واحد، هو دين الإسلام، وهو دين
الخليل وجميع الرسل، وبه ختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿إِنَّ
الدِّينَ
عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل
عمران: 19] ﴿وَمَنْ
يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ﴾
[آل عمران: 85]. وصلوا وسلموا على نبيكم...