تدرك الصين أن سياسات ترامب المتهورة تحت شعار "أمريكا أولًا" تنفّر الحلفاء القدامى والجدد على السواء، وتخلق فراغًا في القيادة الدولية تسعى الصين لملئه. لقد تراجع النفوذ الأمريكي بشكل ملحوظ، وهو ما تعكسه التصدعات في التحالفات الأوروبية والآسيوية.
بقلم: سايمون تيسدال
المصدر صحيفة الغارديان
في الأسبوع الماضي، وبينما كان دونالد ترامب يعقد مؤتمره الإعلامي في شرم الشيخ،
بدا في ذروة نزوعه إلى التفاخر المفرط، مقدِّمًا نفسه بصفته
“منقذ
غزة” الخارق،
وممتدحًا زملاءه من
“الرجال
الأقوياء”
–مثل عبد
الفتاح السيسي
– الذين
أسهموا في إخراج اتفاقه الهشّ لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس.
غير أن ترامب،
“الرئيس
الفرعوني الأمريكي”،
سيواجه في وقت لاحق من هذا الشهر خصمًا أكثر صلابة وأقل قابلية للتطويع: الزعيم
الصيني شي جينبينغ. ورغم أن المراهنين قد يمتنعون عن وضع احتمالات واضحة لنتيجة
المواجهة، إلا أن موازين القوى تبدو محسومة: ففي سباق الهيمنة على القرن الحادي
والعشرين، يبدو أن "شي" يركض متقدمًا، مدفوعًا بأخطاء ترامب الكثيرة والمتكرّرة.
من المدهش أن الجدل لا يزال قائمًا في بريطانيا والولايات المتحدة حول طبيعة النظام
الصيني وأهدافه. فالنظام الذي ينخرط في توسع اقتصادي عالمي عدواني، ويقمع الحقوق
الأساسية في هونغ كونغ وشينجيانغ والتبت، ويهدد استقرار المنطقة، ويزاول أنشطة
تجسّسية إلكترونية على نطاق واسع، لا يمكن وصفه إلا بأنه نظام توسعي عدائي.
وفيما كان النواب البريطانيون يتجادلون حول ما إذا كانت الصين
“عدوًا
أم فرصة استثمارية”،
كانت بكين تقدم الإجابة بالفعل. إذ إن توسيعها الكبير لنظام القيود على تصدير
المعادن النادرة والمغناطيسات
– وهي
موارد تحتكر الصين إنتاجها تقريبًا
–
يمثل عملًا عدائيًا متعمَّدًا من قبل قوة معادية.
هذه المواد ضرورية في تصنيع معظم الأجهزة الإلكترونية الحديثة، بما في ذلك الهواتف
والسيارات. أما أمنيًا، فالأمر أكثر خطورة، إذ تُستخدم منتجات المعادن النادرة في
صناعة الصواريخ الموجهة والطائرات المقاتلة والغواصات النووية والطائرات المسيّرة
وغيرها من أنظمة التسليح المتقدمة. ووفقًا للقواعد الجديدة، ستُحظر أي استخدام لهذه
المواد في الأغراض العسكرية. وقد بدأت الحكومات الغربية بالفعل في البحث عن مصادر
بديلة، إذ إن هذا الحظر
– إن
نُفِّذ الشهر المقبل
– سيؤثر
سلبًا في إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا وقدرات الدفاع الغربية في مواجهة روسيا،
حليفة الصين.
وتسعى بكين كذلك إلى فرض سيطرتها على استخدام هذه المواد في سلاسل التصنيع العالمية
والشركات المقامة خارج أراضيها. والجدير بالذكر أن الولايات المتحدة مارست سياسات
مماثلة منذ عام 1959، لكن الصين اليوم تُعيد تطبيق القواعد الأمريكية نفسها
بأسلوبها الخاص، مستخدمة أدوات التجارة كسلاح لتحقيق أهداف سياسية.
عندما أُعلنت هذه الإجراءات، فقد ترامب أعصابه، وهدد بفرض رسوم جمركية بنسبة 100%
وبإلغاء لقائه المرتقب مع شي جينبينغ. غير أن حالة الذعر في الأسواق أجبرته على
التراجع، وإن ظلت إجراءات العقاب التجاري المتبادلة مستمرة، مما أجّج المخاوف من
ركود اقتصادي عالمي جديد.
كالعادة، لا يمتلك ترامب خطة ولا رؤية واضحة. أما شي، فله حساباته الدقيقة. فهو
يُظهر أنه إن أصر ترامب على خوض حرب تجارية شاملة، فالصين مستعدة لمواجهته بندّية
كاملة.
وقد تكون خطوة المعادن النادرة ورقة تفاوضية أو نتاجًا لصراعات داخلية في الحزب
الشيوعي الصيني، غير أن هذا مجرد تفاؤل مبالغ فيه. فالمحللون يلمحون إلى تحوّل
استراتيجي جوهري: بعد أن التزم "شي" الحذر لسنوات، بات اليوم في موقع الهجوم.
ما الذي دفع إلى هذا التحول؟
تتمثل الإجابة في إدراك بكين أن سياسات ترامب المتهورة تحت شعار
“أمريكا
أولًا” تنفّر
الحلفاء القدامى والجدد على السواء، وتخلق فراغًا في القيادة الدولية تسعى الصين
لملئه. لقد تراجع النفوذ الأمريكي بشكل ملحوظ، وهو ما تعكسه التصدعات في التحالفات
الأوروبية والآسيوية، والعجز في مواجهة الأنظمة السلطوية في روسيا وإسرائيل، وتقلص
المساعدات الخارجية الأمريكية، وانحسار قوتها الناعمة، فضلًا عن ازدرائها لمؤسسات
الأمم المتحدة والنظام الدولي القائم على القواعد.
في ظل هذا الفراغ، تجد الصين نفسها أمام
“مرمى
مفتوح”. فبينما
يمارس "شي" البراغماتية الصلبة، يواصل ترامب أداءه الاستعراضي الفارغ
–
في مفارقة تفضح الاختلال في ميزان القيادة بين الطرفين. ومع ذلك، لا يزال بعض
الساسة في واشنطن عاجزين عن إدراك الواقع. فقد صرّح السيناتور "جي. دي. فانس"
مؤخرًا بأن
“رئيس
الولايات المتحدة يمتلك أوراقًا أكثر من جمهورية الصين الشعبية”.
لكن لو كان هذا الرأي طاولةَ قمار، لكان فانس الخاسر بلا شك.
هل يدرك فانس، على سبيل المثال، أن الصين
–
وفقًا لتقديرات مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)
–
“تعمل
على توسيع قدرتها الإنتاجية في مجال الذخائر والأسلحة المتقدمة بمعدل أسرع بخمس إلى
ست مرات من الولايات المتحدة، بفضل وصولها غير المحدود إلى المعادن النادرة”؟
وهل يعلم أن الولايات المتحدة تخسر الحرب التجارية التي بدأتها بنفسها؟ فكما أشار
"جيمس بالمر" في مجلة فورين بوليسي:
“منذ
إطلاق ترامب للحرب التجارية هذا العام، نجح المصدّرون الصينيون في إيجاد أسواق
جديدة، إذ تراجعت الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة بنسبة 27%، في حين ارتفعت
الصادرات الإجمالية بنسبة 8.3%”.
أما المزارعون الأمريكيون، فقد فقدوا سوقهم الحيوية لتصدير فول الصويا إلى الصين
لصالح المنتجين البرازيليين
–
ربما إلى الأبد. ومع اقتراب موسم الأعياد، يواجه المستهلك الأمريكي ارتفاعًا في
الأسعار، إذ إن معظم الألعاب ونحو 90% من السلع المرتبطة بموسم عيد الميلاد تُصنَّع
في الصين.
وبينما تتراجع الولايات المتحدة، تتقدم الصين بثبات، عاقدة العزم على أن تجعل من
نفسها قطبًا رئيسًا في نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. وقد أبرزت القمم التي
استضافتها مؤخرًا، بمشاركة زعماء روسيا والهند وكوريا الشمالية وإيران، هذا الاتجاه
نحو إعادة تشكيل النظام الدولي وفق النموذج الصيني.
كما تعزز بكين نفوذها عبر مجموعة
“بريكس”،
ومن خلال دعمها لمنظومة الأمم المتحدة المتهالكة، وإنشاءها أطرًا مؤسسية جديدة
لاستقطاب دول الجنوب العالمي.
وفي حين يرفع ترامب الرسوم الجمركية، تعلن الصين إعفاء الواردات الإفريقية من
الجمارك. وبينما يقلص ترامب المساعدات الخارجية، تطلق بكين
“مبادرة
التنمية العالمية”.
وبينما يهدد ترامب بضرب جيران مثل فنزويلا، يروّج شي لمبادرة
“الأمن
العالمي”. في كل
اتجاه، تخسر الولايات المتحدة موقعها الجيوسياسي والأخلاقي.
يرى بعض المحللين أن شي لا يسعى بالضرورة إلى
“حكم
العالم”، وأن
العالم ذاته لا يرغب في نظامه السلطوي. فهم يؤكدون أن أولوياته لم تتغير: الحفاظ
على الاستقرار الداخلي، والسيادة الوطنية، وسيطرة الحزب الشيوعي، والتنمية
الاقتصادية والاجتماعية.
غير أن واقع سلوكياته المتزايدة جرأة وثقة بالنفس، بعد أكثر من عقد في الحكم، يناقض
هذه الرؤية المطمئنة. وعلى الأرجح، فإن الصراع الصيني الأمريكي من أجل الهيمنة
سيشتدّ حتمًا في السنوات المقبلة. وبفضل ترامب
–
الذي يبدو أقرب إلى
“الضحية”
منه إلى
“الرجل
القوي”
– يبدو أن
الولايات المتحدة في طريقها إلى الخسارة.
أما بالنسبة لبريطانيا، فالمشهد لا يبشّر بخير. فبعد أن ازدراها الصينيون،
وتجاهلتها واشنطن، وانفصلت عن أوروبا، لم يتبقَّ لها سوى دور المتفرج العاجز، الذي
يأمل فقط ألا يُصيبَه ضرر جانبي في لعبة القوى الكبرى.