وعلى المؤمن أن يجتهد في حمد الله تعالى، ويختار من المحامد أبلغها وأحسنها. وأبلغ المحامد وأحسنها ما جاء في القرآن الكريم؛ فإنه كتاب حمد لله تعالى، وفيه كثير من صيغ الحمد. وكذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حمده لله تعالى؛ فإن النبي صلى الله عليه و
الحمد لله الذي حمد نفسه في كتابه، وحمده نبيه في سنته، وحمده المؤمنون من خلقه؛
فهو سبحانه المحمود في الأرض وفي السماء، المعبود إلى آخر الزمان، وأشهد أن لا إله
الله وحده لا شريك له؛ عدد ما حمده الحامدون، وذكره الذاكرون، وسبحه المسبحون،
وهلله المهللون، ودعاه الداعون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعرف الخلق بالله
تعالى، وأشدهم به تعلقا وتوكلا، وأكثرهم له حمدا وشكرا؛ فيذكر الله تعالى في كل
أحيانه، ويسبحه في غدوه وآصاله، ويحمده في كل أحواله، صلى الله وسلم وبارك عليه
وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى
وأطيعوه، واذكروه كما هداكم، واحمدوه كما اجتباكم، واشكروه على ما أعطاكم، ولن يبلغ
عبد حمد الله تعالى وشكره على نعمه مهما حمده، ولكن العباد مأمورون بحمده وإن عجزوا
عن تمام الحمد ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
[التغابن: 1].
أيها الناس: ليس أحد أحق بالحمد من
الله تعالى، ولا أحد يحمد لذاته إلا الله تعالى، وكل مخلوق محمود فإنما يحمد لصفاته
وأفعاله، وكل حمد لله تعالى من المؤمنين فهو من الله تعالى، أنعم عليهم بنعمة حمده
حين عرفهم إليه، وحببهم فيه، وكشف لهم شيئا من أسمائه وصفاته وأفعاله التي دلت على
عظمته وقدرته ورحمته وحكمته وعدله، فحمدوه بها، وهو سبحانه الذي هداهم لحمده. ومن
قرأ القرآن الكريم وجد فيه آيات كثيرة حمد الله تعالى فيها نفسه، في مقامات عدة:
فمن مقامات حمد الله تعالى لنفسه: حمده
لنفسه سبحانه في مقام إثبات الربوبية كما في سورة الحمد، في أول آية منها؛ ليفتتح
القرآن الكريم بحمده سبحانه لنفسه على ربوبيته ﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
[الفاتحة: 2]. وقال تعالى ﴿فَلِلَّهِ
الْحَمْدُ
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
[الجاثية: 36]. ومن دلائل الربوبية: الخلق؛ ولذا كرر في القرآن حمد الله تعالى
لنفسه على صفة الخلق؛ كما افتتح بذلك سورتي الأنعام وفاطر؛ فقال تعالى ﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾
[الأنعام: 1]، وقال تعالى ﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ
فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي
أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فاطر:
1]. ومن دلائل ربوبيته: تمام ملكه سبحانه وتعالى؛ ولذا حمد سبحانه نفسه على ملكه؛
فقال تعالى ﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ
الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [سبأ:
1].
ومن مقامات حمد الله تعالى لنفسه:
حمده لنفسه في مقام إثبات الألوهية، ومن ذلك قوله سبحانه ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ
الْحَمْدُ
فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
[القصص: 70]، وأمر العباد بإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، ثم حمد نفسه على ذلك؛
كما في قول الله تعالى ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر:
65]، وحمد نفسه سبحانه في معرض بيان الفرق بين الموحد والمشرك؛ فقال سبحانه ﴿ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا
لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا
الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾
[الزمر: 29]. وسورة الصافات فيها إثبات ربوبية الله تعالى وألوهيته، وبدئت بذلك ﴿وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ
لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ
الْمَشَارِقِ﴾ [الصافات: 1-5]،
وفيها قصة الخليل عليه السلام حين نابذ قومه على الشرك ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ *
فَمَا
ظَنُّكُمْ
بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
[الصافات: 85-87]، وفيها قصص نوح وإسماعيل وموسى وهارون وإلياس ولوطا ويونس عليهم
السلام، وتقريرهم لربوبية الله تعالى وألوهيته، ثم ختمت هذه السورة بحمد الله تعالى
لنفسه ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ *
وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
﴾
[الصافات: 180-182].
ومن مقامات حمد الله تعالى لنفسه: حمده
لنفسه في مقام إنزال القرآن الكريم، والإخبار عن كونه كتابا قيما لا عوج فيه ﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا
* قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾
[الكهف: 1-2].
ومن مقامات حمد الله تعالى لنفسه: أمره
بحمده في مقام إثبات أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وبذلك ختمت سورة الإسراء ﴿قُلِ
ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى وَلَا
تَجْهَرْ
بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * وَقُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي
الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾
[الإسراء: 110-111]. وتسمَّى ربنا سبحانه وتعالى بالحميد،
«أي:
المحمودُ في جميعِ أفعالِه وأقوالِه، وشَرْعِه وأمْرِه ونَهْيِه، الصَّادِقُ في
خَبَرِه»، فهو
سبحانه المحمود
«المستحِقُّ
لكُلِّ حمدٍ ومحبَّةٍ وثناءٍ وإكرامٍ؛ وذلك لِما اتَّصَف به من صِفاتِ الحَمدِ،
التي هي صِفةُ الجمالِ والجَلالِ، ولِمَا أنعَمَ به على خَلْقِه مِنَ النِّعَمِ
الجِزالِ؛ فهو المحمودُ على كُلِّ حالٍ».
والآيات في اسمه الحميد كثيرة جدا، منها قول الله تعالى ﴿لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ﴾
[لقمان: 26]، وقوله تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا
قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ
الْحَمِيدُ﴾
[الشورى: 28]، وقوله تعالى ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ﴾
[البروج: 8].
«اللهُمَّ
لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ كُلُّهُ،
إِلَيْكَ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، عَلَانِيَتُهُ وَسِرُّهُ، فَأَهْلٌ أَنْ
تُحْمَدَ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى
آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله وأطيعوه، وأكثروا من حمده؛ فإنه سبحانه المستحق للحمد كله ﴿فَسُبْحَانَ
اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ
الْحَمْدُ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾
[الروم: 17-18].
أيها المسلمون: لما كان الخلق كلهم
عاجزين عن بلوغ تمام الحمد لله تعالى؛ فإنه سبحانه حمد نفسه الحمد الذي يليق به،
وعلّم عبده كيف يحمدونه بما حمد به نفسه، فهو سبحانه محمود قبل أن يخلق الخلق،
ومحمود بخلقهم وتربيتهم، ومحمود أبدا؛ فلا ينقطع حمده، ولا يبلغ أحد من الخلق تمام
حمده؛ كما قال أعلم الخلق به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في دعائه في تهجده في
سجوده «اللَّهُمَّ
أَعُوذُ
بِرِضَاكَ
مِنْ
سَخَطِكَ،
وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً
عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»
رواه مسلم. فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم بالعجز عن إحصاء حمد الله
تعالى، وإحصاء الثناء عليه، فرد الحمد والثناء إلى الله تعالى؛ ليبلغ تمام الحمد،
وكمال الثناء
«وَكُلُّ
ثَنَاءٍ أَثْنَى بِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَثُرَ وَطَالَ وَبُولِغَ فِيهِ؛ فَقَدْرُ
اللَّهِ أَعْظَمُ، وَسُلْطَانُهُ أَعَزُّ، وَصِفَاتُهُ أَكْبَرُ وَأَكْثَرُ،
وَفَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ أَوْسَعُ وَأَسْبَغُ».
وعلى المؤمن أن يجتهد في حمد الله تعالى، ويختار من المحامد أبلغها وأحسنها. وأبلغ
المحامد وأحسنها ما جاء في القرآن الكريم؛ فإنه كتاب حمد لله تعالى، وفيه كثير من
صيغ الحمد. وكذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حمده لله تعالى؛ فإن النبي
صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله تعالى، وقد فتح الله تعالى عليه من محامده ما
لم يفتح لغيره؛ منةً من الله تعالى عليه وعلى أمته؛ ليحمدوه بتلك المحامد. وليحذر
العبد من التزام محامد مخترعة مسجوعة، قد يكون فيها ألفاظ محرمة أو مبهمة أو مجملة،
لا تليق بالله تعالى، وفي المأثور من محامد الله تعالى ما يكفي عن المبتدع منها،
قال ابن مسعود رضي الله عنه:
«اتَّبِعُوا
وَلَا
تَبْتَدِعُوا،
فَقَدْ كُفِيتُمْ».
وصلوا وسلموا على نبيكم...