تتعرض منظومة الوقف الإسلامي في الهند لحملة قانونية ممنهجة من الحكومة الهندية، هدفها السيطرة على هذه الثروة الوقفية التي استُخدمت لقرون في تحقيق الأهداف الدينية والتنموية. وقد دفع ذلك المسلمين إلى الدفاع عن إرثهم التاريخي ورفض الخضوع لقوانين توصف بأنها تحم
شهدت الهند في الآونة
الأخيرة حركة احتجاجية كبيرة ضد قانون الوقف (المعدل) لسنة 2025، الذي صدر عن حكومة
ناريندر مودي، والذي يرى فيه الكثيرون من قيادات المسلمين مخاطر جسيمة على
استقلالية مؤسساتهم الدينية ومساحاتهم الوقفية والثقافية. وقد تولت الاحتجاجات في
كافة الولايات الهندية، ولكن كانت القمة في مدينة بتنه بولاية بهار، حيث اصطفت
الجماهير في ميدان غاندي لترفض هذا القانون وتطالب بسحبه الفوري.
الوقف في الهند الإرث
والتحديات
الوقف الإسلامي في الهند
يمتد تاريخه إلى قرون، وهو يمثل منظومة خيرية واجتماعية تقوم على تخصيص ممتلكات
لخدمة الفقراء، واليتامى، والمؤسسات الدينية،
والتعليمية. وقد حافظت المجتمعات الإسلامية في شبه القارة الهندية على هذا النظام
باعتباره من صميم الهوية الدينية والاجتماعية.
غير أن هذه المؤسسة باتت
هدفاً لتعديلات قانونية متكررة، غالباً ما توصف بأنها تحمل أجندات سياسية تهدف
للهيمنة على الموارد الوقفية، مما يهدد الاستقلال المالي والتشغيلي للمؤسسات
الإسلامية.
قانون الوقف (المعدل)
لسنة 2025
صدر هذا القانون بعد
تمريره في البرلمان الهندي في أبريل 2025، ويتضمن مجموعة من التعديلات التي اعتبرها
الكثيرون تجاوزاً خطيراً على الصلاحيات التقليدية لمجالس الوقف المحلية، حيث يعطي
للحكومة المركزية سلطات واسعة في مراجعة، ومصادرة، وتغيير وجهات استخدام أراضي
وأملاك الوقف.
ومن أخطر ما تضمنه القانون
هو اشتراط "إثبات ملكية الوقف" لكل العقارات الوقفية القديمة، الأمر الذي فُسّر على
أنه محاولة لسحب الشرعية عن كثير من المساجد والمدارس الإسلامية التي قامت منذ قرون.
احتجاجات بتنة
في يوم الأحد 29 يونيو
2025، تجمعت حشود ضخمة في ميدان غاندي بمدينة بتنة، فيما وصف بأنه "أكبر تجمع شعبي
في البلاد" ضد قانون الوقف المعدل. وقد دعت إلى هذا الحشد منظمة "أمارت الشريعة"
التي تعد من أبرز المؤسسات الإسلامية في شرق الهند.
شارك في الاحتجاج مسلمون
من مختلف الأعمار والطبقات، من ولايات بهار، جهارخند، أوديشا، والبنغال الغربية.
ومن أبرز المتحدثين في التجمع:
·
مولانا أحمد ولي فيصل رحماني، أمير الشريعة، قال: "هذا القانون يمثل اعتداءً
مباشراً على حرياتنا الدينية، ولن نقبل به. سنستمر في نضالنا حتى يتم سحبه بالكامل."
·
تيجسوي ياداف، زعيم المعارضة في بهار، قال في خطابه: "هذا البلد ليس ملكاً لأحد.
لقد ساهم الجميع في نيل استقلاله، ولن نسمح بسلب حقوق الأقليات باسم القوانين."
·
سلمان خورشيد، الزعيم البارز في حزب المؤتمر، أكد أن: "ما يحدث هو استهداف مباشر
للمجتمع الإسلامي، وهو انتهاك لمبادئ الدستور."
·
عمران برتاب غڑھی، عضو راجيا سبها، اعتبر أن: "قانون الوقف المعدل يعكس نزعة
استبدادية، لا مكان لها في نظام ديمقراطي."
·
ديبانكر بهاتاشاريا، زعيم الحزب الشيوعي، وصف التعديلات بأنها "خطوة في اتجاه تهميش
الأقليات وإضعاف المؤسسات الشعبية."
مواقف متباينة من
الأحزاب
في حين وقف تحالف المعارضة
(المعروف بـ"المهاغات بندهن") إلى جانب المحتجين، فإن حزب بهاراتيا جانتا الحاكم
دافع عن القانون، مدعياً أنه يهدف إلى "تنظيم الوقف ومنع الفساد فيه".
|
ما لا يمكن تجاهله هو أن هذا الحراك يمثل تحولاً في وعي الأقلية المسلمة،
ورفضاً صريحاً لمحاولات التهميش. وإذا ما استمرت هذه الحركة الشعبية بنفس
الزخم، فإنها قد تتحول إلى نقطة تحول في العلاقة بين الدولة والأقليات في
الهند. |
لكن المعارضين يرون أن هذا
التبرير ليس إلا غطاء لسياسات تهدف إلى السيطرة على أراضي وممتلكات تابعة للمسلمين.
خاصة أن القانون يمنح الحكومة صلاحيات التدخل المباشر في أملاك كانت تاريخياً خاضعة
لقرارات المجتمعات المحلية.
الاحتجاج بين السياسة
والدستور
أبرز ما يميز هذا الحراك
هو طابعه الدستوري، فقد رفع المحتجون شعارات من قبيل: "الوقف حق دستوري"، و"حافظوا
على روح الدستور"، و"هذا القانون ضد التعددية". كما أن الاحتجاجات لم تقتصر على
قادة سياسيين، بل شارك فيها علماء دين، ومثقفون، وطلاب جامعات، وناشطون حقوقيون.
ردود الفعل من الحكومة
كانت متحفظة في البداية، لكنها بدأت تشعر بالقلق مع تصاعد الاحتجاجات. وهناك تقارير
تفيد بأن بعض نواب الحزب الحاكم في بهار أبدوا تعاطفهم مع مطالب المحتجين، وهو ما
قد يعكس انقسامات داخلية في صفوف الحزب نفسه.
الأبعاد القانونية
والدستورية
يرى خبراء القانون أن
التعديلات الجديدة قد تتعارض مع:
1.
المادة 25 من الدستور الهندي التي تكفل حرية العقيدة والممارسة الدينية.
2.
المادة 26 التي تضمن حق إدارة الشؤون الدينية.
3.
أحكام المحكمة العليا التي أكدت مراراً على استقلالية مؤسسات الأقليات.
وقد تم تقديم أكثر من 300
عريضة إلى المحكمة العليا للطعن في دستورية القانون، والمحكمة ما تزال تنظر في
القضية، مما يفتح الباب لمواجهة قانونية شاملة.
وبرزت
منظمة إمارت الشريعة كقوة شعبية مهمة، إذ لم تكتف بإصدار بيانات، بل نظمت لقاءات
جماهيرية، وفعاليات ميدانية في أكثر من ولاية. كما رفضت المشاركة في إفطار الحكومة
خلال شهر رمضان، في خطوة احتجاجية غير مسبوقة.
الرسائل الرمزية والسياسية:
يحمل هذا الحراك عدة رسائل
مهمة:
·
أن الأقليات المسلمة في الهند ليست مستعدة للصمت أمام ما تعتبره تهديداً وجودياً.
·
أن قضايا الوقف لم تعد شأناً دينياً فحسب، بل أصبحت رمزاً للحقوق الدستورية.
·
أن الشارع قادر على الضغط السياسي حتى في ظل برلمان تهيمن عليه الأغلبية.
هل تتكرر تجربة
قوانين الزراعة؟
يشير البعض إلى تجربة
قانون الزراعة الذي تم سحبه بعد احتجاجات طويلة في 2021، معتبرين أن الضغط الشعبي
قد يؤدي إلى نتائج مشابهة. ويرى آخرون أن الوضع أكثر تعقيداً بسبب الخلفيات الدينية
والسياسية للقضية.
لكن ما لا يمكن تجاهله هو أن هذا الحراك يمثل تحولاً في وعي الأقلية المسلمة،
ورفضاً صريحاً لمحاولات التهميش. وإذا ما استمرت هذه الحركة الشعبية بنفس الزخم،
فإنها قد تتحول إلى نقطة تحول في العلاقة بين الدولة والأقليات في الهند.
إن القضية لم تعد فقط حول
العقارات، بل حول معنى المواطنة، واحترام التعددية، وسيادة الدستور.
فمن
الضروري
أن يتم سحب قانون الوقف المعدل فوراً، وفتح حوار وطني شامل مع قيادات دينية وسياسية
حول إدارة الوقف، وتعزيز دور المؤسسات المستقلة لمراقبة وحماية أملاك الوقف، وتحصين
حقوق الأقليات دستورياً عبر قرارات تشريعية واضحة.
وقضية
الوقف اليوم ليست مجرد ملف عقاري، بل معركة من أجل العدالة الدستورية، ومن أجل صون
التعددية الدينية والثقافية التي قامت عليها الهند الحديثة.
فعلى كل من يؤمن بالتعددية والتعايش أن يرى في هذا الحراك الشعبي مؤشراً حقيقياً
لوعي جماهيري يستحق الاحترام لا القمع.