الدولة العبرية التي أظهرت طوال الحرب اعتمادها الكلي على الولايات المتحدة تعيش أسوء لحظاتها تاريخياً بعد أن تعرت قدرتها العسكرية الحقيقية أمام أعدائها وحلفائها، وعليه فإن التعاطي معها مستقبلاً سيختلف عن السابق
منذ بداية السابع من
أكتوبر عام 2023 وحتى هذه اللحظة لا يزال الوسطاء يتناقلون المقترحات الصهيونية
والأمريكية بشأن كيفية انتهاء الحرب على قطاع غزة وغالباً تستهدف هذه المقترحات
عناوين رئيسية تركز على "إطلاق سراح الرهائن" و "نزع سلاح حماس" وبمعنى آخر التركيز
على المصالح الصهيونية العليا على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، فلم يتطرق أي مقترح
من المقترحات السابقة لإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين والحفاظ على مكتسبات هذه
الحرب السياسية، ولا شك رغم أن هذا الأمر يدعو إلى الأسف نتيجة الازدراء الصهيوني
للدبلوماسية العربية برمتها إلا أنه يؤكد بدون أدنى شك أن الكلمة العليا في هذه
الحرب هي كلمة المقاومة التي إلى يومنا هذا تشترط انسحابًا صهيونيًا كاملا ورفض نزع
سلاح المقاومة.
ما تسببت به معارك
الاستنزاف التي اندلعت منذ السابع من أكتوبر إلى يومنا هذا ليس فقط مجرد وقائع
ميدانية يمكن قراءتها بالأرقام بل أنتجت بناء هوية سياسية جديدة للصراع قائمة على
فشل صهيوني كبير في ضمان التفوق العسكري في المستقبل، ومن أبرز المؤشرات على ذلك
القائمة الطويلة في كافة القطاعات العسكرية داخل الدولة العبرية التي تطالب بوقف
الحرب وتصريح رئيس الأركان الجديد إيال زامير الذي أكد عدم قدرة الجيش على حسم
المعركة عسكرياً في غزة، فالدولة العبرية التي أظهرت طوال الحرب اعتمادها الكلي على
الولايات المتحدة تعيش أسوء لحظاتها تاريخياً بعد أن تعرت قدرتها العسكرية الحقيقية
أمام أعدائها وحلفائها، وعليه فإن التعاطي معها مستقبلاً سيختلف عن السابق ذلك
تحاول الاحتماء بتحالفها مع واشنطن لكن ما يجري اليوم لا يمكن أن يستمر مستقبلاً
فرئيس الوزراء الصهيوني السابق ايهود باراك أحد أبرز ثعالب الفلسفة العسكرية للجيش
الصهيوني صرح بأن بنيامين نتنياهو يقود البلاد إلى الهلاك في إشارة واضحة إلى حالة
الاستنزاف التي تعيشها المؤسسة العسكرية الصهيونية ليس من ناحية مادية بل من ناحية
عسكرية، فقد أظهرت إحصاءات قريبة أن أكثر من 30 في المائة من جيش الاحتياط يرفض
العودة إلى الخدمة.
أما المسار الآخر فهو على
الصعيد الخارجي فلعنة الجغرافيا التي لاحقت الفلسطينيين منذ نكبة عام 1948م
وأجبرتهم على الانصياع للمسارات السياسية التي يتخذها جيرانهم العرب تماشياً مع
مصالحهم وطبيعة صفقاتهم مع الدبلوماسية الغربية، أصبحت على حافة الهاوية في حال
قررت الولايات المتحدة المضي في مسارها والانسحاب من المنطقة لتعزيز مواجهتها
المصيرية مع الصين ولا شك أن هذا الأمر ظهر تأثيره جلياً في سوريا، فلأول مرة منذ
احتلال فلسطين تصبح إحدى دول الطوق غير خاضعة لمسار التطبيع العربي.
|
المقاومة تركز على استنزاف الدولة العبرية خارجياً وداخلياً وفضح جرائمها
وإعطاء مساحة زمنية كافية لتشكيل لوبيات دائمة للضغط على الدبلوماسية
الصهيونية وحلفائها |
بالإضافة إلى ما سبق فإن
المسار السياسي الحالي في الدولة العبرية يؤدي إلى مسارين كلاهما أسوء من الآخر،
والأول يشير إلى سيطرة الكهانية على مؤسسات الدولة مع عدم قدرتها على التأثير
لصالح نظام أوتوقراطي أيديولوجي توراتي سيعزز من العداء للعرب ويهدم بصورة كلية
حواضن التطبيع في المنطقة لصالح مواجهة متواصلة وبالتالي خسارة دبلوماسية كبيرة
للدولة العبرية ستنعكس على قوة تأثيرها في الخارج.
أو مسار الفوضى الذي
سينتج عن صراع سياسي مع الانتخابات المقبلة المقررة في أكتوبر 2026 في حال لم يتم
إجراء انتخابات مبكرة ستفرز قوى مشتتة ضعيفة تحتاج ائتلافات للحفاظ على تماسكها لأن
الدولة العبرية خسرت الجيل المؤسس في هيكلها السياسي ولم يتبقَ سوى جيل جديد من
الأحزاب السياسية الناشئة التي تركز على مصالحها بالإضافة إلى اليمين المتطرف.
لذلك تقول مجلة فورين
بوليسي الأمريكي: إن رئيس الوزراء الصهيوني بنيامن نتنياهو يدير الحرب لصرف انتباه
الرأي العام عن إخفاقاته ومحاكمته الجنائية الجارية والأهم من ذلك أن أحزاب اليمين
ترى بأن الحرب وسيلتها الوحيدة لتحقيق حلمها باحتلال غزة وتوسيع نهجها الاستيطاني
في سوريا ولبنان وحتى سيناء.
تعتمد المقاومة في غزة
استراتيجية جديدة منذ 2 مارس الماضي تركز على تجنب مهاجمة الجيش الصهيوني في مواقعه
بينما يواصل الجيش التركيز على القصف المدفعي والجوي واستهداف عناصر المقاومة
واغتيالهم بينما يرفض التوسع براً تجنباً للحظة الاحتكاك المباشر بالإضافة إلى جانب
آخر هو أن الجدار الزمني الذي شهد فشل العديد من خطط الدولة العبرية خلال قرابة
عامين من الحرب وأبرزها مشروع التهجير يشير إلى أن
المقاومة تركز على استنزاف الدولة العبرية خارجياً وداخلياً وفضح جرائمها وإعطاء
مساحة زمنية كافية لتشكيل لوبيات دائمة للضغط على الدبلوماسية الصهيونية وحلفائها، فمسار التطبيع الذي
لطالما سعى للتضحية بمصالح وحقوق الفلسطينيين أصبح غارقًا في مستنقع ليس فقط نهر
الدماء الذي صنعته جرائم الحرب الصهيونية في غزة بل أيضاً دبلوماسية الكيان الهشة
التي أظهرت ضعفها وتبعيتها لآلة الحرب الامريكية، فقد تحول الانتصار للحق الفلسطيني
من مشروع فلسطيني وعربي إلى مواجهة شاملة مع الصهيونية العالمية ليس أقل معاركها
المقاطعة الاقتصادية للممولين لآلة الجريمة الصهيونية، لذلك إن الرهان على أي تنازل
فلسطيني هو رهان خاسر وبينما تكشف الحرب خذلان قوى وتساقط أخرى تشهد أيضاً ملامح
هوية سياسية جديدة تتشكل في الشرق الأوسط ستكون نتيجة حتمية للضعف الأمريكي الذي
ظهرت أبرز ملامحه بالصدام مع الغرب وإعلان فرنسا نيتها الاعتراف بدولة فلسطينية.