• - الموافق2025/04/01م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
انقلاب في تركيا!

لم يكن أحد يتوقع تلك الزلزلة السياسية باعتقال "أكرم أوغلو" رئيس بلدية إسطنبول وأقوى الشخصيات المعارضة بتلك الطريقة الماكرة، وهو الأمر الذي شكل صدمة للمعارضة أفقدتها الكثير من التوازن، لكن لماذا الآن؟ وهل سينجح أردوغان في كسب تلك الجولة السياسية؟


"انقلاب في تركيا" هكذا وصفت أوساط المعارضة التركية، الإجراءات الجنائية التي اتخذتها حكومة العدالة والتنمية ضد أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول السابق، والتي أدت إلى سجنه بتهم فساد.

ففي خطوة مفاجئة، أصدرت النيابة العامة في إسطنبول منذ أيام قليلة، أوامر اعتقال بحق أكثر من مائة شخص، بينهم أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، بتهم تتعلق بالفساد، والتلاعب بالعطاءات، وتشكيل منظمة إجرامية.

وفي الصباح التالي لصدور أمر الاعتقال، طوَّق الأمن التركي وبشكل مكثّف منزل إمام أوغلو، عبر عشرات مركبات الشرطة ومئات عناصر الأمن، قبل أن تعتقله مجموعة منهم، وتقتاده للخارج وسط إجراءات مشددة.

ويعتبر البعض إمام أوغلو أبرز زعماء المعارضة التركية العلمانية، وأكثرهم شعبية.

ووفق بيان لمكتب المدعي العام، فإن إمام أوغلو اعتقل في إطار تحقيقين منفصلين يجريهما مكتب التحقيقات في الجرائم الإرهابية والمنظمة.

وشملت الاتهامات الموجهة إليه "تنظيم وقيادة جماعة إجرامية، والابتزاز، والرشوة، والاحتيال، والتلاعب بالعطاءات"، إضافة لمزاعم حول تقديمه دعمًا غير مباشر لحزب العمال الكردستاني -الذي تصنفه تركيا بأنه "منظمة إرهابية"- وتوظيف أعضاء منه.

وشهدت إسطنبول مداهمات متزامنة اعتقل خلالها عدد من المسؤولين الحاليين والسابقين ببلدية إسطنبول الكبرى، بينهم نائب الأمين العام لبلدية إسطنبول، ورئيس بلدية شيشلي، ونائبته، ورئيس معهد الإصلاح، بتهم تتعلق بـ"مساعدة حزب العمال الكردستاني".

وبلغ عدد المعتقلين 84 شخصا، بينما تجري إجراءات بحق 22 مشتبها بهم، وفق بيان النائب العام التركي.

وجاء اعتقال أكرم إمام أوغلو قبل أيام قليلة من الموعد المقرر لإجراء حزب الشعب الجمهوري انتخابات تمهيدية، حيث كان من المتوقع اختيار إمام أوغلو مرشحًا رئاسيًا للجولة التالية من الانتخابات الرئاسية.

ويأتي ذلك أيضًا بعد أن أعلنت جامعة إسطنبول، الثلاثاء، أنها ألغت شهادة إمام أوغلو بسبب مخالفات. ويشترط في المرشحين للرئاسة في تركيا الحصول على شهادة جامعية.

 

أسوأ ما فعله حزب الشعب الجمهوري الذي ينتمي له "أكرم أوغلو"، هو تقزيم دورها الإقليمي والدولي، وتحولها من زمن العثمانيين من دولة لها مكانتها العالمية، تسابق الدول الكبرى في قمة النظام الدولي، إلى دولة تابعة لتوجهات الغرب وأفكاره

مما لا جدال فيه، أن ملف أكرم إمام أوغلو يحيط به كثير من المخالفات القانونية، ولكن توقيت إبراز هذه المخالفات ومحاسبته عليه، لا يخلو دون أدنى شك من وجود نية تتعمد إخراجه من الحياة السياسية.

مع العلم أن إخراج إمام أوغلو من الحياة السياسية بالقانون، يعتبر عملا مشروعا في العمل السياسي، وهذا ما تشهده دول كثيرة من التي يطلق عليها ديمقراطيات، والتي يتم فيها إبعاد الخصوم المنافسين وتنحيتهم عن الحياة السياسية، واستغلال أخطاء ومخالفات هؤلاء الخصوم في هذا الإبعاد، وتصفية الحسابات، وضمان خلو الساحة والتنافس من وجودهم.

والأمثلة القريبة تشهد بذلك، ففي روسيا، تعقب بوتين معارضيه سواء بالسجن والاعتقال، وحتى بالاغتيال والقتل، وفي الولايات المتحدة، حاول الرئيس السابق بايدن إدانة ترامب وملاحقته قانونيا بتهم عديدة، للحيلولة دون ترشحه للرئاسة، ولكنه فشل.

لكن لماذا يتم إبعاد أكرم إمام أوغلو من الحياة السياسية؟ وماذا يمثل؟ وماذا يرمي أردوغان من تلك الخطوة؟ ولماذا اختار هذا التوقيت بالذات؟

أكرم أوغلو.. إرث أتاتورك

كان شرط انسحاب القوات الأوروبية من تركيا بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى بعد تسليمها إلى ضباط أتراك بزعامة كمال أتاتورك، هو محو إرث العثمانيين، وما يمثلوه من رمزية دينية إسلامية من الحياة السياسية والاجتماعية والدينية والتعليمية في بلاد الأناضول.

خلال ما يقرب من 15 سنة، منذ عام 1923 إلى عام 1938، قام أتاتورك بتنفيذ الشروط الغربية بحذافيرها.

تحرك في المستوى السياسي، فألغى الخلافة الإسلامية وأعلن الجمهورية، ونفى آل عثمان بأطفالهم ونسائهم من تركيا.

وعلى المستوى التشريعي، قام بإلغاء الشريعة الإسلامية، وإقصاء قضاة المحاكم الدينية.

ومن ناحية الشعائر التعبدية، أغلق عددا كبيرا من المساجد، ومنع الآذان والصلاة باللغة العربية، وحول مسجد آيا صوفيا إلى متحف.

ولكن أخطر ما قام به أتاتورك هو في المجالات التربوية والاجتماعية في تركيا، فقام باستبدال الحروف العربية في اللغة التركية بحروف لاتينية، وحارب الحجاب، وأغلق المدارس الدينية، وألغى تدريس الإسلام في المدارس والجامعات، وقام بفرض التغريب الكامل على الشعب التركي بالجبر والقوة، فمنع اللباس التقليدي العثماني الذي كان سائدا والمتمثل بالطربوش والعمامة، وعمد إلى تغييب الإسلام بالكامل عن ممارسات الأتراك في حياتهم الاجتماعية.

ولم يكتف خلفاء أتاتورك بما قام به الرجل، بل كانوا حريصين على تجذير أفعاله في السياسة والمجتمع التركي ليكون بمثابة تيار ليس من السهل لأحد القضاء عليه، فقامت المحكمة الدستورية في عام 1951، بإصدار قانون أطلق عليه (قانون حماية أتاتورك)، إذ نص على "السجن لمدة تتراوح بين سنة و3 سنوات لكل من يهين علنا أو ينتهك ذكرى أتاتورك"، إضافة إلى السجن لمدة تتراوح بين سنة و5 سنوات لكل من يحاول تخريب أو ينتهك النصب التذكارية التي تمثل أتاتورك أو قبره.

وبعد وفاته، أصبحت الأيديولوجيا الكمالية مصطلحا مستخدما على نطاق واسع في تركيا، إذ اعتمدت على سياساته التي يؤمن أنصاره أنها مناسبة لجميع الأوقات والأزمان، والتي تستند إلى العلمانية والقومية والشعبوية، ويرون أنها السبيل الوحيدة التي ستؤدي إلى مستقبل مشرق لتركيا.

 

جريمة أتاتورك أنه فصل تركيا تماما عن عمقها الحضاري العربي والإسلامي، وتحولت تركيا في عهده إلى يتيمة متشردة، تبحث عن فتات من بقايا وفضلات الحضارة الغربية.

هذه هي خلفيات حزب الشعب الجمهوري وتاريخه

وقد تولى حزب الشعب الذي أنشأه أتاتورك مهمة الحفاظ على الكمالية وبقاء استمرارها، ففي الأربعينات من القرن الماضي شكل الحزب لجان استخبارية، لتراقب المساجد وتسجل أسماء الذين يرتادونها ثم يلاحقونه بعدها بتهم مفتعلة، وهذا الحزب هو نفسه الذي سن قانونا عام 1998، باعتبار الحجاب مانعا من الدراسة. وألغى الشهادات الجامعية، لجميع الطلاب الذين درسوا وتخرجوا في الجامعات العربية والإسلامية.

ولكن أسوأ ما فعله حزب الشعب الجمهوري الذي ينتمي له "أكرم أوغلو"، هو تقزيم دورها الإقليمي والدولي، وتحولها من زمن العثمانيين من دولة لها مكانتها العالمية، تسابق الدول الكبرى في قمة النظام الدولي، إلى دولة تابعة لتوجهات الغرب وأفكاره.

يشرح ذلك المعنى وزير الخارجية التركي الأسبق أحمد داوود أوغلو في كتابه العمق الاستراتيجي: أنه في عصر الجمهورية انهارت استراتيجية الحديقة الخلفية في أعقاب سقوط الدولة العثمانية، وتبنت تركيا استراتيجية ذات بعدين حتى يتم القبول بها على الساحة الدولية مستلهمة مبدأ اتاتورك القائل: سلام في الوطن وسلام في العالم:

البعد الأول يتضمن الدفاع عن الحدود القومية بدلا من الاستراتيجية ذات البعد الدولي، أما البعد الثاني وهو أن تكون تركيا جزء من محور الغرب المتصاعد وليست بديلة أو معارضة له.

فأوغلو رأى أنه منذ قيام الجمهورية أصبحت تركيا في نظر العالم دولة جسرية، ليس لها رسالة سوى أن تكون معبرا بين الأطراف الكبرى، أي جسرا بين طرف وآخر دون أن تكون فاعلا بين الطرفين ولذا بدت تركيا لدى الشرقي دولة غربية ولدى الغربي دولة شرقية.

ويخلص أوغلو أن تركيا كانت من القوى الإقليمية التي اضطرت طوال الحرب الباردة، أن تجعل ساحات تأثيرها الإقليمية وسياساتها الخارجية تابعة لسياسات قوة عظمى، وإن لم تفعل ستواجه بعقوبات مثل المقاطعة التي فرضت على تركيا في أعقاب الأزمة القبرصية.

 

الخلاصة، أن جريمة أتاتورك أنه فصل تركيا تماما عن عمقها الحضاري العربي والإسلامي، وتحولت تركيا في عهده إلى يتيمة متشردة، تبحث عن فتات من بقايا وفضلات الحضارة الغربية.

هذه هي خلفيات حزب الشعب الجمهوري وتاريخه، والذي انضم إليه أكرم إمام أوغلو في شبابه، وصعد في مناصبه، حتى رشحه الحزب كرئيس بلدية إسطنبول في دورتين متتاليتين، ثم عاد الحزب ليرشحه في منصب الانتخابات الرئاسية القادمة في تركيا.

أردوغان وبراعة التوقيت

أردوغان صاحب مشروع ضخم، لاستعادة الهوية التركية، واستعادة أمجاد الدولة العثمانية صاحبة التأثير المتبادل في محيطها العربي والإسلامي، والتي وقفت في مصاف القوى الكبرى متحدية لها في فترة ليست قصيرة في التاريخ العالمي.

ويهم الرجل استمرار هذا المشروع، وأن لا يصل إلى سدة الحكم في تركيا، من ينهي الإنجازات التي حققها أردوغان سواء على مستوى الهوية والنهوض في الداخل، أو على مستوى الخارج، حيث أصبحت تركيا دولة ليست تابعة، مؤثرة في الأزمات العالمية والإقليمية.

وكعادة أردوغان في استباق الأحداث، قام أردوغان بخطوته الاستباقية، فقام بتجميع المخالفات القانونية ضد أكرم إمام أوغلو لتتم محاكمته قضائيا، وبالتالي منع ترشحه في حال الإدانة وهو الأمر يكاد يكون محققا بحسب الأدلة المتداولة.

واختار أردوغان اللحظة المناسبة إقليميا ودوليا، فوضعه الإقليمي والدولي قوي بعد التغيير الذي شهدته سوريا بمساعدة تركية، هذا الأمر جعله في وضع مريح داخلياً وخارجياً، فترامب الداعم القديم للانسحاب من سوريا، دعا أردوغان إلى زيارة أمريكا الشهر القادم، ليتفق معه على تركه سوريا في العهدة التركية بحيث لا تتحول إلى بؤرة ضد المصالح الأمريكية، وفي نفس الوقت فإن ترامب بحاجة إلى أردوغان في ترتيبه لوقف الحرب في أوكرانيا.

 كذلك فإن وصول ترامب إلى الرئاسة الأمريكية، وموقفه من أوروبا في أزمة أوكرانيا، وتهديده بالانسحاب من الناتو، والتي جعلت الاتحاد الأوروبي يبحث عن قوة ترتكز عليها لتعزز أمنها ومن هنا برز الدور التركي، وهذا يفسر ردود الفعل الضعيفة الصادرة من الولايات الأمريكية والاتحاد الأوروبي على الإجراءات المتخذة ضد أكرم أوغلو.

أعلى