وَرُبَاعِيَّةُ الفَسَادِ المَالِيِّ وَالإِدَارِيِّ فِي الدُّوَلِ وَالأُمَمِ هِيَ: الرِّشْوَةُ وَالاخْتِلَاسُ وَالتَّزْوِيرُ وَالخِيَانَةُ، وَبَيْنَهَا رَوَابِطُ فِي الإِثْمِ، مَنْ قَارَفَ وَاحِدَةً مِنْهَا تَلَطَّخَ بِجَمِيعِهَا؛ ذَلِكَ أَنَّ الإِثْمَ يَج
الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ؛ أَمَرَ بِالعَدْلِ وَالصَّلَاحِ، وَأَثْنَى عَلَى المُقْسِطِينَ المُصْلِحِينَ، وَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ وَالفَسَادِ، وَذَمَّ الظَّالِمِينَ وَالمُفْسِدِينَ، {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170] {وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ ابْتَلَى عِبَادَهُ بِالفَقْرِ وَالغِنَى وَبِالمَالِ وَالشَّرَفِ؛ لِيَمِيزَ الأَمِينَ مِنَ الخَائِنِ، وَالغَشَّاشَ مِنَ النَّاصِحِ، وَقَوِيَّ النَّفْسِ مِنْ ضَعِيفِهَا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ حَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنَ اسْتِحْلاَلِ الأَمْوَالِ وَالحُقُوقِ، وَالغِشِّ فِي المُعَامَلاَتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ النَّارَ؛ نُصْحًا لِأُمَّتِهِ، وَخَوْفًا عَلَيْهَا، وَرَحْمَةً بِهَا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ فِي الأَمْوَالِ وَالأَعْمَالِ، وَفِي كُلِّ الشُّئُونِ وَالأَحْوَالِ؛ فَإِنَّكُمْ مُحَاسَبُونَ عَلَى خَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَشَرِّهَا بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ، فَلاَ يَحْقِرَنَّ عَبْدٌ قَلِيلَ خَيْرٍ فَلَعَلَّ نَجَاتَهُ بِهِ، وَقَدْ دَخَلَتِ الجَنَّةَ امْرَأَةٌ وَأُعْتِقَتْ مِنَ النَّارِ بِتَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ شَقَّتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلاَ يَحْقِرَنَّ عَبْدٌ قَلِيلَ الشَّرِّ؛ فَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ إِذَا أُخِذَ بِهَا صَاحِبُهَا أَهْلَكَتْهُ؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
أَيُّهَا النَّاسُ: يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَقَلْبُهُ شَابٌّ عَلَى طُولِ الأَمَلِ وَحُبِّ المَالِ، فَلَيْسَ إِدْبَارُهُ عَنِ الدُّنْيَا مُزَهِّدًا لَهُ فِيهَا، وَلَيْسَ إِقْبَالُهُ عَلَى الآخِرَةِ مُرَغِّبًا لَهُ فِيهَا، إِلاَّ مَنْ جَعَلَ اللهَ تَعَالَى غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَهُمْ فِي النَّاسِ قَلِيلٌ.
وَلِأَجْلِ مَا فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا، وَالرَّغْبَةِ فِي المَالِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالشَّرَفِ، تَضْعُفُ دِيَانَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ المَوَاطِنِ، وَتَضْمَحِلُّ أَمَانَتُهُمْ، وَتَشْرَهُ نُفُوسُهُمْ، وَيَعْظُمُ حِرْصُهُمْ، فَلاَ يُشْبِعُهُمْ شَيْءٌ، فَيَتَخَوَّضُونُ فِي مَالِ اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَسْتَحِلُّونَ حُقُوقَ غَيْرِهِمْ، وَيَلِجُونَ أَبْوَابَ الفَسَادِ، وَيَأْتُونَ أَنْوَاعَ الحِيَلِ؛ لِتَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِمْ، وَالإِبْقَاءِ عَلَى مَكَانَتِهِمْ.
وَرُبَاعِيَّةُ الفَسَادِ المَالِيِّ وَالإِدَارِيِّ فِي الدُّوَلِ وَالأُمَمِ هِيَ: الرِّشْوَةُ وَالاخْتِلَاسُ وَالتَّزْوِيرُ وَالخِيَانَةُ، وَبَيْنَهَا رَوَابِطُ فِي الإِثْمِ، مَنْ قَارَفَ وَاحِدَةً مِنْهَا تَلَطَّخَ بِجَمِيعِهَا؛ ذَلِكَ أَنَّ الإِثْمَ يَجُرُّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَالفَسَادَ يَنْتَشِرُ فِي القُلُوب الَّتِي تَتَلَطَّخُ بِشَيْءٍ مِنْهُ.
فَأَمَّا الرِّشْوَةُ: فَإِنَّ الرَّاشِي يَدْفَعُ الرِّشْوَةَ لِلْمُرْتَشِي لِيَمْنَحَهُ مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهِ؛ فَإِنْ مُنِحَ مَالاً كَانَ نَوْعًا مِنَ الاخْتِلاَسِ مَكَّنَتْهُ الرِّشْوَةُ مِنْهُ، وَإِنْ مُنِحَ بِالرِّشْوَةِ وَظِيفَةً لاَ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ، أَوْ مَكَانَةً لَيْسَتْ لَهُ، أَوْ شَهَادَةً لاَ يَسْتَحِقُّهَا، أَوْ مُنَاقَصَةً لاَ يَفِي بِشُرُوطِهَا، فَهَذِهِ كُلُّهَا خِيَانَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ أُعْطِيَ مَا لَيْسَ لَهُ، أَوْ وُضِعَ فِي مَكَانٍ لاَ يَلِيقُ بِهِ، وَهَذَا أَشَدُّ جُرْمًا وَإِثْمًا، وَأَعْظَمُ ضَرَرًا وَخَطَرًا عَلَى النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ إِيسَادِ الأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَيَمْتَدُّ ضَرَرُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ تَعَامَلَ مَعَهُ.
وَقَدْ لاَ يَسْتَطِيعُ بِالرِّشْوَةِ وَحْدَهَا أَنْ يَصِلَ إِلَى مُرَادِهِ لِوُجُودِ شُرُوطٍ أُخْرَى لَيْسَتْ فِي الرَّاشِي، وَعَقَبَاتٍ لاَ بُدَّ مِنْ تَجَاوُزِهَا، فَيَلْجَأُ الرَّاشِي والمُرْتَشِي إِلَى التَّزْوِير؛ لِإِكْمَالِ الشُّرُوطِ، وَتَجَاوُزِ العَقَبَاتِ.
وَفِي الرِّشْوَةِ لَعْنٌ؛ فَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي»، وَهِيَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَمَا نَتَجَ عَنْهَا مِنْ مَالٍ أَوْ هَدَايَا أَوْ نَحْوِهَا فَهُوَ سُحْتٌ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ: «إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ»؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَأَمَّا الاخْتِلاَسُ فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنْ شَخْصٍ تَوَلَّى وِلاَيَةً يَكُونُ المَالُ تَحْتَهُ، فَيَخْتَلِسُ مِنْهُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُطَالِبُ بِمِيزَانِيَّاتٍ لاَ تَحْتَاجُهَا دَائِرَتُهُ، وَلَكِنْ لِتَصِلَ إِلَى حِسَابِهِ فِي النِّهَايَةِ، إِمَّا بِأَعْمَالٍ وَهْمِيَّةٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، أَوْ صَحِيحَةٍ، وَلَكِنَّهَا لاَ تُكَلَّفُ عُشْرَ الأَمْوَالِ المَرْصُودَةِ لِهَا كَدَوْرَاتٍ وَتَدْرِيبٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ إِنْشَاءَاتٍ تَكُونُ المُنَاقَصَةُ فِيهَا صُورِيَّةً لِتَجَاوُزِ عَقَبَةِ النِّظَامِ، وَتُمْنَحُ لِأَفْرَادٍ أَوْ شَرِكَاتٍ بِمَبَالِغَ طَائِلَةٍ جِدًّا، لاَ تُكَلّفُ المُنْشَآتُ عُشْرَهَا، وَالبَقِيَّةُ يَقْتَسِمُهَا صَاحِبُ المَشْرُوعِ مَعَ صَاحِبِ الوَظِيفَةِ.
وَيَعْظُمُ ضَرَرُ الاخْتِلاَساتِ إِنْ تَعَلَّقَتْ بِهَا حُقُوقُ النَّاسِ، وَلاَ سِيَّمَا الضَّعَفَةُ مِنْهُمْ، كَالأَمْوَالِ المَرْصُودَةِ لِإِعَاشَةِ الجُنْدِ يُخْفِضُهَا القَائِمُ عَلَيْهَا لِأَخْذِ مَا تَبَقَّى مِنْهَا، أَوْ لِصَرْفِهَا فِي مَجَالاَتٍ أُخْرَى، وَكَالأَمْوَالِ المُخَصَّصَةِ لِلْأَدْوِيَةٍ أَوْ أَجْهِزَةِ المَرْضَى فِي المُسْتَشْفَيَاتِ، فَيَتَصَرَّفُ القَائِمُ عَلَيْهَا بِشِرَاءِ أَجْهِزَةٍ رَدِيئَةٍ أَوْ أَدْوِيَةٍ بَدِيلَةٍ أَقَلَّ سِعْرًا، وَيُسَجِّلُهَا بِأَسْعَارٍ عَالِيَةٍ لِيَأْخُذَ البَاقِي، أَوْ يُخْفِضُ كَمِّيَّةَ الدَّوَاءِ أَوْ عَدَدَ الأَجْهِزَةِ فَيَتَضَرَّرُ المَرْضَى وَرُبَّمَا يَمُوتُونَ بِسَبَبِ هَذِهِ الاخْتِلاَساتِ، وَكَثِيرًا مَا يُظْلَمُ صِغَارُ المُوَظَّفِينَ مِنْ كِبَارِهِمْ، وَتُبْخَسُ حُقُوقُ عَامَّةِ النَّاسِ بِسَبَبِ خَاصَّتِهِمْ؛ إِذْ يَخْتَلِسُ القَائِمُ عَلَى حُقُوقِهِمْ بَعْضَهَا، أَوْ يُشَارِطُهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَلاَ يَأْخُذُونَ حَقَّهُمْ مِنْهُ إِلاَّ بِإِعْطَائِهِ بَعْضَهُ، وَيَقَعُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي تَخْلِيصِ الحُقُوقِ وَالمُسْتَحَقَّاتِ، وَالتَّوْظِيفِ وَالنَّقْلِ وَغَيْرِهَا.
وَاخْتِلاَسُ المَالِ حَرَامٌ؛ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ المَالِ العَامِّ أَمْ كَانَ مِنْ أَمْوَالِ الشَّرِكَاتِ وَالمُؤَسَّسَاتِ، بَلْ حَتَّى شَرِكَاتُ الكُفَّارِ لاَ يَجُوزُ لِمَنْ يَعْمَلُ فِيهَا أَوْ يَتَعَامَلُ مَعَهَا أَنْ يَخْتَلِسَ شَيْئًا مِنْهَا، فَكُفْرِ الكَافِرِ لاَ يُبِيحُ غِشَّهُ وَلاَ سَرِقَتَهُ، قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَأَمَّا التَّزْوِيرُ فَهُوَ تَغْيِيرُ الحَقِيقَةِ بِقَصْدِ الغِشِّ، وَيَسْرِي فِي الأَوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ، وَالأَوَامِرِ الكِتَابِيَّةِ، وَالمُعَامَلاتِ الرَّسْمِيَّةِ، كَمَا يَكُونُ فِي الشَّهَادَاتِ وَالأَخْتَامِ وَنَحْوِهَا، وَمِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ الَّتِي تُقْتَطَعُ بِهَا الحُقُوقُ، أَوْ يُعَاقَبُ بِهَا أَبْرِيَاءُ، أَوْ يَفُكُّ بِهَا مُجْرِمُونَ، وَهَذَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ كَمَا رَوَى أَبُو بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ -ثَلاَثًا- أَوْ: قَوْلُ الزُّورِ" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ"؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَأَمَّا الخِيَانَةُ فَهِيَ: أَنْ يُؤْتَمَنُ الإِنْسَانُ فَلاَ يَنْصَحُ، وَهِيَ الأَصْلُ الجَامِعُ لِكُلِّ فَسَادٍ مَالِيٍّ وَإِدَارِيٍّ؛ لِأَنَّ مَنِ انْعَقَدَ قَلْبُهُ عَلَى الخِيَانَةِ ارْتَشَى وَاخْتَلَسَ وَزَوَّرَ، وَفَعَلَ كُلَّ أَمْرٍ مُحَرَّمٍ؛ لِنَيْلِ الجَاهِ، أَوْ كَسْبِ المَالِ.
وَكُلُّ وِلاَيَةٍ أَوْ وَظِيفَةٍ يَتَقَلَّدُهَا الإِنْسَانُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمِينًا فِيهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَائِنًا، وَلاَ مَنْزِلَةَ بَيْنَ الاثْنَتَيْنِ؛ فَإِنْ رَاقَبَ اللهَ تَعَالَى فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ، وَأَدَّى حُقُوقَهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَا لَيْسَ لَهُ، وَعَدَلَ بَيْنَ النَّاسِ فَلَمْ يُحَابِ أَحَدًا لِقَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ أَوْ نُفُوذٍ يَرْجُو مِنْ وَرَائِهِ نَفْعًا قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا؛ فَهَذَا أَمِينٌ يُؤْجَرُ عَلَى أَمَانَتِهِ وَإِنْ ذَمَّهُ النَّاسُ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ سَلْبِيَّتِهِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَطْلُبُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ، وَلاَ يَعُفُّونَ عَمَّا تَنَالُهُ أَيْدِيهِمْ، وَلاَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الحَرَامِ إِلاَّ عَجْزٌ أَوْ عُقُوبَةٌ، وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنْ تَحْجِزُهُ مَخَافَةُ اللهِ تَعَالَى عَنِ الحَرَامِ.
وَحِينَمَا يَسَوَّدُ أَهْلُ الخِيَانَةِ، وَيُبْعَدُ أَهْلُ الأَمَانَةِ، يَكْثُرُ الفَسَادُ فِي الأُمَّةِ وَيَسْتَشْرِي، وَيَعْسُرُ القَضَاءُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ المَنَاصِبِ وَالوَظَائِفِ يَتَدَاوَلُهَا المُفْسِدُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيَمْنَعُونَ عَامَّةَ النَّاسِ مِنْهَا وَهِيَ مِنْ حُقُوقِهِمْ؛ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخُونُ لِصَاحِبِهِ فِي دَائِرَتِهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَخُونَ لَهُ الآخَرُ فِي مَصْلَحَةٍ أُخْرَى، وَبِهَذَا تُحْتَكَرُ الوَظَائِفُ وَالتَّرْقِيَاتُ وَالمُنَاقَصَاتُ وَالمِيزَاتُ فِي كُلِّ مِرْفَقٍ حُكُومِيٍّ، وَيَتَدَاوَلُهَا المُفْسِدُونَ مِنْ أَصْحَابِ المَصَالِحِ وَالمَنَافِعِ، بَلْ وَيُحَارِبُونَ الأُمَنَاءَ الَّذِينَ لاَ يُشَارِكُونَهُمْ فِي فَسَادِهِمْ، وَهَذَا مِصْدَاقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "...فَيُصْبِحُ النَّاس يَتَبَايَعُونَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ"؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
فَالحَذَرَ الحَذَرَ -عِبَادَ اللهِ- مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَلَنَا عِبْرَةٌ وَعِظَةٌ فِي عُظَمَاءَ وَأَغْنِيَاءَ جَمَعُوا مَالاً عَظِيمًا، وَمَلَئُوا الدُّنْيَا ضَجِيجًا، دُفِنُوا حِينَ دُفِنُوا بِأَكْفَانِهِمْ كَمَا يُدْفَنُ الفُقَرَاءُ، وَلَمْ يَأْخُذُوا مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا، وَبَقِيَ عَلَيْهِمْ حِسَابُ مَا جَمَعُوا؛ فَإِنَّ الإِنْسَانَ جَمَّاعٌ لِغَيْرِهِ، وَلاَ يَجْمَعُ لِنَفْسِهِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ القَاسِمِ وَكَانَ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ: مَاتَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ وَخَلَّفَ أَحَدَ عَشَرَ ابْنًا، فَبَلَغَتْ تَرِكَتُهُ سَبْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا، كُفِّنَ مِنْهَا بِخَمْسَةِ دَنَانِيرَ، وَاشْتُرِيَ لَهُ مَوْضِعَ القَبْرِ بِدِينَارَيْنِ، وَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلاَدِهِ تِسْعَةَ عَشْرَ دِرْهَمًا، وَمَاتَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ، وَخَلَّفَ أَحَدَ عَشَرَ ابْنًا، فَوَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أَوْلاَدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ حَمَلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أَوْلاَدِ هِشَامٍ يَسْأَلُ أَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْه! عَلَّق أَبُو البَقَاءِ الدَّمِيْرِيُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: وَهَذَا أَمْرٌ غَيْرُ عَجِيبٍ؛ فَإِنَّ عُمَرَ وَكَلَهُمْ إِلَى رَبِّهِ فَكَفَاهُمْ وَأَغْنَاهُمْ، وَهِشَامٌ وَكَلَهُمْ إِلَى دُنْيَاهُمْ فَأَفْقَرَهُمْ مَوْلاَهُمْ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: وَازِعُ الشَّرْعِ يَجِبُ أَنْ يَرُدَّ المُؤْمِنَ عَنِ الحَرَامِ، وَيَحْجِزَهُ عَنِ الخِيَانَةِ، وَيُوصِلَهُ لِلْأَمَانَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَرْدَعُهُ الشَّرْعُ عَنِ الرِّشْوَةِ أَوْ الاخْتِلاَسِ أَوِ التَّزْوِيرِ أَوِ الخِيَانَةِ، فَلا بُدَّ مِنْ رَادِعِ السُّلْطَانِ، وَإِنْزَالِ العُقُوبَةِ بِمَنْ ثَبَتَتْ خِيَانَتُهُ حَتَّى يُكْفَي النَّاسُ شَرَّهُ، وَيَرْتَدِعَ غَيْرُهُ؛ ذَلِكَ أَنَّ الفَسَادَ إِذَا دَخَلَ دَوْلَةً وَسُكِتَ عَلَيْهِ أَنْهَكَهَاَ وَأَهْلَكَهَا، وَسَلَبَ أَمْنَهَا وَرِزْقَهَا، فَإِذَا وَلَجَ الفَسَادُ سُوقَ المَالِ وَالأَعْمَالِ أَفْقَرَ النَّاسَ لِثَرَاءِ رِجَالِ الأَعْمَالِ، وَإِذَا دَخَلَ الشُّرَطَ أَذْهَبَ الأَمْنَ، وَإِذَا دَخَلَ دَوَائِرَ القَضَاءِ أَزَالَ العَدْلَ، وَإِذَا دَخَلَ دَوَائِرَ الصِّحَّةِ وَالمَشَافِي أَهْلَكَ المَرْضَى، وَإِذَا دَخَلَ التَّعْلِيمَ أَوْرَثَ الجَهْلَ، وَإِذَا دَخَلَ الإِعْلامَ أَفْسَدَ العُقُولَ وَالفِطَرَ، وَمَا مِنْ مَجَالٍ يَدْخُلُهُ الفَسَادُ إِلاَّ خَلَّفَ مَصَائِبَ لاَ عَافِيَةَ مِنْهَا إِلاَّ بَاجْتِثَاثِ المُفْسِدِينَ.
وَلِلْمُفْسِدِينَ دَلاَئِلُ يُعْرَفُونَ بِهَا؛ فَمِنْهَا: مَنْعُ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ، وَالمُمَاطَلَةُ فِي مُعَامَلاَتِهِمْ، وَحَجْبُ النَّاسِ عَنِ الوُصُولِ إِلَيْهِمْ، وَالثَّرَاءُ بَعْدَ المَنْصِبِ أَوِ الوَظِيفَةِ، وَضَعْفُ الإِنْجَازِ وَالإِنْتَاجِ فِي دَوَائِرِهِمْ.
كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَطْلُبُ مِنْ وُلاَتِهِ - القَادِمِينَ إِلَى المَدِينَةِ - أَنْ يَدْخُلُوهَا نَهَارًا، وَلاَ يَدْخُلُوهَا لَيْلًا، حَتَّى يَظْهَرَ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالٍ وَمَغَانِمَ فَيَسْهُلَ السُّؤَالُ وَالحِسَابُ، وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَطْلُبُ مِنَ الوُلاَةِ أَنْ يُرْسِلُوا وُفُودًا مِنْ أَهْلِ البِلاَدِ لَيْسَأَلَهُمْ عَنْ بِلاَدِهِمْ، وَعَنِ الخَرَاجِ المَفْرُوضِ عَلَيْهِمْ لِيَتَأَكَّدَ بِذَلِكَ مِنْ عَدَمِ ظُلْمِهِمْ، وَكَانَ يَأْمُرُ عَامِلَ البَرِيدِ عِنْدَمَا يُرِيدُ العَوْدَةَ إِلَى المَدِينَةِ أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ: مَنِ الَّذِي يُرِيدُ إِرْسَالَ رِسَالَةً إِلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ؟ حَتَّى يَحْمِلَهَا إِلَيْهِ دُونَ تَدَخُّلٍ مِنْ وَالِي البَلَدِ..، وَلَمَّا رَأَى أَحَدَ عُمَّالِهِ وَسَّعَ عَلَى نَفْسِهِ بِالمَالِ، وَأَظْهَرَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الجَاهِ، اسْتَدْعَاهُ فَعَزَلَهُ، وَأَعْطَاهُ غَنَمًا كَلَّفَهُ بِرَعْيِّهَا، حَتَّى انْكَسَرَتْ كِبْرِيَاءُ نَفْسِهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ لِلْوِلاَيَةِ فَكَانَ بَعْدَ هَذَا التَّأْدِيبِ مِنْ خِيرَةِ الوُلاَةِ.
فَعَلَى كُلِّ مَنْ وَلاَّهُ اللهُ تَعَالَى وِلاَيَةً صَغُرَتْ أَمْ كَبِرَتْ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ تَعَالَى فِيمَا وَلِيَ، وَأَنْ يُتْقِنَ عَمَلَهُ، وَيَقُومَ بِحَقِّهِ، وَيُؤَدِّيَ أَمَانَتَهُ، وَيَعْدِلَ فِي رَعِيَّتِهِ، وَيَجْتَهِدَ فِي نَفْعِ النَّاسِ مَا اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً، فَلَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ أَوْ جَاهِهِ إِلَى قَبْرِهِ، وَلَنْ يَبْقَى لَهُ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ مَوْتِهِ إِلاَّ ذِكْرُ النَّاسِ وَدُعَاؤُهُمْ؛ فَإِمَّا ذَكَرُوهُ بِخَيْرٍ وَدَعَوْا لَهُ، وَإِمَّا ذَكَرُوهُ بِشَرٍّ وَدَعَوْا عَلَيْهِ، وَالنَّاسُ شُهَدَاءُ اللهِ تَعَالَى فِي الأَرْضِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ.