حقيقة الموقف الأمريكي من حرب لبنان وغزة

هل الإدارة الأمريكية تؤيد الكيان الصهيوني في كل ما يقوم به؟ هل يمكن لأمريكا أن تعطي توجيهات لحكومة الاحتلال؟ هل تستطيع تلك الإدارة لجم دولة الكيان إذا خالفت توجيهاتها؟ وبالمجمل هل أمريكا فاعل رئيس في هذه الحرب، أم هي مجرد طرف له دور ثانوي؟


يبدو الموقف الأمريكي مما يجري من قتال في لبنان وقبلها في غزة لغزًا محيرًا. فمنذ اندلاع القتال، بين "إسرائيل" وحماس في غزة، قبل سنة، وبعده القتال في لبنان، يظهر التفاعل الأمريكي بشأن استمرار تلك الحروب، متناقضًا وفق العديد من المراقبين، إذ إن واشنطن تدعو إلى حماية المدنيين في جانب، لكنها في نفس الوقت تتماهى مع الموقف الإسرائيلي، الذي يؤكد دومًا على ضرورة استمرار العمليات العسكرية في غزة ولبنان، رغم ما توقعه من ضحايا بالآلاف في صفوف المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين. فيكيف نحل إشكالية هذا التناقض الظاهري؟

هناك عنصران بتحليلهما نستطيع فهم الموقف الأمريكي في تلك الحرب:

1.    أسس علاقة أمريكا والكيان الصهيوني.

2.    الانتخابات الامريكية، والصراع بين الحزبين الجمهوري الديموقراطي حول الموقف مما يدور في الشرق الأوسط.

العلاقة الأمريكية الصهيونية

هناك سمتان تتصف بهما العلاقة الأمريكية بدولة الاحتلال، البعد الديني والبعد الاستراتيجي.

فالبعد الديني يكمن في العلاقة بين البروتستانتية واليهودية، حيث يستمد التراث الديني في أمريكا أصوله من المذهب البروتستانتي.

مهدت البروتستانتية منذ ظهورها الطريق أمام الأفكار التي نادت بها الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر، فهذه الأفكار التي أكدتها البروتستانتية لا تختلف كثيرًا عن اليهودية، والتي تنطوي في جوهرها على دعوة اليهود للعودة إلى صهيون؛ أي إلى أرض إسرائيل بحدودها التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة لدى اليهود.

وهكذا تحولت فلسطين في الضمير البروتستانتي من الأرض المقدسة للنصارى إلى أرض الشعب المختار، ومن الملاحظ أن بعض البروتستانت قد آمن بضرورة اعتناق اليهود للنصرانية تمهيدًا لقدوم المسيح، وآمن بعضهم بإمكان تحولهم هذا بعد قدومه.

 

جاء دور الرؤساء الأمريكيين في دعم الحركة الصهيونية، وزاد هذا الدعم في بداية الأربعينيات مع انتقال مركز الثقل في النظام العالمي إلى الولايات المتحدة, فالرئيس روزفلت اتخذ نجمة داود شعارًا رسميًّا للبريد، والخوذات التي يلبسها الجنود، وعلى أختام البحرية

وفي نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر بدأ التعاطف الأمريكي مع اليهود يتحول إلى عمل ملموس من خلال جماعات وأفراد؛ فعلى صعيد الأفراد قام القنصل الأمريكي في القدس "وارد كريون" بتأسيس مستوطنة زراعية في منطقة القدس، وخطط لتأسيس مستوطنات أخرى، ولكنه لم يجد الدعم المطلوب من اليهود.

كما ظهر القس "وليم بلاكستون" الذي طالب بعمل شعبي لإعادة اليهود إلى فلسطين، وألف كتاب: (عيسى قادم) الذي بِيعَ منه عام 1878م أكثر من مليون نسخة، وتُرجِم إلى 48 لغة، ويتحدث فيه عن عودة اليهود لفلسطين باعتبارها المقدمة لعودة المسيح.

ثم جاء دور الرؤساء الأمريكيين في دعم الحركة الصهيونية، وزاد هذا الدعم في بداية الأربعينيات مع انتقال مركز الثقل في النظام العالمي إلى الولايات المتحدة, فالرئيس روزفلت اتخذ نجمة داود شعارًا رسميًّا للبريد، والخوذات التي يلبسها الجنود، وعلى أختام البحرية، وجاء بعده ترومان الذي أصدر بيانًا طالب فيه بإدخال مائة ألف يهودي فورًا إلى فلسطين، وكان له دور مشهود بجانب اليهود في حرب 1948.

ولتوضيح أثر العقيدة البروتستانتية في دفع رؤساء أمريكا إلى الانحياز لإسرائيل، نسوق موقف الرئيس الأمريكي جون كيندي الذي كان الرئيس الكاثوليكي الوحيد في تاريخ أمريكا، حيث قال: إن الانحياز الأمريكي في النزاع العربي - الإسرائيلي لا يهدد الولايات المتحدة فحسب؛ بل يهدد العالم بأسره، فالأفكار والتنبؤات التوراتية لم تكن في وجدانه أو عقله مثل سابقيه ولاحقيه.

بهذا تحدد الهدف الديني الأمريكي في هذا الصراع، وهو ضمان وجود دولة يهودية لبناء الهيكل على أنقاض الأقصى تمهيدًا لنزول مسيحهم المزعوم.

أما الهدف الاستراتيجي الأمريكي في تأييده للكيان، في كونه أداة استراتيجية لبقاء المنطقة تحت الهيمنة الغربية.

وهذا ميراث امبراطوري ورثته أمريكا من بريطانيا العظمى، حين حاولت الهيمنة على المنطقة بتجزيئها وفق خطة سايكس بيكو مع فرنسا، وإنشاء نظم موالية للغرب تتحكم في شعوب المنطقة، وأخير2ا زرع الكيان الصهيوني في قلب المنطقة العربية.

الانتخابات الأمريكية

في استطلاع للرأي أجرته مؤسسة ديموكراسي كوربس في أغسطس الماضي بين الناخبين المسجلين، لم تكن الحرب في الشرق الأوسط من بين المشاكل الثلاث الأولى التي يشعر الأمريكيون بالقلق بشأنها، بل إنها جاءت في المرتبة الأخيرة من بين 13 قضية تم اختبارها.

 

في استطلاع أجراه المعهد الأمريكي للأبحاث في أبريل الماضي بين الأمريكيين العرب، أظهر أنهم سيصوتون بأغلبية أو أغلبية مطلقة لصالح الديموقراطيين إذا علقت إدارة بايدن أي دعم دبلوماسي أمريكي أو شحنات أسلحة إلى إسرائيل

ولكن نظرًا لأن الفروق ضئيلة جدًا بين كل من المرشح الديموقراطي كاميلا هاريس ومرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب، فإن الحرب في غزة تشكل عاملا لاستقطاب الأقليات في الولايات المرجحة.

ففي ولاية ميتشجان وهي إحدى الولايات المرجحة، والتي تبلغ بها الأصوات الأمريكية من أصل عربي ما يقرب من مائة ألف صوت، وكانوا يصوتون تقليديا لأي مرشح ديموقراطي، فقد أعلن هؤلاء بأنهم أصبحوا غير ملتزمين، بالتصويت للمرشح الديمقراطي في انتخابات نوفمبر المقبل.

وفي استطلاع أجراه المعهد الأمريكي للأبحاث في أبريل الماضي بين الأمريكيين العرب، أظهر أنهم سيصوتون بأغلبية أو أغلبية مطلقة لصالح الديموقراطيين إذا علقت إدارة بايدن أي دعم دبلوماسي أمريكي أو شحنات أسلحة إلى إسرائيل حتى تنفذ وقف إطلاق النار وتسحب قواتها من غزة.

بينما أعرب 72 في المائة من اليهود الأمريكيين في سائر أنحاء أمريكا أنهم سيصوتون لكامالا، بحسب استطلاع حديث للرأي أجراه المجلس الديمقراطي اليهودي في أمريكا.

وبحسب الاستطلاع، يشعر اليهود الأمريكيون بارتباط عاطفي قوي بإسرائيل، إلا أنها ليست قضية تؤثر على سلوكهم الانتخابي، الذي بيّن أن الناخبين اليهود يدعمون بقوة جهود إدارة بايدن للتقدم باتفاقية الرهائن ووقف إطلاق النار، كما يعارضون بنيامين نتنياهو بشدة.

وبذلك دخلت لأول مرة في تاريخ الانتخابات الأمريكية قضية الشرق الأوسط لتكون من بين الموضوعات الرئيسة على أجندة السجال بين المرشحين في تلك الانتخابات.

وبالرغم من ذلك، فإن تأثير اللوبي الصهيوني أقوى حتى من تصويت الجاليات اليهودية وبالطبع العربية، وهذا يبرر تعمد حملة هاريس في مؤتمر ترشحها تجاهل دعوة من يمثل الجالية العربية، لإلقاء كلمة في المؤتمر، وفي حين ألقيت كلمات من ممثلي الأقليات سواء اللاتينية أو السود وغيرهم، وتم إلقاء كلمة من إسرائيليين أمريكيين يمثلون عائلة الأسرى لدى المقاومة، الأمر الذي اعتبرته الجالية العربية، احتقارًا من الديمقراطيين للعرب.

ولكن مع تقارب الفرق مرة أخرى بين هاريس وترامب في استطلاعات الرأي، عاد الديمقراطيون لاستعادة أصوات الناخبين العرب والمسلمين الغاضبين من الدعم الأمريكي لحربي إسرائيل في غزة ولبنان.

فقد نظّم فيل جوردان وهو مستشار كبير لهاريس لقاءً مع قيادات للمسلمين والعرب بالولايات المتحدة في محاولة لامتصاص الغضب لدى هذه الفئة من الأمريكيين.

وأبلغ مستشار هاريس للأمن القومي فيل جوردان القيادات المسلمة والعربية في الاجتماع الافتراضي الذي عقده أن الإدارة تدعم وقف إطلاق النار في غزة واستخدام الدبلوماسية في لبنان والاستقرار في الضفة الغربية المحتلة.

لكن هل تبدو هذه الجهود كافية لإقناع الناخبين العرب والمسلمين بالتصويت لصالح هاريس لاسيما أن مواقفها ثابتة تجاه إسرائيل وصرّحت في أكثر من مناسبة تأييدها لإسرائيل في "الدفاع عن نفسها" ودعمها غير المشروط للدولة العبرية مالياً وعسكرياً؟

في هذا الصدد، يقول علي داغر وهو محام لبناني أمريكي وزعيم مجتمعي إن الجهود التي قام بها مكتب هاريس ليست كافية. وأضاف داغر الذي لم يشارك في الاجتماع، في تحقيق أجرته نيويورك تايمز، إنها جهود قليلة للغاية ومتأخرة للغاية.

ويقول ناشطون إن الديمقراطيين بايدن وهاريس لم يقوما بما يكفي من الجهود لوقف الحملة العسكرية الإسرائيلية على القطاع الفلسطيني.

جدلية الموقف الأمريكي

المتتبع لتصريحات المسئولين الأمريكيين بدء من بايدن مرورا بهاريس وغيرهم من أقطاب الإدارة الأمريكية، يجد أن أمريكا تسير بسياسة ذات وجهين في تلك الحرب: وجه علني يطالب بوقف إطلاق النار وتجنيب المدنيين شرور القتال والقصف، ووجه خفي يمد الكيان بالقنابل التي تقتل بها المدنيين، بل بالخطط وبالتقارير الاستخبارية.

والحقيقة الساطعة، هي أن أمريكا في يدها منع الكيان الصهيوني عن أي سياسة أو ممارسة تتناقض مع التوجهات الأمريكية واستراتيجيتها في المنطقة، فالخيوط بيد الولايات المتحدة، مع وجود هامش يمكن للكيان أن يتحرك فيه، بينما يجيد نتانياهو قراءة هذا الهامش وتوقيت التحرك فيه.

أعلى