حفاوة الله تعالى برسله
الحمد لله
اللطيف الخلاق، الكريم الوهاب {يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}
[الحج:75]
نحمده في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، ونشكره على
ما منع وما أعطى، وعلى ما عافى وما ابتلى، فلا يقدر لعباده المؤمنين إلا ما هو خير
لهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظيم في ذاته، عظيم في أسمائه
وصفاته، عظيم في أفعاله وأقداره، له الحكمة الباهرة، والحجة البالغة، وهو العليم
القدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ العبد المصطفى، والنبي المجتبى؛ أعطاه الله
تعالى من الإيمان أكمله، وحباه من الخلق أحسنه، وبوأه من الذكر أرفعه، فكان خاتم
النبيين، وأفضل الخلق أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم -عباد الله- بتقوى
الله تعالى في السر والعلن، والمنشط والمكره؛ فإنها أمر الله تعالى إلى الناس
أجمعين {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1]
وأَمر بها الرسل أقوامهم فقال نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وعيسى عليهم السلام [فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ] وقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ}
[الأحزاب:1].
وأهلها موعودن بالجنة {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15].
أيها الناس: حين يحتفي عظيم من العظماء بأحد من الناس، يعلم الناس
أن لذلك المحتفى به حظوة عظيمة عند ذلك الرجل العظيم، فيُحسد على ما أعطي، ويتزلف
الناس إليه رجاء أن يكون صلة بينهم وبين ذلك الرجل العظيم؛ فإذا قال صدقوه، وإذا أمر
أطاعوه، وإذا أشار فهموه.. هذا حال البشر مع عظمائهم ومع المقربين منهم. وعلى قدر
جاه الرجل ونفوذه يتقرب الناس إليه.
والله تعالى هو ملك الملوك، وعظيم العظماء.. بل
هو مالك الملك، ومدبر الأمر، وكل عظماء الدنيا من أول الخليقة إلى آخرهم بعظمتهم
وأبهتهم لا يساوون شيئا أمامه سبحانه وتعالى. بل ما كان لهم أن يكونوا عظماء في
أقوامهم إلا بتدبيره وتقديره عز وجل.
وحين يحتفي الله تعالى بأحد من خلقه فعلى كل
إنسان أن يرعي سمعه، وأن يجمع قلبه، وأن يعي ما يُلقى عليه، فملك الملوك سبحانه
يحتفي بأناس مثله.. فمن هم؟ ولم يحتفي سبحانه بهم، ويعظم شأنهم، ويقربهم ويدنيهم،
ويرفع منازلهم، ويأمر الناس باتباعهم؟
إنها حفاوة الله تعالى برسله عليهم السلام، وهي
حفاوة بالغة، ولكنها منثورة في آي الذكر الحكيم، يمر القارئ عليها فلا ينتبه لها
مع ما فيها من معنى عظيم، ومغزى كبير: كأن المولى سبحانه يقول لقراء القرآن: إن
الأنبياء الذين أمرتكم باتباعهم هذه منزلتهم عندي، وهذه كرامتهم لدي، وهذه تزكيتي
لهم، وهذا وصفي إياهم، فإن كنتم تعظمونني فاتبعوهم فإنهم خيار خلقي، اصطفيتهم
ليبلغوكم رسالاتي. {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا
مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا
وَاجْتَبَيْنَا} [مريم:58] فهذه خير بيوت العالم، اصطفاهم الله تعالى
واختارهم واجتباهم. واجتباء الله العبد: تخصيصه إياه بنعمة إلهية يتحصل له منها
أنواع من النعم بلا سعي من العبد، وذلك للأنبياء وبعض من يقاربهم من الصديقين
والشهداء، قال تعالى في آدم عليه السلام {ثُمَّ
اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] وقال في الخليل
عليه السلام {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ} [النحل:121] وقال في يوسف عليه السلام {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف:6]، وقال في
يونس عليه السلام {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ
مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:50] . وقال سبحانه في رسله عليهم السلام {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:87].
رسل مصطفون، وأسر مجتباة، وبيوت موقرة مباركة،
جعلها الله تعالى للأنام أسوة وقدوة {إِنَّ اللهَ
اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى
العَالَمِينَ} [آل عمران:33].
والاصطفاءُ: تناول
صَفْو الشىءِ؛ كما أَنَّ الاختيار: تناول خيره.
فَخَلَق الله تعالى
رسله عليهم السلام صفوا عن الشوب الموجود في غيرهم، قال في الخليل عليه السلام {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} [البقرة:130]
وقال سبحانه في جملة من الرسل {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا
لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص:47] فاصطفاهم ووصفهم بالخيرية، وهو
سبحانه خالق الخلق وأعلم بهم.
احتفى سبحانه وتعالى بالخليل عليه السلام حتى
قال لوالده {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ
رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47] أي: بالغٍ في إكرامي إكراماً
يستوعب متطلبات سعادتي، فما أعظم مقام الخليل عند الله تعالى حتى كان به حفيا. واحتفى
سبحانه بذرية الخليل من النبيين، فرفع ذكرهم، وأعلى مقامهم، فقال سبحانه {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ
لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:50] فَذِكْرُهم ملأ الخافقين، والثناء
عليهم ومحبتهم امتلأت بها القلوب، وفاضت بها الألسن، فصاروا قدوة للمقتدين، وأئمة
للمهتدين. واحتفى سبحانه وتعالى بإدريس عليه السلام فقال فيه {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57].
واحتفى سبحانه وتعالى بموسى عليه السلام منذ
طفولته فقال فيه {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً
مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فأي حفاوة نالها الكليم عليه
السلام وهو يُصنع في طفولته على عين الله تعالى؟! وأيُّ نظر وكفالة أجلّ وأكمل من
ولاية البر الرحيم، القادر على إيصال مصالح عبده، ودفع المضار عنه؟! فلا ينتقل موسى
من حالة إلى حالة، إلا والله تعالى هو الذي دبّر ذلك لمصلحته.
ومن حفاوة الله تعالى به أنه سبحانه قال {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] أي: أجريت عليك
صنائعي ونعمي، وحسن عوائدي وتربيتي؛ لتكون لنفسي حبيبا مختصا، وتبلغ في ذلك مبلغا
لا يناله أحد من الخلق، إلا النادر منهم، وإذا كان الحبيب إذا أراد اصطناع حبيبه
من المخلوقين، وأراد أن يبلغ من الكمال المطلوب له ما يبلغ، يبذل غاية جهده، ويسعى
نهاية ما يمكنه في إيصاله لذلك، فما ظنك بصنائع الرب القادر الكريم، وما تحسبه
يفعل بمن أراده لنفسه، واصطفاه من خلقه؟ ووالله إن أهل الإيمان الحق لتفيض قلوبهم
بمحبة موسى عليه السلام وقد حباه الله تعالى هذا الكرم حتى صنعه على عينه، واصطنعه
لنفسه عز وجل.
وفي مقام آخر ذكر سبحانه أن موسى مُخْلَصا، أي:
أن الله تعالى اختاره واستخلصه، واصطفاه على العالمين. {وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}
[مريم: 51] فالله تعالى أخلصه لإخلاصه، وكان إخلاصه موجبا لاستخلاصه، وأجلُّ حالة
يوصف بها العبد: الإخلاص منه، والاستخلاص من ربه عز وجل.
ومن حفاوة الله تعالى به أن الله تعالى خصه
بتكليم خاص غير العام الذي كلم به سائر الرسل؛ ولذا سمي الكليم، والخليل يوم
القيامة يقول كما في حديث الشفاعة المتفق عليه «عليكم بموسى فإنه كليم الله» وقد
ذكَّر الله تعالى موسى بهذه الخصيصة التي اختصه بها {قَالَ
يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي}
[الأعراف:144] وقربه الله تعالى وناجاه {وَنَادَيْنَاهُ
مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52].
ومن حفاوة الله تعالى بموسى عليه السلام أنه له
وجاهة عند الله تعالى، كما قال سبحانه فيه {وَكَانَ
عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69] ومن وجاهته أنه شفع عند الله تعالى في
أخيه هارون أن يكون نبيا، فقبل الله تعالى شفاعته فبعثه نبيا، فكانت أعظم شفاعة في
التاريخ البشري كله، وكان موسى عليه السلام أنفع أخ لأخيه؛ إذ مقام النبوة لا
يدانيه مقام، قال موسى عليه السلام {هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 30-32] فقال الله تعالى {قَدْ
أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36] وفي آية أخرى {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ
نَبِيًّا} [مريم:53].
وأما حفاوته سبحانه بالمسيح عليه السلام فيكفي
فيها قول الملائكة عليهم السلام {يَا مَرْيَمُ إِنَّ
اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:
45] ومن وجاهة المسيح عليه السلام ما
أعطاه الله تعالى من خوارق العادات فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى، ورفعه
إليه لما حاول أعداؤه قتله، وينزل في آخر الزمان فيحكم الأرض كلها.
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى
بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ} [البقرة:253].
بارك الله لي ولكم في القرآن...
الخطبة
الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما
يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم
الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واقتدوا
بخيار البشر، ولا ترغبوا عنهم وعن دينهم فتهلكوا {وَمَنْ
يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ
اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ *
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ *
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
{البقرة: 130-132}.
أيها المسلمون: كل مؤمن يعلم أن القرآن حق من عند الله تعالى، وحين
يقرؤه يجد مئات الآيات تحتفي بالرسل عليهم السلام، وتذكر أخبارهم وأحوالهم، وتنوه
بصفاتهم وأخلاقهم، وتدعو للتأسي بهم، في سرد قصصي يملك القلوب، ويأخذ النفوس، ولكن
كثيرا من المسلمين يهجرون القرآن، وكثير ممن يقرؤون لا يتدبرون، فيحرمون الانتفاع
بما ذكر الله تعالى عن رسله عليهم السلام.
إننا في زمن قدمت فيه القدوات السيئة، وأبرزت في
الإعلام الفاسد على أنها حسنة حتى اعتنى كثير من الشباب والفتيات بأخبار من لا
خلاق لهم من الكفرة والشهوانيين، وأعرضوا عن سير الرسل الكرام عليهم السلام، فلم
يتأثروا بهم، ولم يتخذوهم قدوة لهم، والله تعالى يقول {أُولَئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].
إن المؤمن إذا قرأ حفاوة الله تعالى برسله عليهم
السلام ملك قلبه حبهم؛ لأنه يحب الله تعالى ويحب من احتفى به من خلقه. ومحبة الرسل
من أوثق عرى الإيمان؛ لأنها من الحب الخالص لله تعالى ومن الإيمان بالغيب؛ فإن
محبهم لم يلقهم، ولا يرجو منهم نفعا دنيويا.
وإذا أحبهم بسبب حفاوة الله تعالى بهم أحب
المزيد من سيرهم، وتدبر في القرآن قصصهم، وبحث في السنة عن أخبارهم، فعرف أقوالهم
وأفعالهم وأحوالهم، فتأسى بهم. وأبغض أعداءهم من الكفار والمنافقين، فتعبد لله
تعالى بالولاء والبراء، وتخلق بالصبر واليقين، وكان مستعدا لمواجهة كيد أعداء
الأمة من الكفار والمنافقين؛ فإن الرسل عليهم السلام قد أوذوا في سبيل الله تعالى
فصبروا واتقوا وأيقنوا حتى أظهرهم الله تعالى على أعدائهم، وأورثهم الأرض من بعدهم
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:
24] فاعرفوا قدر الرسل عند الله تعالى، وتعلموا سيرهم وأخبارهم وأخلاقهم؛ لحياة
قلوبكم، وزكاء نفوسكم، واستقامتكم على أمر ربكم سبحانه وتعالى.
وصلوا وسلموا على نبيكم..