أي مستقبل ينتظر القطاع؟

بعد ما يقرب العام من العدوان الصهيوني المستمر على غزة، لا تبدو أن ثمة اتفاقات سلمية وشيكة لكن الخطة العسكرية التي يقترحها نتنياهو وحكومته اليمينية شديدة الخطورة على مستقل قطاع غزة وفلسطين بالكامل


بعد قرابة العام من الحرب الإسرائيلية المستعرة على قطاع غزة وبالتوازي مع قيام قوات الجيش الصهيوني بشكل منهجي بتدمير المباني على طول الحدود بين مصر وفلسطين، مما أدى إلى إنشاء ممر عسكري يعزل غزة تماما عن الجانب المصري، لا يزال الحكم المستقبلي للقطاع بعد انتهاء الحرب مسألة خلاف بين مختلف الطوائف السياسية الإسرائيلية، فبينما تدعو المعارضة إلى وقف الحرب واستعادة الأسرى، تنادي كافة مكونات الائتلاف الحاكم بقيادة بنيامين نتنياهو إلى حرية عمل طويلة الأمد للجيش في غزة، وهم يتفقون على أن الحكم العسكري للقطاع يجب أن يستمر لسنوات عديدة بعد الحرب.

السيطرة على الممرات

خلال 11 شهرًا من الحرب، أعاد الجيش الإسرائيلي تشكيل غزة لتناسب احتياجاته، إذ هدمت إسرائيل المباني بعمق كيلومتر واحد على الحدود بين غزة ومصر، مما سمح لهم بحرمان سكان غزة بشكل دائم من 16٪ من أراضي قطاعهم الضيق بالأساس، بما في ذلك أراضيهم الزراعية، كما أجبرت إسرائيل مئات الآلاف من سكان غزة على مغادرة الجزء الشمالي من المنطقة وأمّنت طريقًا عسكريًا يمنع عودتهم، مع الحد من مرور المساعدات الإنسانية إليهم.

تسيطر إسرائيل على معبر رفح، الذي كان حتى شهر مايو الماضي هو المنفذ الوحيد لقطاع غزة إلى العالم الخارجي الذي لا تسيطر عليه إسرائيل، ازدادت الأمور سوءًا الآن مع سيطرة إسرائيل على ممرين استراتيجيين في قطاع غزة، وهما:

* ممر فيلادلفيا:

يقع هذا الممر ـ المعروف أيضا باسم ممر صلاح الدين ـ بطول 14 كيلومترًا (8.6 ميل) على طول الحدود بين غزة ومصر، وهو عبارة عن شريط ضيق بعرض 100 متر عرضًا في بعض الأجزاء، وسبق وأن صرّحَ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن السيطرة على ممر فيلادلفيا ضروري لمنع المقاومة من تجديد ترسانتها من خلال أنفاق التهريب مع مصر، إذ تزعم إسرائيل أن المقاومة استخدمت شبكة واسعة من الأنفاق تحت الحدود لاستيراد الأسلحة، مما سمح لها ببناء الترسانة العسكرية التي استخدمتها في هجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، يأتي ذلك بالرغم من أن مصر ترفض هذه المزاعم، وتؤكد أنها دمرت مئات الأنفاق على جانبها من الحدود قبل سنوات وأقامت منطقة عسكرية عازلة خاصة بها من جانبها.

 

 تعتزم حكومة نتنياهو التي يسيطر عليها وزراء من اليمين المتطرف، تحويل مدينة غزة المدمرة إلى منطقة عازلة خالية تماما من السكان في الشمال، وربما تتشكل خطط جديدة في وقت لاحق لإعادة استعمارها بالكامل

* ممر نتساريم:

يمتد ممر نتساريم الذي يبلغ طوله حوالي 4 أميال (6 كيلومترات) من الحدود الإسرائيلية إلى الساحل بجنوب مدينة غزة مباشرة، مما يقطع أكبر منطقة حضرية في القطاع وبقية الشمال عن الجنوب، يقوم جيش الاحتلال الصهيوني بغارات من قاعدتين أماميتين تم إنشاؤهما على طول هذا الممر، كما يقوم ببناء مباني جديدة على الساحل في نهاية هذا الممر، حيث يهدف من وراء ذلك إلى تأمين وصول العتاد والذخيرة عن طريق البحر، وهناك سبب آخر يروّج له الاحتلال وهو تأمين تسليم المساعدات الإنسانية التي وعدت بها الولايات المتحدة في بداية مايو، وتزعم إسرائيل أن هذه المنشآت مؤقتة، لكن في الحقيقة فإنها تمثل أمرًا واقعًا يمكن أن يستمر لفترة طويلة.

منطقة عازلة

تعتزم حكومة نتنياهو التي يسيطر عليها وزراء من اليمين المتطرف، تحويل مدينة غزة المدمرة إلى منطقة عازلة خالية تماما من السكان في الشمال، وربما تتشكل خطط جديدة في وقت لاحق لإعادة استعمارها بالكامل، ترى المعارضة الإسرائيلية أن عودة سكان غزة إلى الشمال قد تشكل دفعة إيجابية في المفاوضات الجارية مع المقاومة، من أجل إطلاق سراح الرهائن، وقد تم تقديم اقتراح بهذا الشأن في القاهرة في نهاية شهر إبريل الماضي، لكن هذا المقترح يستدعي انسحاب القوات الإسرائيلية من الطريق الذي يمر عبر وسط القطاع، وهو ما ترفضه حكومة نتنياهو.

من غير الواضح ما إذا كانت الانسحاب الإسرائيلي من هذه الممرات كان مدرجًا في اقتراحات وقف إطلاق النار السابقة التي دعمتها الولايات المتحدة، وفيما يتحدث المسؤولون الإسرائيليون علنًا عن رغبتهم في البقاء الدائم في تلك الممرات الحيوية، تقول المقاومة إن أي وجود إسرائيلي دائم في غزة سيكون بمثابة احتلال عسكري، أما مصر ـ التي تعمل كوسيط رئيسي في المحادثات المستمرة منذ شهور ـ تعارض بشدة أيضًا الوجود الإسرائيلي على الجانب الآخر من حدودها مع غزة، تحديدًا في ممر فلادلفيا.

رفـض تـام

تعارض المقاومة ومصر الوجود الإسرائيلي في قطاع غزة تحت أي ذريعة من منطلق أن السيطرة الإسرائيلية على ممري فيلادلفيا ونتساريم تتطلب إغلاق الطرق، وبناء الأسوار، وأبراج الحراسة، وغير ذلك من المنشآت العسكرية، وتعتبر نقاط التفتيش من بين أكثر مظاهر الحكم العسكري الإسرائيلي المفتوح على الضفة الغربية، وقطاع غزة قبل انسحابها منه في عام 2005م، واتهمت المقاومة نتنياهو بوضع شروط الوجود العسكري في القطاع من أجل تخريب المحادثات، لأنه يدرك جيدًا أن المقاومة الفلسطينية سترفضها، أما مصر فتعتبر العمليات الإسرائيلية على طول الحدود تهديدًا صريحًا لمعاهدة السلام التي تمّ توقيعها في عام 1979م، وسبق وأن رفضت فتح معبر رفح من جانبها حتى تعيد إسرائيل الجانب الفلسطيني من المعبر إلى السيطرة الفلسطينية.

 

 في خطوة جديدة منه لإطالة أمد الحرب؛ صرح نتنياهو في مناسبات عديدة أنه يعارض عودة السلطة الفلسطينية لحكم غزة أو استمرار وجود المقاومة، وفي وقتٍ لاحق قرر تشكيل حكومة عسكرية صهيونية في غزة لإدارة شؤون السكان

على الجانب الآخر؛ تقول إسرائيل إن نقاط التفتيش ضرورية للأمن، لكن الفلسطينيين ينظرون إليها باعتبارها انتهاكًا مهينًا لحياتهم اليومية. كما ينظر إليها العديد من الفلسطينيين باعتبارها مقدمة لاحتلال عسكري دائم وعودة المستوطنات اليهودية، وهو ما دعا إليه شركاء نتنياهو في الائتلاف اليميني المتطرف علنًا، ورغم أن الولايات المتحدة تقول علنًا إنها ضد أي إعادة احتلال لغزة أو تقليص أراضيها، لكنها لم تقم بأي خطوة صريحة وعملية لمنع هذا التواجد العسكري على أراضي القطاع، وهو ما يعني أنها توافق ضمنيًا على بقاء القوات الإسرائيلية في القطاع.

حكومة عسكرية

في خطوة جديدة منه لإطالة أمد الحرب؛ صرح نتنياهو في مناسبات عديدة أنه يعارض عودة السلطة الفلسطينية لحكم غزة أو استمرار وجود المقاومة، وفي وقتٍ لاحق قرر تشكيل حكومة عسكرية صهيونية في غزة لإدارة شؤون السكان، مع تولي جيش الاحتلال مسؤولية توزيع المساعدات بالقطاع بدلاً من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الإنسانية، يأتي هذا القرار في أعقاب تعيين العميد إيلاد غورين، كحاكم عسكري لقطاع غزة، المسمى الوظيفي المعلن هو أنه مسؤول عن الجهود الإنسانية المدنية في القطاع وإصلاح البنية التحتية المحلية التي دمرتها الحرب، لكن في الواقع فإنه سيتولى القضايا التكتيكية اليومية.

جيش الاحتلال اعترض على قرار نتنياهو على أساس أنه يشكل خطرًا على الجنود، وزير الدفاع يوآف جالانت حذر من أن تشكيل حكومة عسكرية في غزة سيتطلب قوات كبيرة وسيكلف كثيرًا من الأرواح، أما رئيس الأركان هيرتسي هاليفي عارض في المناقشات الأخيرة لحكومة الاحتلال توزيع المساعدات من قبل الجيش الصهيوني، مدعيًا أن ذلك يشكل خطرًا غير ضروري، كما أنه سيفتح باب الضغوط الدولية ضد إسرائيل، ناهيك عن أن مسألة التحكم في توزيع المساعدات في غزة يعني أن مسؤولية إسرائيل في قطاع غزة ستستمر وربما تتوسع على مدى السنوات القليلة المقبلة.

سيتطلب وجود حكومة عسكرية في غزة نحو 400 شخص للعمل في تلك الحكومة، ومن ناحية القوة العسكرية؛ ستكون هناك حاجة إلى وجود 4 فرق هجومية وفرقة دفاعية، كما أن نقل القوة البشرية إلى القطاع سيتطلب تقليص عدد الفرق في القيادة الشمالية والقيادة الوسطى، بالإضافة إلى زيادة كبيرة في نطاق الاحتياطيات للتوظيف العملياتي. من ناحية الكلفة المادية؛ يقدّر الجيش الصهيوني أن الحكم العسكري في غزة سيكلف حوالي 40 مليار شيكل (10.7 مليار دولار) سنويًا، ناهيك عن دفع تكلفة لم تتحدد حتى الآن لعمليات إعادة بناء البنية التحتية في القطاع، وبالنسبة لتفاصيل تشغيل معبر رفح لمرور الأفراد والوقود، فإن رؤية حكومة نتنياهو تتضمن تواجدًا إسرائيليًا خارج المعبر لحمايته من هجمات المقاومة ومنع غير المسموح لهم بالسفر عبر المعبر.

مستقبل المحادثات والحرب

يرى زعماء المعارضة وعائلات الرهائن الإسرائيليين في غزة أن موقف نتنياهو المتشدد بشأن الممرات يعيق الجهود الرامية إلى التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة واتفاقية تبادل الأسرى مع المقاومة، وإذا فشلت المحادثات الجارية الآن فهذا يعني تأخر التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وهو ما من شأنه أن يطيل أمد الحرب التي أسفرت بالفعل عن استشهاد أكثر من 40 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وإصابة 94761 شخصًا، ونزوح الغالبية العظمى من سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، وتدمير جزء كبير من المباني والمنشآت والبنية التحتية، وتواجه إسرائيل بالفعل اتهامات بالإبادة الجماعية بسبب أفعالها في غزة أمام محكمة العدل الدولية.

لا تزال المقاومة تحتجز نحو أكثر من 100 أسير من  الذين تم أسرهم في هجوم طوفان الأقصى، ولم تنقذ إسرائيل سوى 7 رهائن من خلال العمليات العسكرية، ووفقًا لرواية السلطات الإسرائيلية فإن نحو ثلث الرهائن الباقين قد لقوا حتفهم بالفعل، والبقية معرضون للخطر مع استمرار الحرب.

خطة اليوم التالي

طوال الأشهر الماضية، تحدثت تقارير عبرية متعددة عن خطط أخرى لليوم التالي للحرب يعمل عليها طاقم اسرائيلي مكون من منسق حكومة الاحتلال في المناطق الفلسطينية وجهاز الشاباك، لعل أبرزها التي تقوم في مرحلتها الأولى على تشكيل حكومة عسكرية إسرائيلية مؤقتة ستتولى مسؤولية الأمن والقضايا الإنسانية، وفي المرحلة الثانية سيتم إنشاء تحالف دولي تشارك فيها دول عربية بغرض تولي حكم القطاع، وسيكون هذا التحالف جزءًا من اتفاق تطبيع إقليمي وسيشكل كتلة تسمى "السلطة الفلسطينية الجديدة" التي ستضم أشخاصًا ليسوا مقربين من المقاومة أو فتح، وستقوم السلطة الجديدة بإجراء إصلاحات في قطاع غزة والضفة الغربية، من حيث تعديل مناهج التعليم وغيرها، وفي المرحلة التالية عندما تنضج الظروف لذلك، سيتم استبدال التحالف الدولي بحكومة فلسطينية.

الخطة الإسرائيلية تلك قُدِّمَت لجهات أمريكية وأوروبية رسمية، وطبقا للخطة يبقى لإسرائيل الحق في العمل أمنيًا في قطاع غزة بذات الطريقة التي تعمل فيها في الضفة الغربية، وحال نجحت هذه الخطة والمخطط لها أن تستمر ما بين عامين لأربعة أعوام، ستعترف إسرائيل بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، وستناقش منحها أراضي إضافية شريطة ألا يؤدي ذلك لإخلاء مستوطنات.

بالرغم من الترويج لهذه الخطة وغيرها من الخطط المماثلة، إلا أن نجاحها قد يبدو بعيد المنال، خاصةً وأن نجاح وجود حكومة عسكرية صهيونية في غزة يتطلب توافر مجموعة من الشروط الموضوعية والظروف الميدانية التي هي غير متاحة في حالة غزة الآن، وأهمها قبول المؤسسة العسكرية في إسرائيل لمثل هذا الخيار، والقضاء على المقاومة الفلسطينية بحيث لا تشكل تهديدًا مؤثرًا للقوات الصهيونية، وهو أمرٌ مستبعد الحدوث في ظل ما نلاحظه من عمليات نوعية للمقاومة بالرغم من دخول الحرب شهرها الـ 12، يُضاف إلى كل ذلك ضرورة وجود طرف محلي يقبل التعاون مع الاحتلال وقادر على التأثير على الجماهير من أجل إنفاذ هذا المخطط، وهو أمر لن يكون متاحا لا الآن ولا غدا لأنه أقرب ما يوصف به أنه خيانة.

أعلى