من المنتصر ومن المهزوم؟

من الذي يحقق انتصارًا حتى الآن في الحرب الدائرة في غزة؟ هل هي قوات الاحتلال الصهيوني أم كتائب المقاومة الفلسطينية؟ ما هو مقياس النصر والخسارة في هذه المعركة؟ وكيف نقيم نتائج تلك الحرب؟

 

انتشرت في الآونة الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام والصحف مقولات كثيرة، تتمحور حول أنه بما أننا نقترب من عام على حرب الطوفان، فمن حقنا نتساءل ماذا جنى الفلسطينيون من هذه الحرب سوى الإبادة الجماعية وقتل الأطفال والنساء، ناهيك عن الدمار الهائل الذي حل بالقطاع وتسوية بما لا يقل عن ٨٠٪ من مبانيه بالأرض، فضلا عن تهجير السكان من مناطقهم حتى أصبح السكان لا يدرون أي مكان يتجهون ويذهبون.

في المقابل يرى فريق آخر أن المقاومة الفلسطينية قد وصلت في هذه المعركة إلى القدرة على تحدي الكيان الصهيوني، وطالما قد بقيت موجودة فهي لم تهزم حتى الآن فهذا معناه انتصارها، كما أنها نجحت في جعل القضية الفلسطينية في الصدارة بعد ما كان على وشك الجميع نسيانها.

فأي الفريقين على حق: من يدعي هزيمة الفلسطينيين وانتصار الكيان الصهيوني أم العكس؟

للإجابة على هذا التساؤل يلزمنا وضع مقاييس علمية صحيحة للنصر والهزيمة، مقاييس بعيدة عن الأهواء والتحزبات، مقاييس تنظر إلى مصلحة الأمة ككل لا مصلحة فصيل أو دولة أو جماعة.

نظريات النصر والهزيمة

هناك عدة نظريات تداولها علماء السياسة ليحددوا بها معايير النصر والهزيمة في الحروب العسكرية:

النظرية الأولى تتعلق بالتفرقة بين الحروب التقليدية وغير التقليدية، وأحيانا يطلقون عليها الحروب المتناظرة وغير المتناظرة.

فالحروب التقليدية أو المتناظرة وهي عادة تتم بين الدول أو جيوش كل منها، فتكون معايير النصر والهزيمة محددة ومعروفة سلفا.

فكل من طرفي الحرب يعلن أهدافا قبلها، تتمثل في احتلال طرف أراضي الطرف الآخر، بينما يكون هدف الطرف الآخر صد الهجوم وأحيانًا ينتقل من الدفاع إلى الهجوم.

فإذا نجح أحدهم في تنفيذ هدفه يكون قد انتصر، وبالتالي فالطرف الآخر يكون منهزمًا، وأحيانًا يظل الوضع سجالاً، كما يحدث الآن في أوكرانيا.

فالروس قد وضعوا هدفا في بداية غزوهم لأوكرانيا يتمثل في احتلال العاصمة ومن ثم إنهاء الحرب سريعا، ولكنهم فشلوا واستبدلوا الهدف باحتلال مقاطعات مجاورة للحدود الروسية والتي تضم جاليات من أصل روسي وضمها إلى الدولة الروسية، ثم مهاجمة مقاطعات أوكرانية أخرى لإرغام أوكرانيا على إعلان هزيمتها لترضى بالشروط الروسية.

ولكن أوكرانيا ومن ورائها الغرب ساند الجيش الأوكراني ليصد الهجوم على العاصمة والمقاطعات الأخرى، ثم تقدم داخل الأراضي الروسية ليحتل إحدى مقاطعاتها ليحاول المفاوضة على انسحاب متبادل لطرفي الحرب من أراضي الآخر.

فهنا مقياس الهزيمة والنصر واضح وجلي ومادي.

ولكن في الحروب غير التقليدية أو غير المتناظرة، فإن المقياس مختلف، ونادراً ما يصل الطرفان المتقاتلان إلى تحقيق نصر تقليدي واضح، بسبب غياب التماثل لدى كل من الطرفين المتحاربين.

حيث يكون طرفا الحرب عبارة عن دولة وجيشها في طرف، بينما يكون الطرف الثاني مجموعات عسكرية أو ميليشيات، فالحرب عندها كر وفر وليست مواجهات مباشرة، ولذلك يطلق عليها في العلوم السياسية والعسكرية حروب العصابات.

 

يعرّف روبرت ماندل مفهوم النصر في كتابه "معنى النصر العسكري"، بأنه "إشارة إلى نقطة تحوّل ونهاية"، كذلك يتم الحكم عليه من خلال معايير سياسية وليس عسكرية صرفة.

فالجيوش في الحروب غير التقليدية تواجه مجموعات عسكرية مختلفة عنها تمامًا في موازين تكون فيها لصالح الدولة وجيشها، الذي يبادر في البداية إلى احتلال أراضي الطرف الآخر والذي يتحول سريعًا كما هو يخطط لحروب عصابات تستنزف الجيش المهاجم، بينما يلجأ الجيش إلى محاولة اختراق المجموعات المسلحة لاغتيال رؤوسها وزعمائها، وخلخلة الترتيب القيادي في تلك المجموعات.

بينما تعتمد المجموعات أو العصابات أو الميليشيات المقاتلة على الضربات المركزة ضد الجيش التقليدي ثم تختبئ بين السكان أو في الجبال أو في دول الجوار أو في الأنفاق، أو في أي مكان لا يستطيع الجيش استخدام قواته ومعداته وأسلحته التي يتفوق فيها على تلك المجموعات.

وفي حالات تاريخية محدودة استطاعت الجيوش التقليدية أن تتفوق في حرب العصابات، بينما في معظم الحروب من تلك النوعية تتمكن المجموعات المسلحة من الصمود والثبات.

ولكن وفق هذه النظرية فإن تحديد المنتصر في الحرب التقليدية وقليل من الحروب غير التقليدية يبدو سهلا وليس فيه إشكالية، فهناك معيار مادي ملموس كما ذكرنا سابقا يعتمد على أساس عدد القتلى، والخسائر المادية، والأراضي، والاستيلاء على العواصم، وكسب القلوب والعقول، وتحقيق الأهداف المحددة مسبقا.

وفي الإجمال يتحقق النصر الواضح، باعتراف أحد الأطراف بالهزيمة، أو توقيع اتفاقية أو معاهدة سلام تقر نتائج الحرب لمصلحة أحد الطرفين، أو إعلان الاستسلام، أو إعلان الفصيل المقاتل أنه قد وضع السلاح أو طلب العفو العام.

ولكن في معظم الحروب غير التقليدية، فمعيار النصر يبدو هلاميًا وصعبًا، فهو ليس بالضربة القاضية بل بالنقاط.

ولكن من يحتسب النقاط؟

فتقدير النصر ليس مقياسًا ملموسًا، فهو يعتمد على الانحيازات الشخصية، والبعد الأيديولوجي وأحيانا الأهواء، فالنفس البشرية مفطورة غريزيًا ونفسيًا على المقولة الأولية: أنا فزت، هو خسر.

النظرية الثانية لوضع معايير النصر والهزيمة تعتمد على الرؤية الاستراتيجية:

فالنصر الاستراتيجي وفق تلك الرؤية، ليست صيغة تعتمد على البعد العسكري فقط بل تجمع أبعاد الصراع كلها وأولها بالطبع السياسي.

يعرّف روبرت ماندل مفهوم النصر في كتابه "معنى النصر العسكري"، بأنه "إشارة إلى نقطة تحوّل ونهاية"، كذلك يتم الحكم عليه من خلال معايير سياسية وليس عسكرية صرفة. ويرى ماندل "أنه من دون فهم ما يعنيه النصر على وجه التحديد، فإن النتيجة يمكن أن تنطوي على شلل سياسي، وفقدان الدعم الشعبي، وتصاعد أعمال العنف بعد الحرب، وبالتالي فشل السياسة الخارجية".

ولكن ما هي معايير الانتصار وفق نظرية الاستراتيجية؟

 

فعندما تجبر عدوك على الاستسلام دون أن تطلق رصاصة واحدة أو تسقط ضحية واحدة تكون حققت نصرا إستراتيجيا، أما إن ظل عدوك يقاوم رغم فارق القوة، ، فإن الحرب تصبح معركة إرادات

أولى هذه المعايير هي عدالة القضية:

وهذا ما قاله المفكر الإستراتيجي كارل فون كلاوزفيتس حين كتب: أن المدافع وإن كان ضعيفا ماديا فهو الأقوى، على المدى البعيد، ذلك أن فاعلا مهما يشكل حاضنة للقضية العادلة، وهو الرأي العام محليا، وفي بعض الحالات دوليا أيضا.

وهذا على ما يبدو ما كان يقصده وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، في خطاب له أمام منتدى ريغان الدفاعي في ولاية كاليفورنيا أوائل شهر ديسمبر الماضي، حين حذر الكيان الصهيوني من هزيمة إستراتيجية إذا لم يلتزم بحماية المدنيين في غزة.

وقال "لا يمكن الانتصار بحرب المدن إلا من خلال حماية المدنيين. لأنه في هذا النوع من الحروب نقطة الارتكاز هي السكان المدنيون. وإذا دفعتهم إلى أحضان العدو، فإنك تستبدل النصر التكتيكي بهزيمة إستراتيجية. لذا، أوضحت مرارا للقادة الإسرائيليين أن حماية المدنيين الفلسطينيين في غزة هي مسؤولية أخلاقية وحتمية إستراتيجية".

أما المعيار الاستراتيجي الثاني فهو عدم انكسار الإرادة:

أي يظل الطرف الأضعف ثابتًا على أهدافه ومبادئه دون لين او انكسار أمام أعدائه.

فلجوء الطرف الأقوى إلى سياسة الصدمة والترويع في ضربته العسكرية للطرف الأضعف يهدف منه إلى كسر إرادته في الصمود، حيث تعتمد الصدمة والترويع للأقوى على التأثير النفسي في جمهور الطرف الأضعف أو الرأي العام الحاضن له، بفعل الدمار الحاصل في البنى العسكرية والمدنية وما يسببه من يأس ومعاناة للناس في سبل معيشتهم للتسليم بالهزيمة.

ولكن بصمود الطرف الأضعف للصدمة والترويع، واستيعابه لها، يتبدل الوضع العسكري.

فعندما تجبر عدوك على الاستسلام دون أن تطلق رصاصة واحدة أو تسقط ضحية واحدة تكون حققت نصرا إستراتيجيا، أما إن ظل عدوك يقاوم رغم فارق القوة، ، فإن الحرب تصبح معركة إرادات، ومن يملك النفس الأطول، والقدرة على التحمل، ووحدة الجبهة الداخلية وعدم انقسامها هو من سيحقق النصر الإستراتيجي.

من المنتصر في غزة

عند تطبيق المعايير التي ذكرناها سابقا على الوضع في غزة نجد أن القيادات الصهيونية في فلسطين نفسها لا تعتبر دولتهم منتصرة حتى الآن.

فرئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو يعدّ وقف الحرب في غزة وتبادل الأسرى انتصاراً للمقاومة الفلسطينية، وهو ما يعني أيضاً نهاية مشروعه السياسي بشكل نهائي، لذلك يتشبث بعدم وقف الحرب ويفشل مبادرات وقف القتال بحجج شتى، وألاعيب الحاوي.

ولهذا ينتقده وزير دفاعه غالانت، فقد نقلت القناة 12 للتلفزيون الإسرائيلي قوله خلال اجتماع عقده مع أعضاء لجنة الخارجية والأمن البرلمانية في مكتبه في تل أبيب: أسمع طبولا وثرثرة عن النصر المطلق. من المؤسف أنهم في الغرف (المغلقة) لم يظهروا نفس الشجاعة.

بينما رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق وعضو مجلس الحرب المستقيل غادي آيزنكوت يقول: بعد 11 شهرا على بدء الحرب لم نحقق حتى الآن أيا من أهدافها.

وهذا الجنرال (الإسرائيلي) المتقاعد إسحق بريك يحذر: نحن نغرق في مستنقع غزة، نفقد جنودنا هناك دون أي فرصة لتحقيق هدف الحرب الرئيسي وهو إسقاط حماس، وجميع مسارات المستوى السياسي والعسكري تقود (إسرائيل) إلى الهاوية.

وحتى على مستوى جنود وضباط الجيش الصهيوني فهم لا يعتقدون أنهم قد حققوا أو على وشك تحقيق نصر:

فقد وجه العشرات من ضباط الاحتياط في الجيش الصهيوني رسالة إلى رئيس الأركان هرتسي هاليفي أكدوا فيها أن تحقيق النصر في قطاع غزة لا يزال بعيد المنال.

وعبر هؤلاء الضباط الذين خدموا في قطاع غزة -وفقا للقناة الـ 14 الإسرائيلية- عن اندهاشهم من التصريحات المتكررة من قبل رتب رفيعة في الجيش بأن النصر في متناول اليد، ومن الممكن الانتقال إلى مرحلة المداهمات المركزة فقط.

وأضاف الضباط -الذين قضوا 200 يوم من خدمة الاحتياط في غزة- "نحن الذين أتينا من الميدان نعلم جيدا أن الوضع لا يزال بعيدا عن النصر.

وأكدوا أن العدو لا يزال يملك قدرات عابرة للحدود وطائرات مسيرة وطائرات مسيرة متفجرة وقذائف هاون وبنية تحتية ضخمة للأنفاق والعديد من الإرهابيين الأحياء المستعدين لمواصلة القتال ضدنا، حسب وصفهم.

وأخيرا تحت عنوان (إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة) نشرت صحيفة هآرتس العبرية مقالاً للكاتب الصهيوني الشهير (آري شبيت) يقول فيه:

"يبدو أننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ ولا حل معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال".

وهذا هو بداية النصر الحقيقي الذي يسير في تجاهه أهل فلسطين.

أعلى