سياسة هتلر لكسر قيود معاهدة فرساي

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914-1918) أبرمت معاهدة فرساي للسلام في عام 1919، في قصر فرساي في باريس، حيث فرض الحلفاء المنتصرون (بريطانيا وفرنسا وأمريكا) شروطهم على ألمانيا التي خسرت الحرب، التي وصفت بأنها مذلة وكانت هي مفتاح هلتر للصعود إلى السلطة.

 

 

وفقًا لهذه المعاهدة، أُجبرت ألمانيا على القبول بالشروط العديدة التي أملاها عليها الحلفاء المنتصرون في الحرب، ومنها التخلي عن حوالي 15% من أراضيها للدول المجاورة، وجعل المنطقة الغربية من ألمانيا والمتاخمة لفرنسا وبلجيكا وهولندا منطقة منزوعة السلاح، وتجريد ألمانيا من مستعمراتها في إفريقيا وآسيا، وفرض قيود صارمة على الآلة العسكرية الألمانية، وتقليص الجيش الألماني إلى مائة ألف جندي فقط، والقوة البحرية إلى 15 ألفا فقط، وإلغاء الخدمة العسكرية الإلزامية، ومنع ألمانيا من حيازة سلاح جوي، فضلا عن إلزامها بدفع تعويضات هائلة للحلفاء قدرت وقتها بـ 132مليار مارك ألماني، وغير ذلك من الشروط العسكرية والسياسية والاقتصادية، المجحفة والمذلة والمهينة، حتى أن هناك من قال بأن هدف الحلفاء، وبخاصة فرنسا، من معاهدة فرساي لم يكن هو إقرار السلام والأمن، وإنما كان تركيع ألمانيا والانتقام من جيشها الذي دق أبواب باريس، بحيث لا تقوم لهما قائمة بعد ذلك. ولذلك فقد تسببت هذه المعاهدة في إثارة موجة غضب في الشارع الألماني على القادة الألمان الذين وقعوا عليها، كما نجم عنها تأجيج الشعور القومي الألماني، وبخاصة أنه تلاها حالة من البطالة والركود الاقتصادي في ألمانيا، الأمر الذي مهد لصعود القوى السياسية اليمينية المتطرفة في ألمانيا، وفي صدارتها الحزب النازي (حزب العمال الاشتراكي القومي)، الذي تأسس عام 1920، وتمكن من الوصول إلى السلطة والتفرد في الهيمنة على الدولة والمجتمع في ألمانيا، بزعامة أدولف هتلر (1889-1945)، بعد حصوله على الأغلبية البرلمانية عام 1933. وكانت أهم أولوياته هي إعادة بناء الجيش وتوحيد الأمة الألمانية واستعادة مكانة ألمانيا كقوة عالمية عظمى، وذلك من خلال إلغاء معاهدة فرساي التي اعتبرها ظلمًا وإهانة لألمانيا.

سياسة الفوهرر المعلنة والسرية

بيد أن سياسة هتلر المعلنة في السنتين الأوليين من حكمه، تميزت بالإكثار من التحدّث عن السلام ونبذ الحرب، حتى أنه كان يصرًح للصحافة العالمية بتصريحات مفادها: "أن الحرب لن تقع مرة ثانية"، وأن المانيا "أكثر إدراكًا من غيرها لما تسببه الحرب من شرور"، وأن مشاكل ألمانيا "لا يمكن أن تحل عن طريق الحرب". ولدرجة أنه أعلن للملأ أن ألمانيا لم يعد لها أية مطامع إقليمية في فرنسا، في إشارة إلى تخلي ألمانيا عن مطالبتها بإقليمي الإلزاس واللورين، واللذين هما السبب الأساسي للنزاع بين فرنسا وألمانيا. هكذا كانت سياسة هتلر المعلنة في البداية.

أما سياسته في السر، فقد كانت عكس ذلك تمامًا، فقد تميزت بالسعي المحموم للتسلح والنهوض بالجيش الألماني كمًا وكيفًا، والاستعداد للحرب، والسير في السياسة الخارجية بحذر شديد، لتجنيب ألمانيا أية إجراءات عسكرية وقائية من دول فرساي. وفي 1-1-1934، وفي إطار برنامجه لبناء القوات المسلحة وتزويدها بالسلاح، أصدر هتلر أوامره للجيش بأن يرفع رقم جنوده إلى ثلاثة أضعاف أي من مائة ألف إلى ثلاثمائة ألف، وفي نيسان من العام نفسه، أوعز الفوهرر إلى الفريق لودفيغ بيك (1880-1944)، رئيس أركان الحرب، بأنه سيعلن التجنيد الإلزامي، ويجهر بنقضه للبنود العسكرية في معاهدة فرساي. كما أصدر تعليماته لغوبلز (1897-1945)، وزير الدعاية، بأن لا يسمح للصحف باستعمال عبارة "أركان الحرب" مطلقًا، لأن معاهدة فرساي تمنع وجود مثل هذه الهيئة، وتم إيقاف إصدار القائمة السنوية الرسمية، بأسماء ذوي الرتب منذ عام 1932، مخافة أن تشي القوائم المتضخمة بالضباط بحقيقة ما هو واقع، لدوائر المخابرات الأجنبية، وكأن الفوهرر كان يحفظ معاهدة فرساي عن ظهر قلب.

تمزيق قيود معاهدة فرساي

وفي غضون ذلك شرع الأسطول الألماني في بناء طرّادين (بارجتين) حمولة الواحدة منها 26 ألف طن، أي بزيادة 16 ألفًا على الحد الذي سمحت به معاهدة فرساي. وكان بناء الغواصات التي حظرت معاهدة فرساي على ألمانيا حيازتها، يتم في كل من فنلندا وهولندا وإسبانيا. وفي الوقت نفسه عهد غورينغ (1883-1946) مساعد هتلر الكبير، بوصفه وزيرا للطيران (المدني في الظاهر) إلى المصانع بوضع التصاميم للطائرات الحربية، وبدأ تدريب الطيارين العسكريين فورا تحت لافتة "عصبة الرياضات الجوية". ولم تحل نهاية عام 1934 إلا وقد كان إنتاج الأسلحة بمختلف أصنافها وأشكالها قد بلغ حدًا من الضخامة، بحيث صار متعذرًا إخفاؤها عن دول فرساي، هذه الأخيرة التي خيم عليها القلق والشك، دون أن تستطيع أن تفعل شيئا، حتى أن هذه الدول بزعامة بريطانيا العظمى قد اعترفت بالتسلح الألماني كأمر واقع. وفي10 آذار 1935 أطلق هتلر منطادا للتجربة ليختبر ردود فعل الحلفاء، وأعلن صراحة للصحافة البريطانية بأن ألمانيا صارت تملك قوة جوية عسكرية، لكن الحلفاء لم يحركوا ساكنًا. وفي 16 آذار أصدر هتلر قانونًا يقضي بفرض الخدمة العسكرية الإلزامية العامة، وينص على وجود جيش دائم في أوقات السلم يضم 12 فيلقًا أي 36 فرقة قوامها نصف مليون مقاتل. وعنى هذا القانون نهاية القيود العسكرية لمعاهدة فرساي، واقتصر رد فعل بريطانيا وفرنسا بالاحتجاج دون أن يكون بمقدورهما اتخاذ أية إجراءات عملية مضادة. واحتفل الشعب الألماني بذلك احتفالا منقطع النظير، معتبرا أن الفوهرر قد كسّر قيود معاهدة فرساي التي ترمز إلى هزيمة ألمانيا وإذلالها، وأنه أعاد للبلاد شرفها وكرامتها، الأمر الذي أدى إلى رفع شعبية هتلر إلى أقصى حد.

***

 

أعلى