{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآَخِرِينَ}
الحمد الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك
يوم الدين، هو المحمود قبل حمد الحامدين، وهو المحمود بعد حمدهم، لا ينقطع إحسانه
فلا ينقطع حمده، ولا يستحق الحمدَ الكاملَ سواه، ولا الثناءَ التامَّ إلا إياه،
نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ربَّى عباده بنعمه، وأفاض عليهم من فضله، ووسعهم
برحمته، فكان حقا عليهم حمده وشكره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ رأى فيه جده عبد
المطلب رؤيا فعبرت له بمولود يكون من صلبه، يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل
السماء والأرض، فلذلك سماه محمدا، وحمى الله تعالى أن يتسمّى بمحمد وأحمد غيره قبل
زمانه، فاسمه لا يعرف في العرب، ووافق اسمه وصفه فكان محمودا في السماء وفي الأرض؛
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه،
والهجوا له بالحمد والثناء ولن تبلغوا حمده، ولن تحصوا ثناء عليه كما أثنى هو على
نفسه؛ فهو الرب الكريم، البر الرحيم، العليم الحكيم {وَهُوَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
[القصص:70].
أيها الناس: يحب الإنسان أن يذكر ويحمد وهو الذي خلق ولم يك شيئا،
ومرت أحقاب من الزمن لم يكن فيها موجودا {هَلْ أَتَى
عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1].
هذا الإنسان الذي لم يكن يذكر، يحب أن يذكر
ويحمد ويثنى عليه، يستوي في ذلك الرجال والنساء، والكبار والصغار، وأشراف الناس وسوقتهم.
بل لا يكاد المرء يسعى لشيء سعيه لنيل محامد الناس وثنائهم؛ ولذا كان من أصول
التربية تشجيع المتربي، والثناء عليه إذا أحسن. كما أن مما يقتل الإنسان معنويا،
ويميت مواهبه ومميزاته كثرة ذمه ونقده والقدح فيه والحط عليه.
ولكلمة الثناء حلاوة لا ينساها الممدوح بها،
ولكلمة الذم مرارة تعمل في القلب عملها. ولا يظنن أحد من الناس كبر أم صغر أنه
مستغن عن الثناء والحمد والمدح، ولو لم يبق للإنسان إلا يوم واحد في الدنيا لأحب
أن يسمع فيه ثناء عليه، وحمدا له.
وكان الشعراء قديما وحديثا يمدحون الملأ من
الناس؛ لنيل الحظوة عندهم، والقرب منهم، وكسب أعطياتهم. وكان الكبراء يتخذون ألسنا
وأقلاما تكتب لهم، وتثني عليهم، وتنشر محامدهم، وتعدد مزاياهم، وينفقون على ذلك
طائل الأموال، وصار التملق مهنة يمتهنها بعض الناس ليرفع بها وضيعة غيره بالكذب
والدجل، وقد بالغ المداحون في مدحهم حتى خلعوا صفات الربوبية على بشر مثلهم، نعوذ
بالله تعالى من الكذب والتملق والنفاق.
وكثير مما يصرفه الناس من الحمد والثناء يكون
كذبا؛ ولذا يزول أثره بموت صاحبه. أما الحمد والثناء بصدق فهو الذي يبقى، ولا يكون
ذلك إلا بأعمال خير قام بها صاحبها ولم تصنع له بالألسن والأقلام وليس لها رصيد من
الواقع؛ ولذا سأل الخليل عليه السلام ربه سبحانه أن يبقى ذكره في الآخرين، ولن
يكون ذكرا حسنا إلا بصدق لا بكذب فقال عليه السلام في جملة من دعائه لربه تعالى {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآَخِرِينَ} [الشعراء:84]
أي: ثناء حسنا، وذكرا جميلا، وقبولا عاما في الأمم التي تجيء بعدي، فأعطاه الله
ذلك، فجعل كل أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه؛ فإن اليهود آمنت بموسى وكفرت بعيسى
عليهما السلام، وإن النصارى آمنت بعيسى وكفرت بمحمد عليهما السلام، وكلهم يتولى
إبراهيم عليه السلام، فاليهود والنصارى يحمدونه ويثنون عليه ويدَّعون أنهم أتباعه
حتى نفى الله تعالى ذلك وبين أنه للمسلمين {مَا كَانَ
إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا
وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] وجعل محمدا وأمته أولى الناس به {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ}
[آل عمران:68] وليس أحد يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو يصلي في الغالب
على إبراهيم وخاصة في الصلوات، وعلى المنابر التي هي أفضل الحالات وأعلى المقامات.
قال الله تعالى في الخليل عليه السلام: {وَتَرَكْنَا
عَلَيْهِ فِي الآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي
المُحْسِنِينَ} [الصَّفات:108-110] .
إن الخليل عليه السلام سأل الله تعالى أن يجعل
له لسان صدق في الآخرين، وهو الذي سأل الله تعالى الإمامة لذريته لما أنالها الله تعالى
إياه، فحصر الله تعالى إمامة الدين في الصالحين من ذرية الخليل ببركة دعوته {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] ولحقت
دعوته المباركة ذريته من بعده، فكانوا ألسن صدق يتتابعون عبر القرون من إسماعيل
وإسحاق إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في جماعة كبيرة من الأنبياء والصديقين
والصالحين، بل وإلى آخر لسان صدق من هذه الأمة المباركة، وببركة دعوته المباركة
كانت خير أمة أخرجت للناس من ذريته، وفيها ما لا يحصى من ألسن الصدق من الصحابة
والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
ولسان الصدق الذي جعله الله تعالى للخليل من
بعده هو من أجره وحسنته في الدنيا المذكورين في قول الله تعالى {وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي
الآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:27] وفي قوله تعالى {وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآَخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل:122].
إن الخليل عليه السلام لم
يطلب من ربه تعالى ذكرا في الآخرين وثناء عليه، وأثرا يبقى له بنسب أو ملك أو مال،
وإنما طلب ذلك بالدين، وهو إمام في الدين مجتبى، ورسول مصطفى، حتى كان وحده أمة
قانتا، أُمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعه {ثُمَّ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ
مِنَ المُشْرِكِينَ} [النحل:123].
ولحق الذكرُ الجميل، والثناء الحسن، والمدح
التام بنيه من بعده {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا
إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا
أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ
المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص:45-47]. فأحد وجهي التفسير أن هذه الخالصة
التي اختصهم الله تعالى بها هي الذكر الجميل الذي يذكرون به في الدنيا، وأنه لسان
الصدق الذي سأله الخليل عليه السلام ربه عز وجل.
بل إن الله تعالى خص الخليل وذريته بأعلى الثناء
الذي يمكن أن يثنى به على بشر ويحمدون به {فَلَمَّا
اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا
وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:50] وَالْمُرَادُ بِاللِّسَانِ هَاهُنَا: الثَّنَاءُ
الْحَسَنُ. فَلَمَّا كَانَ الصِّدْقُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ مَحَلُّهُ. أَطْلَقَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْسِنَةَ الْعِبَادِ بِالثَّنَاءِ عَلَى الصَّادِقِ،
جَزَاءً وِفَاقًا. وَعَبَّرَ بِهِ عَنْهُ. فوصف سبحانه ما وهبهم من لسان الصدق الذي يُذكرون به
بأنه عليٌّ، ولا عجب أن يلحق ذلك خاتمهم عليه الصلاة والسلام فيمتن الله تعالى
عليه بقوله سبحانه {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}
[الشرح:4]. فذكره عليه الصلاة والسلام عال مرتفع في الأولين والآخرين، ببركة دعوة
الخليل، واتباعه لمنهجه، والتأسي به.
وأَتباع الرسل عليهم السلام لهم ميراث من لسان
الصدق هذا بحسب إيمانهم وطاعتهم وخدمتهم لدين الله تعالى، ويُبخس حظهم منه بقدر
معصيتهم وبعدهم عن نهج الخليل وذريته عليهم السلام.
قال إِبْرَاهِيمَ بْنَ شَيْبَانَ«مَنْ أَرَادَ
أَنْ يَكُونَ، مَعْدُودًا فِي الْأَحْرَارِ مَذْكُورًا عِنْدَ الْأَبْرَارِ
فَلْيُخْلِصْ عِبَادَةَ رَبِّهِ فَإِنَّ الْمُتَحَقِّقَ فِي الْعُبُودِيَّةِ
مُسَلَّمٌ مِنَ الْأَغْيَارِ».
نسأل الله تعالى أن يمن
علينا بصلاح القلوب والأعمال، وأن يجعلنا من عباده الأخيار، وأن يجنبنا سبل
الأشرار، وأن يجعل لنا لسان صدق في الآخرين، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة
الثانية
الحمد
لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله
وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله
تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي
نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا
شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:123].
أيها
المسلمون: من عدل الله تعالى
أنه يجزي كل محسن بإحسانه في الدنيا، وإن خص المؤمنين بنعيم الآخرة؛ إذ الإيمان
شرط للنجاة والفوز يوم القيامة.
إن الكافر قد يعمل عملا في الدنيا يريد به وجه
الله تعالى كمن يغيث الملهوفين، ويكفل الأيتام، ويسعى على الأرامل والمساكين، ومن
ينصف المظلومين، ومن ينفع الناس بأي نفع لا يريد منهم عليه جزاء ولا شكورا؛ فإن
الله تعالى يجزيه بما عمل مخلصا له حسنات في الدنيا،كما في حديث أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:«إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي
الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ
بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى
الْآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا»رواه مسلم.
ومما يجزى به الكافر من حسنات الدنيا على جميل
ما عمل: بقاء الثناء عليه في الآخرين، كما قد خلد ذكر حاتم طيء بالكرم، وذكر ابن
جُدْعَانَ بصلة الأرحام وإطعام المساكين، وكما جوزي جملة من المخترعين والأطباء
الكفار والمدافعين عن المظلومين ببقاء ذكرهم، وحفظ سيرهم وأفعالهم الحسنة؛ جزاء
لهم على ما قدموا من خير، ولو لم يكن لهم في الآخرة من خلاق ولا نصيب.
والمؤمن يعمل العمل الصالح مخلصا لله تعالى، لا
يريد به ثناء الناس؛ فتسره حسنته، وتسوءه سيئته، ويحب انتظامه في عداد الصالحين،
وأن يثنى عليه بذلك، وفي قول الله تعالى {وَاجْعَلْ
لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآَخِرِينَ} قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: لا
بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا، ويُرى في عمل الصالحين، إذا قصد به وجه الله
تعالى، وقد قال الله تعالى:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ
مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] وقال
تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]، أي: حبا
في قلوب عباده، وثناء حسنا، فنبه تعالى بقوله {وَاجْعَلْ
لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآَخِرِينَ} على استحباب اكتساب ما يورث الذكر
الجميل؛ إذ هو الحياة الثانية، وقد مات قوم وهم في الناس أحياء بمآثرهم، وإنما
الأعمال بالنيات.
قال ابن الجوزي رحمه الله
تعالى: والله، لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه،
والقلوب تنبو عنه، وقدره في النفوس ليس بذاك! ورأيت من يلبس فاخر الثياب، وليس له
كبير نفل ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته، فتدبرت السبب، فوجدته السريرة. كما
روي عن أنس بن مالك: أنه لم يكن له كبير عمل من صلاة وصوم؛ وإنما كانت له سريرة. فمن
أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في السرائر، فإنه
ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر. {إِنَّهُ عَلَى
رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ
وَلَا نَاصِرٍ} [الطًّارق:8-10].
وصلوا وسلموا على نبيكم.