• - الموافق2024/11/29م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
لماذا يبدو الجيش الباكستاني مختلفًا!

أثارت الانتخابات الأخيرة في باكستان كثيرا من التساؤلات حول دور الجيش الباكستاني في السياسة، وما هي الأهداف التي دفعته للتدخل في الحياة السياسية بتلك القوة، وهل نمط التدخل عسكري في السلطة في باكستان مشابهة لما يحدث في الديكتاتوريات العسكرية التقليدية؟


أثار الصدام الذي حدث بين رئيس الوزراء السابق الباكستاني عمران خان والمؤسسة العسكرية الباكستانية والتي انتهت بسجن الرجل بعد توجيه التهم له، استدعاء البعض وتشبيه ما جرى بما حدث في المنطقة العربية في العقود الأخيرة من صدام مماثل، أي بين قوى مدنية منتخبة، ومؤسسة عسكرية متحكمة ومسيطرة.

وقد نتج عن استدعاء التجارب المماثلة، أن خلط البعض بين الحالة والخصائص السياسية للدولة الباكستانية، ومثيلاتها في الشرق الأوسط.

وقد يكون منبع التشابه والخلط هو سيطرة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية وصناعة القرار السياسي في كل من باكستان وبعض النظم الجمهورية في المنطقة العربية، والتي تلعب فيها قيادات المؤسسة العسكرية الدور الحاسم في تحديد توجهات الدولة ومسارها الداخلي وعلاقاتها الخارجية، سواء من وراء الكواليس أو من خلال الحكم المباشر.

ولكن هل هذا الخلط صحيح؟

هل توجهات النخب العسكرية في كل من الحالتين متشابهين أي الحالة الباكستانية والحالة العربية؟

وللإجابة على هذا التساؤل، لابد أولا من دراسة طبيعة النخب العسكرية في دول العالم المختلفة وأنماطها وعلاقتها بالسياسة، ثم نعرج إلى تشريح النخبة العسكرية الباكستانية، من حيث تاريخها وتطلعاتها وتوجهاتها الفكرية وعلاقتها بقوى الداخل والخارج.

أنماط النخب العسكرية وعلاقتها بالسياسة

يمكن حصر الخصائص العامة التي تميز الجيش عن غيره من البنى الأخرى المكونة للدولة في عدة عناصر: احتكار العنف الشرعي داخل المجتمع، والطاعة التامة للأوامر، وامتلاك المعلومات.

وبالتأمل في أحوال النخب العسكرية في دول العالم المختلفة، نجد على العموم أنها لا تخرج من ثلاثة أنماط تحدد اتجاهات هذه النخب وعلاقتها بالسياسة:

النمط الأول

وهذا النموذج يوجد في دول أوروبا واليابان وأمريكا، وبعض الأنظمة الملكية، وفيه تقتصر أدوار النخبة العسكرية على احتراف العمل العسكري، تاركة تحقيق الأهداف الإستراتيجية، وصناعة القرار السياسي للنخب السياسية، فالعسكريون في هذا النمط فهموا أن دورهم هو دور احترافي في المقام الأول، لذلك تتجلى في حروبهم المهنية العالية فهم أصبحوا أكثر تركيزا على دورهم العسكري.

النمط الثاني

ويمثل هذا النموذج أكثر الدول الإفريقية، وبعض الدول في آسيا، وفي أمريكا اللاتينية، كما يشمل أيضا بعضا من الدول العربية، ويتميز هذا النموذج بخصائص أهمها: تدخل النخبة العسكرية في السياسة، وحرصها على أن يكون له الدور الأكبر في صناعة القرار داخل الدول التي يتواجد فيها، وليس كمجرد مؤسسة ضمن مؤسسات أو جهات أخرى تشارك في صناعة القرار.

النمط الثالث:

هو نموذج يتشابه مع سابقه من حيث تسلط الطبقة العسكرية، ولكن في هذه الحالة فإن هذه النخبة لا تميل إلى الظهور بمظهر المسيطرة على الحكم، بل تعهد إليه بمجموعة من الزعماء السياسيين سواء جاءوا عن طريق الانتخاب أو باختيارهم المباشر، وبذلك تظهر البلاد وكأنها تدار بطريقة مدنية ديمقراطية بعيدا عن هيمنة العسكريين، ولكن السيطرة الفعلية على عملية صنع القرار السياسي، وخاصة ما يتعلق منه بالأمور التي تمس أمن البلاد تبقى في يد هذه النخبة.

وعندما تصل الأمور إلى التأزم بين الطبقة العسكرية وبين السياسيين من المدنيين الذين يشكلون واجهة الحكم، فإن العسكريين يتدخلون لإعادة الأمور إلى قبضتهم.

وفي هذا النموذج فإن السلطة السياسية تعاني من وجود انقسام، بين سلطة ظاهرة وهي سلطة رسمية وشكلية تمثلها المؤسسات السياسية المنتخبة، وسلطة خفية تجسدها المؤسسة العسكرية التي تفوض من قبل السلطة الظاهرة بتسيير شئون الحكم.

ولكن أين تقع النخبة العسكرية الباكستانية من هذه الأنماط؟

للإجابة على هذا السؤال يجب علينا البحث في تاريخ المؤسسة العسكرية الباكستانية وتتبع دورها في الحياة السياسية لكي نستطيع تصنيفها وإدخالها في أي من الأنماط السابقة.

 

عند رصد سنوات ممارسة العسكريين الحكم المباشر في باكستان نجد أنها قد بلغت ما يقرب من خمسة وثلاثين عاما في دولة عمرها سبعة وسبعون عاما، أي تقريبا نصف عمرها يحكمها العسكر مباشرة.

تاريخ النخبة العسكرية الباكستانية

ترجع الأصول التاريخية للمؤسسة العسكرية الباكستانية إلى ما قبل الاستقلال عام 1947، إلى المدرسة البريطانية نظرا لاحتلال بريطانيا الهند في نهاية القرن التاسع عشر.

ولكن الجيش الباكستاني في ثوبه الجديد بعد الاستقلال، بدأ أيضا يتوجه تسليحًا وتدريبًا نحو الولايات المتحدة، وبالتحديد في كلية القادة والأركان بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي التي درس فيها الجنرال ضياء الحق ففي خلال فترة الخمسينات من القرن الماضي بدأ إيفاد الضباط الباكستانيين لتلقي التدريب في الولايات المتحدة الأمريكية بدلا من المملكة المتحدة.

ولكن في التسعينات توقف إيفاد الضباط الباكستانيين إلى الولايات المتحدة، بسبب العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على الجيش الباكستاني في تلك الحقبة بسبب البرنامج النووي لباكستان.

ويعود الجنرال ديفيد باتريوس قائد القيادة المركزية للقوات الأمريكية أثناء احتلال أفغانستان، يبدي الحسرة على أن جيلا كاملا من الضباط الباكستانيين لم تتح لهم الفرصة لزيارة الولايات المتحدة.

وبعده صرح وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت غيتس أثناء زيارته لباكستان، إن إعادة بناء العلاقات مع جيل من الضباط الباكستانيين الذين لم يكن لهم أي اتصال بالجيش الأمريكي سيستغرق سنوات.

ويبدو أن الخبراء في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في تقرير صادر أواخر عام 2010، كانوا يعولون على هذه النقطة، فهم يعبرون عن ندمهم في فقدان الوصول إلى جيل قادة العسكريين الباكستانيين بسبب استبعادهم من البرامج التعليمية العسكرية الأمريكية.

كانت الحسرة الأمريكية واضحة، لأن بعد احتلالهم لأفغانستان، وجدوا أن الجيش الباكستاني هو التحدي الأكبر لوجودهم، بممارسته دورا خفيا في دعم طالبان.

تدخل الجيش الباكستاني في السياسة

عند رصد سنوات ممارسة العسكريين الحكم المباشر في باكستان نجد أنها قد بلغت ما يقرب من خمسة وثلاثين عاما في دولة عمرها سبعة وسبعون عاما، أي تقريبا نصف عمرها يحكمها العسكر مباشرة. مع العلم أن النصف الآخر من عمر تلك الدولة والذي حكمه مدنيين، كان للعسكر دورا قويا في السياسة من وراء الكواليس.

وهنا لابد من طرح السؤال التالي: لماذا تحكمت النخبة العسكرية الباكستانية في السياسة بتلك الدرجة، في حين أن الهند المجاورة لها والتي تتشابه معها في كثير من الخصائص السياسية والتاريخية والديموغرافية، والتي استقلت في نفس اللحظة لم تمر بتلك الحالة قط، فقد سيطر السياسيون على زمام الأمور، ولم يتم رصد أي تدخل للجيش الهندي في الحياة السياسية مثلما حدث في باكستان؟

في نظرنا أن تأثير المؤسسة العسكرية القوي في الحياة السياسية الباكستانية يرجع لعدة عوامل:

الأول: الظلم الذي صاحب قيام باكستان، متمثلا في المذابح التي لحقت بالمسلمين الذين أرادوا الهجرة إلى الدولة الوليدة، كما يتمثل أيضا في تقسيم البنجاب، وما حدث في كشمير، وحتى في طريقة التقسيم والتي جعلت باكستان الشرقية بعيدة جغرافيا عن نظيرتها الغربية مما سهل انفصالها بعد ذلك، كل ذلك أجج الشعور بضرورة رد الظلم الذي لحق بالمسلمين والذين لم يجدوا إلا الجيش كملاذ لدفع هذا الظلم.

 

الذي فشل فيه عمران خان هو التعامل البراجماتي والذي أرسته المخابرات العسكرية الباكستانية، حتى أنه في بداية أزمة أوكرانيا، زار روسيا قبل غزوها لأوكرانيا بأيام قليلة، ووثق علاقاته بالصين، ودخل في صراع مع قيادات الجيش

الثاني: الخوف من طغيان الهند، ورغبتها في استعادة باكستان وضمها مرة أخرى إليها، مما أوجد حالة من الالتفاف حول الجيش ليحمي الدولة من مخططات الجوار لابتلاعه.

لقد كانت القوات المسلحة الباكستانية، هي أول مؤسسة في الدولة تمارس مهامها حيث تم تكليفها خلال العام الأول من عمر الدولة بأعمال إغاثة اللاجئين والتدخل في إقليم كشمير.

الثالث: هو فساد الطبقة السياسية وانتهازيتها، وضعف فكرها الإستراتيجي، وبالعكس في الهند فأمثال الحكام الأقوياء المدنيين أصحاب الرؤى الإستراتيجية الكبرى أمثال غاندي ونهرو وأنديرا، كانوا عاملا حاسما في استتباب الأمور لطبقة السياسيين في الهند.

فالسياسيون الباكستانيون والذين كانت لهم رؤية للتغيير، كانوا من طوائف غير سنية كعلي جناح الذي ينتمي للطائفة الإسماعيلية، أو ذو الفقار علي بوتو وهو شيعي، أما باقي الساسة فكانوا فاسدين ومثلت لهم السلطة فرصة للتكسب والتربح، وبسبب ذلك تلاعبت بهما المؤسسة العسكرية الباكستانية.

عمران خان والجيش

وبالرغم من أن مجيء عمران خان للسلطة كانت عن طريق استرضاء جنرالات الجيش، حتى حاز على تأييدهم، إلا أن الرجل كان نظيفا على مستوى التربح من السلطة، ولكنه اصطدم مع الجيش بسبب آخر.

فالمؤسسة العسكرية الباكستانية بداية الثمانينات، وبعد خسارتها بنجلاديش أمام الهند، والتي توالت الأنباء عن انتاجها للسلاح النووي، فضلا عن ازدياد الاضطرابات الداخلية في أقاليم باكستان الأربعة والتي أصبحت تطالب بالانفصال، أدركت أن بقاء باكستان أصبح مرهونا بعاملين: تحكمها أكثر في الحياة السياسية، وإحياء الإسلام كمنهج حياة باعتباره العامل الاستراتيجي في تجميع الباكستانيين على مختلف عرقياتهم.

ومن هذين العاملين جاءت الانقلابات العسكرية، كما تم إطلاق حملة أسلمة المؤسسات الباكستانية ومنها الجيش الباكستاني، وكانت الأداة الرئيسة في ذلك المخابرات العسكرية الباكستانية والتي يرمز لها اختصارا ب(isi)، والتي رسمت استراتيجية جديدة للبلاد تقوم على عدة مبادئ منها: البراجماتية في التعامل السياسي، والتعامل مع الحركات الإسلامية كأداة ضغط سياسي داخلي وخارجي.

فعن طريق البراجماتية، استطاعت باكستان المرور من أكبر أزمة في تاريخها، وهي الحرب التي شنتها أمريكا على طالبان، فبالرغم من الإصرار الباكستاني على حماية طالبان وتوفير المأوى لها، إلا أنها صبرت على الاستفزاز الأمريكي لباكستان، حتى أن الجيش الأمريكي قد شن حربا خفية بالمسيرات على منطقة القبائل الباكستانية، وغض الجيش الباكستاني الطرف عن ذلك، ولعب لعبة ذات وجهين.

والذي فشل فيه عمران خان هو التعامل البراجماتي والذي أرسته المخابرات العسكرية الباكستانية، حتى أنه في بداية أزمة أوكرانيا، زار روسيا قبل غزوها لأوكرانيا بأيام قليلة، ووثق علاقاته بالصين، ودخل في صراع مع قيادات الجيش، الأمر الذي أغضب هذه القيادات فعملت على انتزاع السلطة منه، والذي كان مبررها أن عمران خان يسير بالبلاد نحو الاصطدام مع أمريكا، صحيح أن ضباط الحيش الباكستاني يكنون كرهًا متوارثًا لها بسبب قتلها لضياء الحق، ولكنهم لا يرغبون بالاصطدام خوفًا من دعمها للهند العدو الاستراتيجي لباكستان.

الفرق الأساسي بين الجيش الباكستاني وبين بعض الجيوش التي تتدخل في السياسة، أن قيادات الجيش الباكستاني لها ثوابت تتمثل في الحفاظ على الأمن القومي الباكستاني، وتماسك الدولة، غير الجيوش المسيسة الأخرى والتي تهدف فقط إلى الحفاظ على وضع قادتها وبقائهم في السلطة لأطول فترة ممكنة.

 

أعلى