• - الموافق2024/04/20م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تَعْرِيفُ الرُّسُلِ بِاللهِ تَعَالَى

تَعْرِيفُ الرُّسُلِ بِاللهِ تَعَالَى



الحَمْدُ للهِ العَلِيِّ الأَعْلَى؛ خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ دَلَّ الخَلْقَ عَلَى مَا يُرْضِيهِ، وَأَنَارَ لَهُمُ الطَّرِيقَ إِلَيْهِ؛ فَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الكُتُبَ، وَأَقَامَ الحُجَّةَ، وَقَطَعَ المَعْذِرَةَ؛ {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء:165]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ حَدَّثَ ذَاتَ مَرَّةٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى فَقَالَ: "يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ، وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟"، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَامْلَؤُوا قُلُوبَكُمْ بِحُبِّهِ وَتَعْظِيمِهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ؛ فَإِنَّ مَا فِي الكَوْنِ مِنْ كَثْرَةِ الخَلْقِ لَتَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ، وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ مَا شَاءَهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَلاَ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ؛ {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْء عِلْمًا} [الطَّلاق:12].

أَيُّهَا النَّاسُ: مَعْرِفَةُ اللهِ تَعَالَى هِيَ أَعْلَى المَعَارِفِ، وَالعِلْمُ بِهِ سُبْحَانَهُ هُوَ أَحْسَنُ العُلُومِ، وَالجَهْلُ بِهِ هُوَ أَقْبَحُ الجَهْلِ.

إِنَّ العِلْمَ بِاللهِ تَعَالَى يُغْنِي عَنْ كُلِّ العُلُومِ، وَلاَ تُغْنِي العُلُومُ عَنِ العِلْمِ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَاللهُ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثِ الرُّسُلَ إِلاَّ لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ: مَنْ رَبُّهُمْ؟ وَمَا أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ؟ وَمَا هِيَ أَفْعَالُهُ؟ وَمَا يُرْضِيهِ وَمَا يُسْخِطُهُ؟ وَمَا يُحِبُّهُ وَمَا يَكْرَهُهُ؟

إِنَّ الرُّسُلَ لَمْ يُبْعَثُوا لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ أُمُورَ دُنْيَاهُمْ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ عَلَّمَهُمْ إِيَّاهَا بِالفِطْرَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، وَلِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ تَعَالَى المُسْتَلْزِمَةَ لِعِبَادَتِهِ هِيَ الغَايَةُ مِنْ خَلْقِ الخَلْقِ؛ {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وَلِأَنَّ الدُّنْيَا مَرْحَلَةٌ مُؤَقَّتَةٌ فَلَيْسَ العِلْمُ بِهَا كَالعِلْمِ بِالدَّارِ البَاقِيَةِ وَمَا يَلْزَمُ لِلنَّجَاةِ فِيهاَ.

إِنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ قَدْ تَتَابَعُوا عَبْرَ القُرُونِ الزَّمَنِيَّةِ، وَالأَجْيَالِ البَشَرِيَّةِ عَلَى التَّعْرِيفِ بِاللهِ تَعَالَى، وَدَلاَلَةِ البَشَرِ عَلَيْهِ، مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ.

قَالَ نُوحٌ مُعَرِّفًا بِاللهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْض نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْض بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح:10-20]

وَعَرَّفَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِاللهِ تَعَالَى فقَالَ: {يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52]، وقَالَ أَيْضًا: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]، وَقَالَ لِقَوْمِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:133-134].

وَخَاطَبَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَوْمَهُ مُعَرِّفًا بِاللهِ تَعَالَى فقَالَ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61].

وَأَمَّا الخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَبَلَغَ وَذُرِّيَّتُهُ مِنَ النَّبِيِّينَ الغَايَةَ فِي التَّعْرِيفِ بِاللهِ تَعَالَى، وَتَبَرَّأَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ، وَأَعْلَنَ العَدَاوَةَ لَهُمْ فقَالَ: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ العَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:77-82].

وَفِي مُحَاجَّتِهِ لِلْمَلِكِ الظَّالِمِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258]، وَفِي مُحَاجَّتِهِ لِقَوْمِهِ اسْتَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُحَاجُّوهُ فِي رَبِّهِ سُبْحَانَهُ؛ {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي الله وَقَدْ هَدَانِ}، وَعَرَّفَهُمْ بِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ فقَالَ: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْء عِلْمًا} [الأنعام:80]، وَفِي مَقَامٍ آخَرَ مِنْ تَعْرِيفِهِ بِاللهِ تَعَالَى: {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56]، وَفِي مَقَامٍ ثَالِثٍ قَالَ: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصَّفات:96]، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصَّفات:99].

وَمِنْ ذُرِّيَّةِ الخَلِيلِ يَعْقُوبُ وَيُوسُفُ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، فَأَمَّا يَعْقُوبُ فَخَاطَبَ بَنِيهِ مُعَرِّفًا بِاللهِ تَعَالَى فقَالَ: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْء إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لله} [يوسف:67]، وقَالَ لَهُمْ: {وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]، وقَالَ أَيْضًا: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف:86]، وَنَهَاهُمْ عَنِ اليَأْسِ مِنْ رَوْحِ اللهِ تَعَالَى.

وَأَمَّا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَعَرَّفَ بِاللهِ تَعَالَى وَهُوَ فِي السِّجْنِ، وَقَالَ: {إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لله أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يُوسُف:40]، وَلَمَّا الْتَقَى بِأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ بَعْدَ فِرَاقٍ طَوِيلٍ عَرَّفَهُمْ بِاللهِ تَعَالَى فقَالَ: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [يُوسُف:100] وَفِي دُعَائِهِ لَمَّا مُكِّنَ لَهُ عَرَّفَ بِاللهِ تَعَالَى فَقَالَ: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ} [يُوسُف:101].

وَاسْتَنْكَرَ إِلْيَاسُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى قَوْمِهِ جَهْلَهُمْ بِاللهِ تَعَالَى، وَعَرَّفَهُمْ بِهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخَالِقِينَ * اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الصَّفات:125-126].

وَابْتُلِيَ كَلِيمُ الرَّحْمَنِ مُوسَى بِمَنْ يُنَازِعُ اللهَ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَيُنْكِرُ أُلُوهِيَّتَهُ، وَيُعَبِّدُ النَّاسَ لِنَفْسِهِ، فَاجْتَهَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي تَعْرِيفِهِ بِاللهِ تَعَالَى؛ وَذَلِكَ حِينَ سَأَلَهُ فِرْعَوْنُ فَقَالَ: {وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} ]الشعراء:23-24]، ثُمَّ زَادَهُ مُوسَى تَعْرِيفًا بِاللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُمْسِكْ عَنِ الكَلاَمِ: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، فَرَمَاهُ فِرْعَوْنُ بِالجُنُونِ فَزَادَهُ مُوسَى عِلْمًا بِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَمْ يَخْشَ سَطْوَتَهُ؛ {قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28]، فَهَدَّدَهُ بِالسِّجْنِ فَلَمْ يَخْشَ تَهْدِيدَهُ، وَأَرَاهُ الآيَاتِ المُعَرِّفَةِ بِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى.

وَفِي مَقَامٍ آخَرَ جَادَلَهُ فِرْعَوْنُ فِي اللهِ تَعَالَى، فَعَلَّمَهُ مُوسَى أَحْسَنَ تَعْلِيمٍ، وَاسْتَدَلَّ لِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ بِأَقْوَى دَلِيلٍ: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49-50] يِاللهِ العَظِيمِ! مَا أَعْظَمَ هَذَا الجَوَابَ عَلَى إِيجَازِهِ! وَمَا أَشَدَّ وَقْعَهُ عَلَى القُلُوبِ! مَا أَبْلَغَهُ مِنْ جَوَابٍ! مَا أَعْظَمَهُ مِنْ بُرْهَانٍ! {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، وَهَبَ الوُجُودَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ فِي الصُّورَةِ الَّتِي أَوْجَدَهُ بِهَا، وَفَطَرَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ هَدَى كُلَّ شَيْءٍ إِلَى وَظِيفَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ لَهَا وَأَمَدَّهُ بِمَا يُنَاسِبُ هَذِهِ الوَظِيفَةَ وَيُعِينُهُ عَلَيْهَا.

وَهَذَا الوَصْفُ يُلَخِّصُ أَكْمَلَ آثَارِ الخَالِقِ المُدَبِّرِ لِهَذَا الوُجُودِ: هِبَةُ الوُجُودِ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَهِبَةُ خَلْقِهِ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي خُلِقَ بِهَا، وَهِبَةُ هِدَايَتِهِ لِلْوَظِيفَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا، وَحِينَ يَجُولُ الإِنْسَانُ بِبَصَرِهِ وَبَصِيرَتِهِ فِي جَنَبَاتِ مَا يُدْرِكُ مِنْ هَذَا الوُجُودِ الكَبِيرِ تَتَجَلَّى لَهُ آثَارُ تِلْكَ القُدْرَةِ فِي كُلِّ كَائِنٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ.

وَلَمَّا سَأَلَهُ فِرْعَوْنُ عَنِ الأُمَمِ المَاضِيَةِ رَدَّ عَلَيْهِ مُوسَى مُعَرِّفًا بِاللهِ تَعَالَى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْض مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه:52-53].

وَلَمَّا أَغْرَقَ اللهُ تَعَالَى فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ اجْتَهَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَعَ قَوْمِهِ يُعَرِّفُهُمْ بِاللهِ تَعَالَى وَيَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ، وَرَأَوْا بَعْدَ عُبُورِهِمُ البَحْرَ قَوْمًا عُكُوفًا عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ، وَطَلَبُوا مِنْ مُوسَى مِثْلَ ذَلِكَ فَأَغْلَظَ الإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: {أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العَالَمِينَ} [الأعراف:140]، وَلَمَّا فَارَقَهُمْ إِلَى مِيقَاتِ رَبِّهِ عَبَدُوا العِجْلَ، فَلَمَّا رَآهُمْ بَعْدَ رُجُوعِهِ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَعَرَّفَهُمْ أَنَّهُ لاَ رَبَّ لَهُمْ إِلاَّ اللهُ تَعَالَى فَقَالَ: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْء عِلْمًا} [طه:98].

وَعَرَّفَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِقَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:184]، وَوَصَفَ اللهَ تَعَالَى فَقَالَ: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90].

وَنَسَبَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ المُلْكِ القَاهِرِ، وَالسُّلْطَانِ البَاهِرِ، وَالقُدْرَةِ الفَائِقَةِ للهِ تَعَالَى، وَبَيَّنَ غِنَاهُ وَكَرَمَهُ سُبْحَانَهُ: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40].

وَعَرَّفَ المَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ لَبِنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: {إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [آل عمران:51]، {وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:72].

وَقَالَتِ الرُّسُلُ أَجْمَعُونَ لِلْمُكَذِّبِينَ وَالمُشِكِّكِينَ: {أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} [إبراهيم:10]. وَقَالُوا لِأَقْوَامِهِمْ {اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] وَكُلُّ رَسُولٍ قَالَ لِقَومِهِ {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.  

 وَقَدْ تَضَمَّنَ ذِكْرُ الرُّسُلِ لله تَعَالَى فِي القُرْآنِ تَعْرِيفَهُمْ بِعِلِمِهِ وَإِحَاطَتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ وَآيَاتِهِ وَجَزَائِهِ وَوُجُوبَ عُبُودِيَتِهِ وَالإِنَابَةِ إِلَيهِ.

هَؤُلاَءِ هُمْ رُسُلُ اللهِ تَعَالَى، وَهُمْ أَصْفِيَاؤُهُ، وَهُمْ عِبَادُهُ المُخْلَصُونَ، وَهُمْ خِيَارُ البَشَرِ، قَدْ عَرَّفُونَا بِرَبِّنَا سُبْحَانَهُ فَعَرَفْنَاهُ وَعَظَّمْنَاهُ وَعَبَدْنَاهُ، وَوَاجِبٌ عَلَيْنَا أَنْ نَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ فِي الحَدِيثِ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَالعُبُودِيَّةِ لَهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الحَمْدُ للهِ حَمْدًا يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ العَظِيمَةِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى آلاَئِهِ الجَسِيمَةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَدَبَّرُوا كِتَابَهُ الكَرِيمَ؛ فَإِنَّهُ أَصَحُّ مَصْدَرٍ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، وَكُلُّ مَا فِيهِ حَقٌّ، وَعَلَى قَدْرِ تَزَوُّدِ العَبْدِ مِنْهُ تَزِيدُ مَعْرِفَتُهُ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفَضْلُهُ عَلَى سَائِرِ الكَلاَمِ كَفَضْلِ اللهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ.

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: قَضَى نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا فِي الصِّلَةِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالتَّعَرُّفِ عَلَيْهِ قَبْلَ البَعْثَةِ، وَالتَّعْرِيفِ بِهِ سُبْحَانَهُ بَعْدَهَا، فَحَدَّثَ عَنِ اللهِ تَعَالَى كَثِيرًا، فَبَيَّنَ عَظَمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ، وَذَكَرَ أَفْعَالَهُ وَحِكْمَتَهُ، وَعَلَّمَنَا أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَلَمْ تَكُنِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، وَلاَ عُلُومُهَا مُهِمَّةً عِنْدَهُ، بَلْ قَالَ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُلُومَ الدُّنْيَا الَّتِي أَخَذَتْ بِأَلْبَابِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَسَيْطَرَتْ عَلَى عُقُولِهِمْ، وَفَاخَرُوا بِحِيَازَتِهَا لاَ تُدَانِي فِي الشَّرَفِ وَالبَقَاءِ وَالنَّفْعِ عُلُومَ الوَحْيِ المُتَعَلِّقَةِ بِاللهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ.

فَإِذَا بَهَرَكَ عِلْمٌ مِنْ عُلُومِ الدُّنْيَا فَتَذَكَّرْ أَنَّهُ يَزُولُ، وَإِذَا عَظُمَ فِي نَفْسِكَ اكْتِشَافٌ فِي الأَرْض أَوْ عِلْمٌ فِي بَاطِنِهَا أَوْ مُخْتَرَعٌ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ البَشَرِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَزُولُ، وَأَنَّ الأَرْضَ تُبَدَّلُ، وَأَنَّهُ لاَ يَبْقَى مِنَ العُلُومِ إِلاَّ عِلْمُ الوَحْيِ، وَلاَ يَنْفَعُ الإِنْسَانَ عَلَى الدَّوَامَ إِلاَّ العِلْمُ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَمَّا عُلُومُ الدُّنْيَا فَتَنْفَعُ الإِنْسَانَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ لِيَنْتَقِلَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلانْتِفَاعِ بِعِلْمِ الوَحْيِ فَقَطْ.

إِنَّ عِلْمَ الوَحْيِّ بَاقٍ لاَ يَزُولُ لِأَنَّهُ مِنْ كَلِمَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَأَثَرُهُ يَبْقَى لِأَنَّ أَثَرَ الوَحْيِّ هُوَ الإِيمَانُ، وَجَزَاءُ الإِيمَانِ يَبْقَى فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ وَالرُّضْوَانِ وَالتَّمَتُّعِ بِرُؤْيَةِ اللهِ تَعَالَى.

إِنَّ النَّاسَ عَظَّمُوا العُلُومَ الدُّنْيَوِيَّةَ حَتَّى سُمِّيَتِ العِلْمِيَّةَ، وَرَفَعُوا شَأْنَ أَصْحَابِهَا وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا أَوْ فُجَّارًا، وَحَقَّرُوا عُلُومَ الوَحْيِّ، وَاسْتَخَفَوْا بِهَا، وَمَا كَانَ تَعْظِيمُ كَثِيرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ لِلْكُفَّارِ، وَإِعْجَابُهُمْ بِهِمْ، وَمُوَالَاتُهُمْ لَهُمْ إِلاَّ بِسَبَبِ عُلُومِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَمِنَ الخِذْلاَنِ العَظِيمِ، وَالخُسْرَانِ الكَبِيرِ، وَالجَهْلِ المَاحِقِ أَنْ يَظُنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الكُفَّارَ لَمَّا بَرَعُوا فِي العُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَهُمْ أَعْلَمُ مِنَ المُسْلِمِينَ بِعُلُومِ الغَيْبِ وَسِرِّ الوُجُودِ وَبِدَايَةِ العَالَمِ وَنِهَايَتِهِ، فَرَاحُوا يَدْرُسُونَ الفَلْسَفَةَ الإِلَهِيَّةَ الَّتِي تَقُودُ قَارِئَهَا إِلَى الإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ، وَتَشَرَّبُوا أَفْكَارَ الغَرْبِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالمَبْدَأِ وَالمَعَادِ، وَأَصْلِ الخَلْقِ وَنِهَايَةِ العَالَمِ، وَجَعَلُوهَا قَسِيمَةً لِلْوَحْيِ الرَّبَّانِيِّ، بَلْ قَدَّمُوهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا أَظْهَرَ مَوْجَةَ الشَّكِّ وَالإِلْحَادِ فِي بِلادِ المُسْلِمِينَ، وَتَاللهِ إِنَّهُمْ لَمَخْذُولُونَ، وَأَيُّ خِذْلاَنٍ أَعْظَمُ مِنَ امْتِلاَكِ عَبْدٍ لِمَصَادِرِ الحَقَائِقِ المُطْلَقَةِ فِي سِرِّ الوُجُودِ وَالمَبْدَأِ وَالمَعَادِ فَيَطَّرِحُهَا لِأَجْلِ هَلْوَسَاتِ الفَلاَسِفَةِ وَالمَلاَحِدَةِ؟! نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ الزَّيْغِ وَالضَّلاَلِ.

إِنَّ عَلَى المُسْلِمِ فِي هَذَا الزَّمَنِ أَنْ يَسْعَى جُهْدَهُ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى بِتَدَبُّرِ آيَاتِ القُرْآنِ وَمُرَاجَعَةِ تَفْسِيرِهِ، وَمُطَالَعَةِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَشُرُوحِهَا فِي الأَحَادِيثِ المُخْبِرَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنْ يُرَبِّيَ أَوْلاَدَهُ عَلَيْهَا، وَيَقْرَأَهَا عَلَيْهِمْ، وَيَغْرِسَ فِي قُلُوبِهِمْ مَعَانِيَهَا العَظِيمَةَ؛ لِتُمْلَأَ بِحُبِّ اللهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ وَرَجَائِهِ وَخَوْفِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ مَعْرِفَةَ اللهِ تَعَالَى حَدِيثَهُ الدَّائِمَ فِي بَيْتِهِ؛ فَإِنَّ الصَّوَارِفَ وَالمُلْهِيَاتِ أَصَابَتِ القُلُوبَ بِالقَسْوَةِ وَالصَّدَأِ، وَلاَ يَجْلُوهَا إِلاَّ ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتُهُ، {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد:28].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا..

 

 

أعلى