والحشر يوم القيامة حشران؛ حشر من القبور إلى الحساب، وحشر أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار
الحمد لله المبدئ المعيد، المحيي المميت؛ فعال لما يريد، وهو على كل شيء شهيد،
نحمده على ما هدانا واجتبانا، ونشكره على ما أعطانا وأولانا، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له؛ له المبتدأ والمنتهى، وإليه المعاد والرجعى، وعنده الآخرة
والأولى ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ
ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾
[النساء: 134]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه،
وصفيه من رسله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم
الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعملوا صالحا ليوم فيه تبعثون، وإلى الله تعالى
تحشرون، وعلى أعمالكم تحاسبون وتجزون؛ فإما أعمال تسر صاحبها ويجزى بها في دار
الخلد والنعيم، وإما أعمال تسوء صاحبها فتقوده إلى دار الجحيم ﴿فَأَمَّا مَنْ
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ
حَامِيَةٌ﴾
[القارعة: 6-11].
أيها الناس:
يوم القيامة يوم عظيم طويل ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ
مِمَّا
تَعُدُّونَ﴾
[الحج: 47]، وأحداثه كثيرة ومنوعة، وينتقل العباد فيه من طور إلى طور. ومن أعظم
أحداثه الحشر للحساب، وقد تواردت فيه آيات الكتاب.. في وصفه وغايته وأحوال
المحشورين، كما كشف في السنة النبوية عن أحداث كثيرة في الحشر.
فيحشر الناس كلهم، بل الخلق كلهم من إنس وجن وحيوان ووحش وطير وحشرات؛ فالعقلاء من
الإنس والجن للحساب، وغير العقلاء من العجماوات للقصاص ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي
الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ﴾
[الأنعام: 38]، وقال تعالى ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ
فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾
[الكهف: 47]، وقال تعالى ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ﴾
[التكوير: 5].
يحشرون في أرض مستوية، لا عوج فيها ولا مخبأ لأحد ﴿يَوْمَ
تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾
[إبراهيم: 48]، وفي آية أخرى ﴿لَا تَرَى فِيهَا
عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾
[طه: 107]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«يُحْشَرُ
النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ، كَقُرْصَةِ
نَقِيٍّ»
رواه الشيخان. أي: مثل الخبزة النقية.
ويحشر كل واحد مع نظيره ومثيله في العمل؛ لقول الله تعالى ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا
وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ
إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾
[الصافات: 22-24]، قال ابن عباس رضي الله عنهما:
«يَجِيءُ
صَاحِبُ الرِّبَا مَعَ أَصْحَابِ الرِّبَا، وَصَاحِبُ الزِّنَا مَعَ أَصْحَابِ
الزِّنَا، وَصَاحِبُ الْخَمْرِ مَعَ أَصْحَابِ الْخَمْرِ».
ويميز في الحشر أهل الإيمان عن أهل الكفر والنفاق ﴿وَامْتَازُوا
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾
[يس: 59]، «أي:
تميزوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة؛ ليوبخهم ويقرعهم على رءوس الأشهاد قبل أن
يدخلهم النار»
﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا
مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ
فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ﴾
[يونس: 28]،
«أي:
فرقنا بينهم، بالبعد البدني والقلبي، وحصلت بينهم العداوة الشديدة، بعد أن بذلوا
لهم في الدنيا خالص المحبة، وصفو الوداد؛ فانقلبت تلك المحبة والولاية بغضًا وعداوة»،
وحينها يتبرأ أهل الشر والباطل بعضهم من بعض ﴿إِذْ
تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ
لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ
اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾
[البقرة: 166-167]، ﴿وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ
قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾
[الأنعام: 22-24].
ويحشر أهل الكفر من الجن والإنس الذين اجتمعوا على الشر، كل واحد مع وليه ﴿وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ
وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ
وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ
خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
[الأنعام: 128-129].
والحشر يوم القيامة حشران؛ حشر من القبور إلى الحساب، وحشر أهل الجنة إلى الجنة،
وأهل النار إلى النار ﴿يَوْمَ
نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ
إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ
عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾
[مريم: 85-87].
وأهل الكفر والنفاق تمر بهم أحوال في الحشر لا تسرهم؛ ففي حال يحشرون بعد أخذ
حواسهم أو بعضها؛ فلا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون، وما أشد فقد الحواس في مواضع
الكرب العظيم، قال الله تعالى ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ
عُمْيًا
وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾
[الإسراء: 97]، وفي آيات أخرى ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ
كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾
[طه:124- 126]، فمن عمي عن هدى الله تعالى في الدنيا جوزي بالحشر أعمى ﴿وَمَنْ
كَانَ فِي هَذِهِ
أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾
[الإسراء: 72]. يحشرون إلى النار على وجوههم فما أشده من عذاب ﴿الَّذِينَ
يُحْشَرُونَ عَلَى
وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾
[الفرقان: 34]، وقال رجل:
«يا
نبي الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قَالَ: أَلَيْسَ الَّذِي
أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ
يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
رواه الشيخان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ *
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى
وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾
[القمر: 47-48]. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى
آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ
الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ﴾
[الأنعام: 72].
أيها المسلمون:
في القرآن آيات كثيرة تؤكد على حشر يوم القيامة؛ لئلا يغفل المؤمن عن تذكره،
والتفكر فيه، والعمل الصالح لذلك اليوم العظيم، وفي القرآن تذكير كثير به، مع قرن
هذا التذكير بالأمر بالتقوى؛ لأن التقوى سبيل النجاة والفوز والفلاح ﴿وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ﴾
[البقرة: 203]، وقال تعالى ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ﴾
[المائدة: 96]، وقال تعالى ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ
يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾
[الأنعام: 51]، وقال تعالى ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ
﴾ [الأنفال: 24].
ومن آثار الإيمان بالحشر والجزاء على الأعمال: الاجتهاد في الطاعات، والبعد عن
المحرمات، والحذر من حقوق الناس؛ فإن من علم أنه محشور إلى الله تعالى لم يفر منه
إلا إليه، ولم يلجأ منه إلا إليه، ولن يرجو نجاة إلا به سبحانه؛ وذلك بالإيمان
والعمل الصالح، قال أبو ذر رضي الله عنه:
«حجوا
حجة لعظام الأمور، صوموا يوما شديدا حره لطول النشور، صلوا ركعتين في سواد الليل
لوحشة القبور، كلمة خير تقولها، أو كلمة سوء تسكت عنها لوقوف يوم عظيم».
ومن آثار الإيمان بالحشر: التخلص من المظالم، وإيفاء الحقوق للناس، والحذر من الظلم
كله؛ فمن الناس من يعق والديه وذلك ظلم، ومنهم من يقطع رحمه وذلك ظلم، ومنهم من
يكون سيء العشرة لزوجه وولده وذلك ظلم، ومنهم من لا يأمن جاره بوائقه وذلك ظلم،
ومنهم من يظلم الناس في أموالهم أو يغتابهم أو يعتدي عليهم، وكل ذلك لا يضيع؛ فإن
من علم أن وراءه حشرا وحسابا، وأناسا يريدون حقوقهم؛ أداها لهم في الدنيا قبل أن
يؤديها من حسناته يوم حشره ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا
أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾
[المجادلة: 6].
وصلوا وسلموا على نبيكم...