القمة الفرانكفونية 28
ماذا تبقى لفرنسا من مستعمراتها؟
يُعزى تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا في السنوات الأخيرة، وفقا لتقارير ودراسات
متعددة، إلى أسباب كثيرة، وبالنظر الواقعي لهذه الأسباب، يثور تساؤل: ألم تكن هذه
الأسباب موجودة منذ أن حط الرجل الفرنسي أقدامه ورحاله في القارة الأفريقية؟ وهل
هذه الأسباب إلا نتيجة السياسات الاستعمارية الوقحة الفجة؟ فلماذا لم يتراجع النفوذ
الفرنسي الاستعماري إلا في هذه السنوات؟
ونحن نذكر جملة من هذه الأسباب التي يذكرونها، مع شيء من التعقيب عليها:
فمنها- اعتماد فرنسا آلية التدخل العسكري المباشر، وإنشاء التحالفات العسكرية مع
دول بعينها في غرب أفريقيا.
ونتساءل أيضا: ماذا تفعل دولة استعمارية تريد أن تحافظ على عملية نهب الثروات،
وتأمين تلك العملية، ضد من يريد أن يهدد هذه السرقة المفضوحة، تحت مسمى تهديد
المصالح؟. ليس أمامها إلا استخدام القوة العسكرية، وإنشاء التحالفات العسكرية. وهل
جاءت فرنسا إلى هذه البلاد تحت مسمى السلام؟، أم تحت مسمى الاستعمار والاحتلال بقوة
السلاح؟ وهل تاريخ فرنسا في أفريقيا ليس إلا سلسلة من التدخلات العسكرية والقتل
والقهر والنهب، والتحالفات القائمة على مصالحها الخاصة مع مصالح نخبة ضيقة اصطنعتها
داخل بلدان القارة؟.
ويقال أيضا أن النتائج المباشرة للمقاربات الفرنسية كانت فاشلة في ما يتعلق بتحقيق
الأمن، ورفع مستوى الاستقرار والسلم، وذلك مع ارتفاع مستوى المهددات الأمنية في غرب
أفريقيا.
فإن ممارسة التدخل العسكري المباشر، يستدعي بالضرورة شحذ ودعم مفاهيم المقاومة
للأجنبي، خصوصاً إذا كان مسيحياً في دول نسبة كبيرة من سكانها هم مسلمون، كما يعد
دافعاً لتحريض وتجنيد يبدو فعالاً للتنظيمات المسلحة، وارتفاع قدراتها، مثل بوكو
حرام، التي توسعت في خمس من دول الساحل، وإعادة تموضع لتنظيمي "داعش" و"القاعدة" في
دول غرب أفريقيا.
والسؤال كذلك: ألم يكن ظهور هذه التنظيمات المسلحة إلا بسبب هذا الوجود الاستعماري
الدخيل؟، وهل تدهور الأوضاع الأمنية إلا بسبب ذلك، وما يتبعه من تدهور في الأوضاع
الاقتصادية والاجتماعية؟ لذا، ووفقا لباحثين، كان التركيز الأكبر لهجمات الجماعات
الجهادية في شمال مالي، فيما يُسمى بمنطقة "المثلث الحدودي" الذي تتقاطع فيه حدود
كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، على المؤسسات الأمنية والعسكرية، كونها في نظرهم
السبب الرئيس في وجود الأجنبي المستعمر.
ومن الأسباب- أن تركيز فرنسا في مواجهتها للتهديدات من المنظمات المسلحة، من خلال
آلية "G5"
([1])،
فضلا عن محدوديتها من العنصر البشري، فقد تم إنشاؤها لتكون قوات منفصلة عن جيوش دول
غرب أفريقيا، مما جعل هذه الجيوش تعاني ضعفاً على المستوى التمويلي والتسليحي
والقدرات العسكرية الفنية. وهذه الاستراتيجية الفرنسية مقصودة، بغرض إضعاف الجيوش
الوطنية لهذه لدول، فلا تمثل لها تهديدا مستقبليا، ومن جهة أخرى تظل اعتماديتها على
القوة والقدرة الفرنسية.
لا عجب إذن في ظهور العجز البيّن لدى الأجهزة العسكرية والأمنية، وعدم قدرة الدولة
على التعامل مع الجماعات المسلحة. مما يجعل تدهور الوضع الأمني مرشحا للاستمرار،
وما هذا إلا أحد أسباب عودة ظاهرة الانقلابات العسكرية للقارة.
ومنها- فشل مجموعة "G5"،
لأسباب أخرى، أهمها أنها رغم خططها وبرامجها التنموية والعسكرية، إلا أنه ظلت
مرهونة بالدعم الخارجي، من الشركاء الإقليميين والدوليين، وهو ما حد من نشاطه
وتحقيق أهدافه، لأن معظم وعود وتعهدات الدعم لم يتم الوفاء بها. كما أنه ثلاث من
دول المجموعة الخمس، تحكمها أنظمة عسكرية انتقالية، بعد ثلاثة انقلابات عسكرية
شهدتها مالي وبوركينافاسو، وشبه انقلاب حصل في تشاد، فيما وقعت محاولة انقلابية
واحدة على الأقل في النيجر. ثم آخرا انسحاب مالي من المجموعة ومن قوتها العسكرية،
ومالي تمثل حجر أساس في قلب هذه المجموعة، ولكن الظروف تشير إلى سيناريو انسحاب
محتمل لطرف أو أطراف أخرى، أو أن يتم فتحها أمام عضوية دول جديدة تشترك في تحديات
الأمن والتنمية، كتوغو، وبنين، وساحل العاج.
ومنها- ازدواجية التعامل وفق المنظور المصلحي الفرنسي، مما أدى إلى تدهور صورة
فرنسا عند النخبة الإفريقية، مما عزز الأصل وهو عدم مصداقية باريس في تحقيق أية
تنمية اقتصادية، وأن مؤشر التعاون يقتصر على القضية العسكرية، وأما التعاون
الاقتصادي فيسير في اتجاه واحد فقط لصالح فرنسا. ويؤكد هذا الازدواجية الفرنسية في
دعم القيم الديمقراطية، وإلا فكيف لها أن تقبل بالانقلاب الدستوري الذي مارسه محمد
ديبي ليستولي على الحكم في تشاد خلفاً لوالده المغتال إدريس ديبي، بينما ترفض
الانقلاب العسكري في مالي وتمارس ضده ضغوطاً أسفرت عن طرد سفيرها من باماكو. هذا
يفيد أن كل ما تفعله فرنسا مما ظاهره مصلحة الدول الأفريقية هو في حقيقته تعزيز
تمكنها سيطرتها وتمكنها من الحفاظ على النفوذ الفرنسي في دول القارة.
وفي هذا السياق قد أظهرت نتائج استطلاعات رأي، استندت إلى آراء قادة الرأي في 12
بلدا إفريقياً، تراجع الدور الفرنسي في إفريقيا مقابل صعود تدريجي لمنافسيها، وأن
صورة فرنسا في مكانة متدنية، لتصل إلى المركز السادس بعد الولايات المتحدة وألمانيا
وكندا والصين والمملكة المتحدة.
ومنها- مزاحمة قوى عالمية لفرنسا في أفريقيا، وتصاعد المنافسة، لاسيما مع الصين
خاصة في المجال الاقتصادي، وروسيا خاصة المجالين الاقتصادي والعسكري، وكذلك قوى
أخرى إقليمية كالهند وإسرائيل وتركيا، التي أصبحت شركاء التنمية الجدد للبلدان في
مخيلة الدول الإفريقية، وذلك في ظل تناقص التأثير التقليدي للمؤسسات الدولية كالبنك
الدولي وصندوق النقد الدولي. هذا بجانب التنافس مع الحلفاء التقليديين، كالدول
الأوروبية والولايات المتحدة، وبريطانيا، ففي خلال عشرين عاماً فقدت فرنسا ما يقرب
من نصف حصتها بالسوق الإفريقية، بسبب منافسة حلفائها التقليديين على مناطق نفوذها.
ومن تلك الأسباب أيضا- انشغال فرنسا بمشاكلها الداخلية، والسعي لتحصين أوروبا
دفاعياً بعد الحرب الروسية-الأوكرانية: في الفترة الأخيرة، كثرت في فرنسا مشاكل
وتحديات باتت تشتتها عن لعب دور أكثر تأثيراً في العلاقات الدولية، وخصوصاً في
إفريقيا، ومن بين تلك المشاكل: قضايا الاندماج والتطرف والهجرة وصعود اليمين. ولذا
قررت فرنسا رفع موازنتها الدفاعية من بين إجراءات أخرى ستؤثر حتماً على مشاريعها
للعودة لإفريقيا خصوصاً على صعيد المساعدات والمنح.
لعل ما سبق ذكره وغيره، مما يعده الباحثون، من جملة أسباب تراجع النفوذ الفرنسي،
وكذلك في نفس السياق أسباب عودة ظاهرة الانقلابات العسكرية، بل واعتبار القارة
الأفريقية ذات تاريخ طويل من الانقلابات والحكم العسكري.
القارة الأفريقية تتململ من القوى الاستعمارية الكبرى القديمة
ومن أهم الأسباب التي تذكر وأدت إلى تراجع النفوذ الفرنسي: ما يمكن اعتباره ظاهرة
التوجهات الجديدة للنخب الأفريقية الشابة، التي ترى ضرورة ممارسة الانفصال عن
المستعمر القديم، خاصة مع استمرار الممارسات الفجة لعمليات الاستنزاف للثروات، في
وقت يمر به العالم، خاصة أفريقيا من أزمات اقتصادية طاحنة، وربما هذا ما يفسر
انسحاب خمس دول من غرب أفريقيا عام 2019 من المنظومة المصرفية الفرنسية، التي كانت
تستعمل الفرنك الأفريقي كآلية لممارسة استنزاف الثروات الأفريقية، وعنوان لاستمرار
نفوذها في دول مستعمراتها.
وهكذا فقد الأفارقة الثقة، وصارت هناك قناعة لدى النخب الأفريقية الشابة أن الوجود
الفرنسي في أفريقيا هو فقط مؤشر لتصرفات استعمارية إمبريالية، من المفترض أنه تم
تجاوزها بُعَيْدَ الاستقلال، بل إن كثيراً منهم يرى أن التأثير الفرنسي هو عامل
إحباط، بدل أن يكون عامل انطلاقة وإقلاع.
وينظر كثيرون إلى النموذج الرواندي الذي تخلي عن اللغة الفرنسية واستبدل الإنجليزية
بها. ودخلت الغابون نادي الكومنولث وقررت التخلي عن الفرنسية. وهناك أصوات في
المغرب تنادي بالانتقال كذلك إلى الإنجليزية وإلى النموذج الأنغلوساكسوني في
السياسة والاقتصاد والتشريع والتربية.
ولكن هل التخلص من النفوذ الفرنسي يعني استبداله بآخر إنجليزي أو ربما روسي؟ وهل
تختلف روسيا أو الصين أو أمريكا أو غيرهم عن فرنسا؟ أم أن بعض الشر أهون من بعض؟ أم
أنها استراتيجية كونية على سبيل التحرر من الكل؟
فإذا عملت فرنسا بعد مرحلة الاستقلال الموهوم على اصطناع نخبة موالية لها، تعمل على
تأمين المصالح الفرنسية ضد شعوبها الوطنية، حتى يقول رئيس أول مؤتمر لعموم إفريقيا
عام 1919م، وعضو الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) عن السنغال بليز دياني: «نحن
سكان المستعمرات نودُّ البقاء ضمن ممتلكات فرنسا في إفريقيا. لأنها أعطتنا كل أنواع
الحرية، وعاملتنا كأطفالها دون أي تمييز. لا أحد منا يريد من فرنسا أن تترك إفريقيا
للأفارقة فقط، كما يودُّ البعض».
وقال رئيس السنغال (1960/1980م) ليوبولد سيدار سنغور: إن الطريقة الأنسب والمرغوبة
لبلاده، هي المحافظة على موقعها داخل الإمبراطورية الفرنسية.
ولكن ماذا بعد نحو ستين عاما من الاستقلال الوهمي؟، تقول ناتالي يامب، المستشارة
لحزب الحرية والديمقراطية لجمهورية ساحل العاج: «بعد ستين عاماً لم تنل الدول
الإفريقية الفرنكفونية استقلالاً حقيقياً ولا حرية»، وتضيف: "الأمر يبدأ من المدارس
التي تقرَّر مناهجها في فرنسا". لاشك أن الوضع الآن قد تغير كثيرا.
ومبكرا قد وصف الفيلسوف الاجتماعي فرانتس فانون (1925/1961م) هذا النوع من
الاستقلال بأنه "استقلال زائف".
والسؤال المهم: متى ستأتي نخب وطنية حقيقية، تعمل على استقلال حقيقي لدول القارة
المحتلة والمستعمرة، والمنهوبة ثرواتها ومقدراتها، نخب تمتلك السيادة والقرار
الوطني، نخب تضع يدها على ثرواتها الخاصة ولا تمتد يد سواها إلا على سبيل الشراكة
الحقيقية والمنفعة الاقتصادية أولا وأخيرا للوطن الأم؟.
نخب أصيلة لا تنتمي إلى المعسكر الغربي: أمريكي أو إنجليزي أو فرنسي أو غيره. ولا
المعسكر الشرقي: روسي أو صيني أو خليجي أو غيره.
حتما ذلك سيكون، وكل المؤشرات تفيد ذلك، أن القارة تتململ، وقريبا ستنتفض.
[1] وهي المجموعة التي تشكلت بعد نحو عامين على سقوط مدن الشمال المالي بأيدي
الجماعات المسلحة، واتساع رقعة التهديد الأمني في المنطقة، خصوصا باتجاه النيجر
وبوركينافاسو، حيث ارتأت موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد تأسيس مجموعة
دول الساحل الخمس "G5"،
كإطار للتنسيق والتعاون الإقليمي في مجالي التنمية والأمن بشكل خاص، وذلك في فبراير
2014.
وفي شهر يوليو من العام 2017 أعلنت دول المجموعة الخمس خلال قمة بالعاصمة المالية
باماكو، تأسيس قوة مشتركة مكونة من 5 آلاف جندي.