• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
العشرية السوداء لتراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا

القمة الفرانكفونية 28 ماذا تبقى لفرنسا من مستعمراتها؟

 

في السنوات الأخيرة، خاصة منذ 2010م تقريبا، تعرّضّت فرنسا، التي قادت فكرة "الشراكة" بين أفريقيا وأوروبا، أو ما يعرف بـ "أورافريك" (Eurafrique)  بعد الحرب العالمية الثانية، لما يشبه الانتفاضة في الوعي الإفريقي، بسبب مساعيها لاستعادة هيمنتها في مستعمراتها الأفريقية السابقة، وإعادة تموضعها، ومحاولة بناء شراكات جديدة، عن طريق التعاون الاقتصادي، أو مزيد من التدخلات العسكرية، وتشديد قبضتها في مناطق وجودها الحالية، الأمر الذي يعضد الرأي الشائع بأن فرنسا تحاول تنفيذ خطط نيوكولونيالية لتعزيز أجنداتها الاقتصادية من خلال الإطار الجيواستراتيجي والمجال العسكري الأفريقي.

ولكن الذي غاب أو تغافلته فرنسا، بدافع غطرسة القوة، أن الأمور قد تغيرت كثيرا، ولم يعد باستطاعتها استرجاع شيء من إرثها الاستعماري، الذي يبدو أنه قد صار جزءا من الماضي، أو سيكون قريبا كذلك، حيث تواجه الخطط الفرنسية تحديات متعددة، لعل من أهمها تفاقم الغضب الشعبي، وأزمة الحركات المسلحة، وتغيّر الديناميات السياسية، مع تزايد المنافسة من القوى العالمية الأخرى، مثل روسيا والصين وغيرهما.

تدخلات عسكرية مكثفة

مالي: البداية من الشمال

زاد العائدون الماليون من ليبيا في عام 2011 من التوترات شمال مالي، وتمردت ميليشيات الطوارق الإثنية في يناير 2012. وفي 22 مارس أطاح مجموعة من الجنود بالرئيس توري. وبعد جهود الوساطة لدول غرب أفريقيا (ECOWAS) انتقلت السلطة إلى إدارة مدنية، مع تعيين الرئيس المؤقت ديونكوندا تراوري. وأدت فوضى ما بعد الانقلاب إلى طرد المتمردين للجيش المالي من المناطق الشمالية الثلاث بالبلاد، التي سقطت في يد مجموعات مسلحة من تنظيم القاعدة.

عملية سرفال

تعتبر فرنسا شمال مالي منطقة نفوذ حيوي، لذا سارعت إلى التدخل العسكري، وأرسلت الآلاف من جنودها يناير 2013 لوقف زحف الجماعات المسلحة على باماكو، ضمن عملية عسكرية باسم "سرفال".

والغرض حماية المصالح الفرنسية والغربية في هذا البلد الإفريقي الغني بالنفط والثروات المعدنية، ومحاولة تعزيز الوجود الفرنسي في منطقة تعتبر تقليديًا مركز نفوذ خاص بفعل سابقة الوجود الاستعماري.

وخلال شهر واحد، تم استعادة معظم الشمال ثم انتخابات رئاسية أجريت في يوليو وأغسطس 2013، تم فيها انتخاب إبراهيم بوبكر كيتا رئيسًا.

عملية برخان

في أغسطس 2014، استلمت عملية "برخان" المِشعَل من عملية "سرفال" و"إيبرفييه"، في كل من مالي وتشاد. وضمت هذه القوة ‏‏3500 عسكري فرنسي، موزعين على خمس قواعد عسكرية، وثلاث نقاط دعم ومواقع أخرى، لا سيما بالعاصمة البوركينية واغادوغو، وعطار الموريتانية.

تطورت الأحداث والمواجهات ضد الوجود الفرنسي الاستعماري، وصولا إلى عامي 2020 و2021، حيث فقدت فرنسا حلفاءها بسبب انقلابَين عسكريين، أُطيح خلالهما بإدارة الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا ومسؤولين آخرين محسوبين على فرنسا.

وبعدها قامت الحكومة المالية، بطرد سفير فرنسا في باماكو، وندّدت بما وصفته بالتصريحات المسيئة لها من قبل مسؤولين فرنسيين، واتهام فرنسا بسرقة ونهب ثروات المنطقة، فضلًا عن تغذية الإرهاب وتدريب مسلّحين في شمال مالي، وفصل مناطق واسعة من الشمال عن باقي البلاد، بهدف مواصلة السيطرة على هذه الدولة الإفريقية المحورية في منطقة الساحل والصحراء.

وصار ما فعلته مالي مع فرنسا مصدر إلهام، ونموذج يحتذى لجيرانها في وسط وغرب أفريقيا.

تشاد

في أبريل 2021 فقدت فرنسا أحد أبرز حلفائها في القارة الأفريقية، رئيس جمهورية تشاد إدريس ديبي، الذي قتل أثناء وجوده في ساحة المعارك مع متمردين شمال البلاد.

ويُعتبر جيش تشاد إحدى ركائز مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل التي تقاتل مع القوات الفرنسية، وتعدّ القوة التشادية من أولى البعثات العسكرية المشاركة في قوة مينوسما التي يقدَّر عددها بنحو 15 ألف عنصر، كما تعدّ إنجامينا مركز القيادة المركزية لقوة "برخان" الفرنسية لمكافحة الإرهاب في المنطقة، لذلك تصرُّ باريس على دعم نظام الحكم في تشاد.

وبعد مقتل ديبي سرعان ما عيّن المجلس العسكري نجله الجنرال محمد إدريس ديبي رئيساً انتقالياً للبلاد، على الرغم من البروتوكول الدستوري الذي ينص على تولّي رئيس مجلس النواب رئاسة السلطة. ولا يخفى أن ذلك كان بدعم فرنسا ماكرون، الذي بادر بالتحرك وتقديم الدعم القوي لنجل ديبي حتى يتولى الحكم، رغم معارضة ذلك مع دستور تشاد.

تشاد بعد مالي

استقرَّ الأمر لفرنسا لبعض الوقت، لكن بعد انتكاسات فرنسا في القارة الأفريقية، خاصة في مالي، تحوّل الغضب الشعبي من الممارسات الفرنسية إلى تشاد، فخرجت مظاهرات شعبية عارمة مندِّدة بالحضور الفرنسي، في عدد من مدن وبلدات تشاد، من بينها العاصمة إنجامينا، وحرقوا العلم الفرنسي، مردّدين شعارات مناهضة، من بينها "فرنسا ارحلي" و"لا للاستعمار"، مطالبين بإنهاء ما أسموه "الاستعمار الفرنسي المستمر".

وتحول الاستياء من القوة الاستعمارية السابقة، إلى أعمال عنف وفوضى، وحطّم متظاهرون النصب التذكاري للجنود الفرنسيين أمام القنصلية الفرنسية، كما تمَّ تخريب 7 محطات وقود تابعة لمجموعة توتال النفطية التي تُعتبر رمزًا لفرنسا، واقتلعوا مضخات واستولوا على بعض المنتجات المعروضة.

النيجر:

تعتبر النيجر، التي تعد واحدة من أفقر دول العالم، منجم اليورانيوم الذي بنت فرنسا على أكتافه قوتها النووية حتى صارت ثالث أكبر قوة نووية في العالم، خلال النهب المتواصل عبر شركة "أريفا"، التي تعمل في مجال الطاقة النووية واستخراج اليورانيوم وصنع المفاعلات النووية. وفي عام 2010م تجرّأ الرئيس السابق ممادو طانجا، على إعادة التفاوض مع "أريفا" بشأن اليورانيوم، وفَتَحَ الاستثمار أمام الشركات الأجنبية صينية وهندية وكندية، وهو ما أزعج الفرنسيين. التي دبّرت انقلابا عسكريا في فبراير 2010 أطاح بالرئيس طانجا وبطموحاته التحررية، التي دفعته إلى تجاوز الخطوط الحمراء الفرنسية المتمثلة في المس بمصالح "أريفا" وفتح أبواب النيجر أمام الصين.

ثم تعللوا بالهجوم الذي نفذته القاعدة في سبتمبر 2010 على مقر "أريف" في النيجر واختطاف سبعة من عمالها، وممارسات الجماعات المسلحة في مالي، لشرعنة تدخلها العسكري في المنطقة ونشر الآلاف من جنودها هناك.

النيجر بعد مالي

بعد الانسحاب الفرنسي من مالي، وتنامي مظاهر العداء تجاهها، وتراجع تحالفاتها في مستعمراتها السابقة، انتقلت فرنسا إلى النيجر، لتصبح بذلك مركزًا للقوات الفرنسية في منطقة الساحل، وفتح الرئيس محمد بازوم أبواب بلاده للجنود الفرنسيين، رغم الانتهاكات الكثيرة المرتكبة بحق بلاده وشعبه.

ومن المرتقب أن تصبح النيجر الشريك المركزي لباريس وأوروبا في منطقة الساحل، لأسباب إمبريالية محضة، وذلك بعد أن تراجع حضور فرنسا في باقي دول الساحل على غرار مالي وتشاد وبوركينافاسو حيث تنامت مظاهر رفض الوجود الفرنسي هناك.

ومنذ هذا التحول العسكري والتمركز بالنيجر، والاحتجاج من دول الجوار يزداد، والغضب الشعبي يتصاعد، والتظاهر ضد الوجود الفرنسي وعملية برخان، والحكومة المدعومة من فرنسا، لاسيما بعد المذبحة الأخيرة في حدود بين نيجر و مالي، على أيدي الجنود الفرنسيين.

أيضا تزداد المخاوف من تصعيد الحركات المسلحة عملياتها بالنيجر، وقد تعرضت النيجر إلى هجمات متعددة، راح ضحيتها المئات، كما أدت إلى نزوح 313 ألف شخص خلال السنوات الثلاثة الماضية وفق الأمم المتحدة، كما اضطر 235 ألف إلى اللجوء لدول الجوار، وأغلقت أكثر من 300 مدرسة.

وقد أُحبطت محاولة انقلابية في مارس 2021 قبل أيام فقط من تنصيب الرئيس بازوم، الذي تقلد مفاتيح الحكم في أبريل 2021 كأول رئيس عربي للنيجر، وسارع بالتعبير عن امتنانه لفرنسا وشكره لها على ما "قدمته لمنطقة الساحل"، مبررا السياسات الفرنسية في المنطقة، وهو ما أثار حفيظة العديد من سكان النيجر. ولا تزال أيام حبلى.

التدخل في ليبيا:

مع اندلاع الثورة الليبية 2011م فرض مجلس الأمن الدولي حظر للطيران فوق ليبيا، بغرض منع قوات معمر القذافي من شن هجمات جوية على قوات الثوار.

بعدها بيومين، بدأت كل من وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، عملية "هارمتان"، وقامت بتوجيه هجوم على ليبيا بإطلاق صواريخ كروز من طراز توماهوك وتدمير أغلب المنشآت الحربية هناك.

شاركت فرنسا خلالها بقوة المهمات 473، التابعة للبحرية الفرنسية، وفرت بذلك عتادًا بحريًا وجويًا مهمًا، لتنتهي العملية يوم 31 من مارس/آذار من العام نفسه، وتواصل مهامها تحت اسم عملية "الحامي الموحد" التي نفذها الحلف الأطلسي في ليبيا حتى يوم 31 من أكتوبر/تشرين الأول 2011، أي بعد 11 يومًا من مقتل العقيد القذافي.

يذكر أن فرنسا ساركوزي كانت مؤيدة بصورة مبكرة للتدخل في ليبيا، وتغيير نظام معمر القذافي، وبعد سنوات من الإطاحة بالقذافي خضع نيكولا ساركوزي لتحقيق رسمي بعد توجيه اتهامات إليه بمزاعم تلقيه أموالًا من معمر القذافي لتمويل حملته الانتخابية، وتتعلق التهم التي يحقق بها معه بـ"التمويل غير القانوني لحملته الانتخابية وإخفاء أموال عامة ليبية والفساد السلبي".

بوركينافاسو

في سبتمبر 2022م شهدت بوركينا فاسو انقلابًا عسكريًّا جديدًا، بقيادة النقيب إبراهيم تراوري ومجموعته، أطاح برئيسهم السابق ورئيس المجلس العسكري الحاكم للبلاد المقدّم بول هنري داميبا، والذي كان بدوره قد أطاح قبل ثمانية أشهر، وتحديدًا في 24 يناير، بالرئيس روش كابوري، ويأتي هذا الانقلاب الجديد عقب تصاعد الخلافات بين المقدم داميبا وعدد من شباب الضباط والعسكريين، الذين أجبروه في النهاية على تقديم استقالته، ليخلفه في حكم البلاد زعيم الانقلاب إبراهيم تراوري.

ومسوغات الانقلاب: التدهور الاقتصادي، وإرهاب الجماعات المسلحة التي تضرب منذ سبع سنوات، وتنتمي لكل من منظمتي القاعدة وداعش، الذين انتزعوا نحو 40% من أراضي البلاد بعيدًا عن سيطرة الحكومة، كما قُتل آلاف المدنيين والعسكريين، وهاجر نحو 2 مليون مواطن من قراهم ومدنهم.

لكن السبب الرئيس صرح به تراوري نفسه بقوله: "أعلم أن فرنسا لا تستطيع التدخل بشكل مباشر في شؤوننا"، مضيفًا: "الأمريكيون هم شركاؤنا الآن لكن يمكن أيضا أن تصبح روسيا شريكا لنا". فهو يبين بوضوح أنه انقلاب ضد فرنسا الاستعمارية، وقد شوهد أثناء الاحتجاجات حرق العلم الفرنسي، ورفع لافتات كتب عليها: "معاً نقول لا لفرنسا.. تبًا لفرنسا".

أفريقيا الوسطى

في مايو 2016، أعلن الرئيس الفرنسي، فرانسوا أولاند، من بانغي عاصمة إفريقيا الوسطى، نهاية عملية "سانغاريس" الفرنسية في البلاد، وكانت هذه العملية قد بدأت في ديسمبر 2013 لدعم القوة الأممية إثر مواجهات دامية بين ميلشيات مسيحية ومسلمة.

وكانت عناصر "سانغاريس" البالغة نحو 2500 عنصرا، اتهمت في قضية انتهاكات جنسية استهدفت أطفالًا قصر في هذا البلد الإفريقي الفقير، ورغم إنهاء مهمة هذه العملية فقد بقيت قوة احتياطية تكتيكية من 350 جنديًا تدعمها الطائرات دون طيار. ومؤخرا تورطت فرنسا عسكرياً في كل من أفريقيا الوسطى بعملية الفراشة الحمراء عام 2013، في نفس توقيت عملية البرخان في مالي.

وكانت جمهورية أفريقيا الوسطى لعقود حليفاً استراتيجياً لفرنسا، لكن تزايدت التوترات والمخاوف من احتمال قلب المدعومين من جانب فرنسا للحكومة الحالية، وخلق بيئة من الاضطرابات المدنية والاستفزاز ضد الرئيس الحاكم، فوستين أرشانج تواديرا، الذي انتُخب عام 2016، وأبرم اتفاقات عسكرية، وحسّن العلاقات الدبلوماسية بروسيا، كما وطّد العلاقات الاقتصادية بالصين.

وتحت وطأة الغضب الشعبي والسياسي المتصاعد، اضطرت فرنسا إلى الانسحاب من العمليتين عام 2021، بعد فشل ميداني ذريع، وصل إلى حد القبول بدفع فديات للتنظيمات الإرهابية، للإفراج عن محتجزين فرنسيين لدى هذه التنظيمات، وكذلك الضغوط التمويلية للانتشار العسكري، خصوصاً بعد التأثير السلبي لوباء كورونا في الاقتصادات الغربية عموماً.

مأزق فرنسي في أفريقيا

تتعالي أصوات الغضب في مختلف البلدان الافريقية، ضد الوجود الفرنسي، على خلفية اتهامات بالتدخل في شؤون البلدان ودعم الأنظمة الاستبدادية. وتتصاعد المظاهرات الاحتجاجية التي تشارك فيها فئات شعبية مختلفة، تنديدًا بالحضور الفرنسي في بلادها مع ما يتم من حرق علم فرنسا، ورفع الشعارات المعادية لها.

تؤكد هذه المظاهرات المأزق الكبير الذي وقعت فيه فرنسا في عدة بلدان أفريقية، فإضافة إلى مالي وتشاد تواجه فرنسا رفضًا كبيرًا في بوركينافاسو وأفريقيا الوسطى والنيجر وليبيا وغيرهم، نظرًا إلى سياستها الاستعمارية الهادفة إلى التحكم في قرار الدول الأفريقية السيادي ونهب ثرواتها.

والمراقب لما يجري يرى بوضوح أن مصير فرنسا الاستعمارية سيؤول إلى زول، عاجلا أم آجلا، وأن ما تفقده فرنسا على مر الأيام الجارية لن يمكنها استعادته أبدا، فالوعي الإفريقي وأفريقيا قد تغيرت، ولم تعد كما كانت.

 

 


أعلى