• - الموافق2024/04/28م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
العمران الكولونيالي  حين تَستعْبد العمارةُ سكانَها وتقتل أرواحهم

هل لك أن تتخيل أن التخطيط العمراني يمكن أن يحمل صفة الاحتلال، هل من الممكن أن تتحول العمارة الهندسية إلى وسيلة قهر تمامًا مثل المدفع والبندقية؟ هل تستطيع الجدران أن تقتل هويتنا وتغير ذواتنا؟ والحقيقة هي نعم


العمارة قد تتحول إلى وسيلة قهر واحتلال وإرهاب وهذا ما فعله الغرب في تخطيطه للمدن في البلاد التي احتلها، فتمثل العمارة الاستعمارية النفوذ الاستعماري الأوروبي بمدنه وبلداته، بحيث لاتزال ينظر إليه في العمارة وكذلك في جوانب تخطيط المدن في الوقت الحاضر تحت هذه الصفة. هذه الجوانب مرئية في المدن كما إنها مترابطة ومتكاملة، حيث تضمنت قوانين العمران أحكامًا لتخطيط المستوطنات الاستعمارية. ولتحقيق التأثير المطلوب من الرعب بين الشعوب كان لابد خلق تصميم للحدائق والفضاءات العامة يمكن التحكم فيها عسكريًا[1]. كما بدت تلك الآليات واضحة في العديد من المدن المحتلة.

لقد عمل الاحتلال، في كلّ زمان ومكان، على ترسيخ دعائم حكمه، عن طريق آليات التفاعل بين عناصر المجتمع المختلفة من ضمنها البنيان نفسه.

في الجزائر أعاد المارشال بوغود تنظيم أحياء كاملة في الجزائر العاصمة بعد هدم كامل ووحشي ضمن استراتيجيته لإيقاف انتصارات المقاومة.

 

 تُبعد المدينة الكولونيالية المهاجرين والفقراء إلى أطراف المدينة، وتصنع أحياء خاصة بهم، وتحيطها بأسوار تفصلها عن تلك الأحياء الفقيرة حيث أحوالهم المعيشية والاقتصادية أسوأ بكثير من الأوضاع في مركز المدينة

والمتأمل في معالم القاهرة القديمة على سبيل المثال يستطيع استنباط نمط حكم الأنظمة التي تعاقبت على مصر لعلّ هذا ما يمكن استشعاره في مدينة بحجم القاهرة؛ حيث يكدح الجميع من أجل حياة عادية، وكأنّ المدينة مصممة لإرهاق الروح البشرية، واستهلاك طاقة الإنسان، كي لا يجد منفذًا للتفكير أو الراحة أو الاسترخاء، وهو ما أقرّه المعماري المصري المشهور، حسن فتحي، في كتابه "عمارة الفقراء": "هناك بليون فرد على الأقل، حول العالم، سوف يموتون مبكرًا، ويعيشون حياة تعيسة بسبب الإسكان القبيح؛ غير الصحي، وغير الاقتصادي".[2]

إذًا الأمر تخطى حاجز الرفاهية، فهو مهلكة للإنسان في عالم أصبحت الكتل الخرسانية الصماء أحد أهم معالمه، وكأنّ الجدران قد خصصت لممارسة سلطة قهرية أخرى على الإنسان، حتى وإن تمكن من الفرار من السلطة، فلن يجد مفرًا من سلطة الكتل الإسمنتية الواقع تحت أسرها.

تُبعد المدينة الكولونيالية المهاجرين والفقراء إلى أطراف المدينة، وتصنع أحياء خاصة بهم، وتحيطها بأسوار تفصلها عن تلك الأحياء الفقيرة حيث أحوالهم المعيشية والاقتصادية أسوأ بكثير من الأوضاع في مركز المدينة.

في القدس بعد سقوط المدينة تحت السيطرة البريطانية عام 1918 اتخذ المحتلّون إجراءات لتطبيق أهدافهم الاستراتيجية العمران كوسيلة للاحتلال، فتم تشكيل جمعية "محبي القدس. ثـم وضـعت خطط متتالية لتطوير المدينة وتم توسيع العمران باتجاهات ممنهجة تنسجم مع تطلعاتهم السياسية الاستعمارية. كما بدأ المحتلّون البريطانيون بالإعداد لتطوير المدينة حسب الأهداف العليـا التـي صـاغتها الحكومـة البريطانية، وعلى رأسها توسيع وتنمية الأحياء الواقعة غربي السور وإبقـاء المنـاطق الـشرقية خارج حدود البلدية ومنع البناء فيها.

 

 لقد خلقت العولمة عوالم موازية، وصنعت فجوة كبيرة بين البشر، لقد أتاحت العولمة نظامًا جديدًا، يستطيع اجتذاب السلطة والمال في أحد أقطاب المجتمع، ويبقى القطب الآخر مجردًا من أبسط مقومات الحياة

وكما ورَّث الاحتلال القطيعة بين بلادنا وحد لها حدودها منشأً ما يُعرف بالدولة القومية، كذلك ترك إرثًا من الحداثة العمرانية تُكثر لمفهوم سيادة تلك الدولة القومية ويؤكد هيمنتها بوصفها الوريث الشرعي لتلك الحقبة الاستعمارية حيث يشكّل مفهوم قوة السيادة - بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو - سلسلة لامتناهية من الممارسات التي تضمن إطاعة قوانين سلطة ما أو فرد من الأفراد.  بمرور الوقت، أنتج هذا النوع من القوى أنواعًا أخرى، كان مثالها في القرن السادس عشر «البَيو-سلطة» أو السلطة على الأجساد، والتي تسمى كذلك «القوة التأديبية» – ويفسرها فوكو بأنها طريقة للسيطرة على الجماهير من خلال مؤسسات تأديبية مجتمعية، تؤثر على التنظيم المكاني للمدن عبر تنظيم نشاطات الناس وأوقاتهم، وسلوكهم وعاداتهم، وهي بذلك تؤدّبهم وتضبطهم في مؤسسات مثل المشافي والمدارس وثكنات الجيش والسجون.

ثم انقتلت وظيفة مهندس الاحتلال الذي يكرس له ويوظفه للسيطرة على البشر، من الدولة الحديثة إلى الشركات متعددة الجنسيات، التي عولمت هذا النوع من العمارة على مدننا لتقتل ما تبقى من هويتنا، يقول نقيب المهندسين المصريين سابقًا المهندس الدكتور وائل ذكي، المتخصص في عمارة العشوائيات، قائلًا: "ترتبط العمارة ارتباطًا وثيقًا بالحالة الاجتماعية للناس، وما نشهده من فوضى وعشوائية في المعمار، ليس إلا وجهًا من أوجه التشوه والركاكة التي نعيشها، ويعكس الحالة الاقتصادية للمجتمع بشكل عام، وفي عالم يتقلص فيه دور الدولة، ليفسح المجال أمام الشركات العملاقة، يتحوّل مفهوم الإسكان من خدمة إلى سلعة يتم توفيرها طبقًا للضوابط المالية التي تحكم البائع والمشتري، وتصبح حرية السوق هي المتحكم الأكبر في حالة الإسكان التي يعيشها المجتمع"[3].

 

 أما في فلسفة العمران الإسلامي فيلخصها دعاء "إدريس الثاني" مؤسس مدينة فاس، حين رفع رأسه إلى السماء وقال: "اللّهم إنك تعلمُ أنني ما أردت ببناء هذه المدينة مُباهاةً ولا مُفاخرةً ولا رياءً ولا سُمعةً ولا مُكابرةً، وإنما أردتُ أن تُعبدَ بها ويُتلى بها كتابك

ويقول المعماري المصري حسن فتحي "الحداثة لا تعني بالضرورة الحيوية، والتغيير لا يكون دائمًا للأفضل"؛ ففي القاهرة يعيش أكثر من 7 ملايين في المقابر والعشوائيات حيث الاستثمارات بالعقارات هو الأضخم لعلّ ما نعيشه اليوم؛ من الشعور بالاغتراب والقلق الذي يعصف بحياة البشرية، كان جراء العولمة التي فرضت نفوذها على العالم، ولم يلذ أحد بالفرار منها.

لقد خلقت العولمة عوالم موازية، وصنعت فجوة كبيرة بين البشر، لقد أتاحت العولمة نظامًا جديدًا، يستطيع اجتذاب السلطة والمال في أحد أقطاب المجتمع، ويبقى القطب الآخر مجردًا من أبسط مقومات الحياة، وهو ما أكدته الكاتبة الكندية "ناعومي كلاين" التي ناقشت اتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، خلال حقبة السبعينيات، بعد هيمنة عصر جديد من الانفتاح الاقتصادي والعولمة، وصار البسطاء من الناس، فريسة للنظام العالمي، وللشركات العابرة للقارات التي تتحكم في كلّ ما يمتلكه الإنسان العادي، ولعلّ تجلّي هذا الأمر يتضح من وضع حياة الناس وبنيانهم، والازدواجية التي اتسمت بها المجتمعات الحديثة.

يعيد العمران الحديث تعريف البشر كمُستهلكين يُمارسون حُرية الاختيار كاملة من دون شوائب في عمليتي البيع والشراء على الوجهِ الأفضل. وهي (أي عمليتي البيع والشراء) عملياتٌ تُكافئ الجدارة والمهارة وتُعاقب انعدام الكفاءة. حيث يتم خصخصة شبه التامة لكل شيء الخدمات والمرافق العامة، تسعى تلك المنظومة إلى دغدغت مشاعر الشعوب المتطلعة إلى الثراء السريع حيث لا تُكافؤ إلا للمنافع ولا اعتبار لغير المصلحة.

أما في فلسفة العمران الإسلامي فيلخصها دعاء "إدريس الثاني" مؤسس مدينة فاس، حين رفع رأسه إلى السماء وقال: "اللّهم إنك تعلمُ أنني ما أردت ببناء هذه المدينة مُباهاةً ولا مُفاخرةً ولا رياءً ولا سُمعةً ولا مُكابرةً، وإنما أردتُ أن تُعبدَ بها ويُتلى بها كتابك وتُقام بها حدودك وشرائعُ دينك وسنّة نبيك ما بقيت الدنيا. اللهم وفِّق سكانها وقُطّانها للخير وأَعِنهم عليه، واكفهم مؤونة أعدائهم، وادرر عليهم الأرزاق وأغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق إنك على كل شيءٍ قدير."[4]

 


 


[1] عمارة استعمارية، موقع ويكيبيديا، https://bit.ly/3Ct15bN

[2] العمران والسلطة والخوف، مرجع سابق.

[3] https://bit.ly/3etpx54

[4] أحمد خالد الناصري “الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى”، دار الكتاب، الدار البيضاء 1373هـ / 1954م، ص 152 /ج1.

 

 

أعلى