كانت له بصمته البارزة في السلام العالمي، ففي عام 2001، أسس مركز السلام والروحانية لتعزيز ثقافة السلام في مختلف دول العالم، والذي كان مصدر إلهام لكثيرين من خلال تشجيع أعضائه على أن يصبحوا سفراء للسلام حول العالم
هو صاحب أسلوب فريد، لم
ينل شهرته التي بلغت الآفاق من مؤلفاته فقط، بل من خلال فكرته وفلسفته حيث استطاع
بحكمة رصينة أن يوظفهما ليقيم الحجة على مناظريه، خاطب قلوبهم وعقولهم ليدعوهم إلى
عبادة الله الواحد الأحد، ويقنعهم بوجوده سبحانه وتعالى، وقد أثبت لهم ذلك عبر
قوانين الإحصاء والفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء، والأغرب أنه استند إلى بعض
أبحاث ونظريات اللادينيين والملحدين العلمية وقلبها بأسلوب علمي لصالح إثبات وجود
الله، هو مؤلف "الإسلام يتحدى" الذي ذاع صيته في كل أرجاء الأرض، إنه المفكر
الإسلامي الهندي والباحث البارز وناشط السلام "وحيد الدين خان"، الذي توفى قبل أيام
قليلة عن عمر ناهز 96 عامًا، بعد مسيرة طويلة زاخرة بالعطاء في مجال الدعوة
الإسلامية واهتمامه بقضايا الدين والأمة الإسلامية، والتي كانت في مقدمتها قضية
فلسطين.
وُلِدَ وحيد الدين خان عام
1925 في مدينة أعظم كره بالهند، ودرس في مدرسة الإصلاح الإسلامية في سراي مير، في
عام 1938، وفيها تلقي التعليم الديني وبرزت مواهبه الفكرية، لاحقًا انتظم خان ضمن
لجنة التآلف التابعة للجماعة الإسلامية بالهند حيث عمل فيها لعدة سنوات، قبل أن
يبدأ في تقديم حصيلة فكره بعد دراسات معمقة، أمضى خان ثلاث سنوات منكبًا على إضفاء
حالة من التآلف في المجمع الإسلامي العلمي التابع لندوة العلماء بالهند، ثم شغل
رئيس تحرير مجلة الجمعية الأسبوعية في دلهي 1967 لمدة 7 سنوات حتى تم إغلاق المجلة
من قبل السلطات، وفي أكتوبر 1976 تم أصدر مجلة الرسالة، والتي كانت المطبوعة الاولى
التي تصدر بشكل مستقل عن كل الهيئات، حيث دأبت هذه المجلة الشهرية على الصدور حتى
الآن ونالت حظًا كبيرًا من النجاح والقبول، والتي كانت في مرحلة من مراحلها تتألف
بالكامل من مقالاته وكتاباته.
كان خان غزير الإنتاج
الفكري؛ وقد ساعده في ذلك معرفته الثاقبة في علوم الأديان، وقدرته على مخاطبة العقل
والوجدان، تتميز مؤلفاته أنها تجمع بين البساطة والعمق وبالتالي فهى تناسب مختلف
شرائح القراء، وقد ألّف خان العديد من الكتب التي تجاوزت 200 كتاب، وقد تُرجِمَت
معظمها إلى لغات عدّة، ولعل أشهرها على الإطلاق كتابه "الإسلام يتحدى"، والذي كان
له الأثر الكبير على الملايين الذين اطلعوا عليها، وهو من أهم الكتب التي تؤسس
الاقتناع العلمي لدى الشباب المسلم بصحة العقائد الدينية الكبرى، وفيه أراد خان
الاحتجاج على الملاحدة بما هو من جنس أدلتهم، والاستدلال على الماديين بما كشفته
الأبحاث والنظريات الحديثة، التي يستدلون بها على نقد الدين ونقضه، بالإضافة إلى
هذا الكتاب هناك مؤلفات أخرى مثل "الدين فى مواجهة العلم"، و"أيديولوجيا السلام"،
و"ظهور الإسلام"، و"رسول السلام.. تعاليم النبي محمد"، و"سقوط الماركسية"، و"الجهاد
والسلام والعلاقات المجتمعية في الإسلام"، إلى جانب كتاب "حاضرنا ومستقبلنا في ضوء
الإسلام"، و"حكمة الدين"، و"قضية البعث الإسلامي"، و"الإنسان القرآني"، و"شرح مشكاة
المصابيح"، كما ألّف أيضًا تعليقًا من مجلدين على القرآن الكريم، وقد حصد خان
العديد من الجوائزوالتكريمات، منها جائزة ديميورغوس للسلام الدولية، وجائزة غاندي
الوطنية وجائزة المواطن الهندي الوطنيّ، إضافةً إلى جائزة بادما فيبهوشان، التي
تعدّ ثاني أعلى جائزة مدنية في الهند.
تأثر بعمق بكل من حالة
اللاعنف التي أسس لها غاندي، وكذلك الدور الذي يلعبه العلم والعقلانية في أن يصبحا
أدوات للتقدم، فقام بصهر هذه الدوافع المتنوعة إبان دراسته للإسلام، لتكتمل في
النهاية شخصية المفكر والباحث المتعمق، فلم يستطع أحد من منتقديه أن يشككوا في
معرفته القوية بالقرآن الكريم وفهمه لحياة الرسول محمد
ﷺ
والأحاديث النبوية، وقد جلبت له هذه المعرفة العميقة وشبه الموسوعية لمتابعة سعيه
في رحلته الفكرية والدعوية والتنويرية، فكانت له جاذبيته الملتزمة، حيث كان ينضح
بهالة مليئة بالإيجابية والوداعة، ولم يقتصر دوره الدعوي والفكري على الداخل الهندي
فقط، بل توسعت مساهماته دوليًا، وكانت له بصمته البارزة في السلام العالمي، ففي عام
2001، أسس مركز السلام والروحانية لتعزيز ثقافة السلام في مختلف دول العالم، والذي
كان مصدر إلهام لكثيرين من خلال تشجيع أعضائه على أن يصبحوا سفراء للسلام حول
العالم، وفي عام 2009 عينته قائمة جامعة جورج تاون في واشنطن والتي تضم 500 من أكثر
المسلمين تأثيرًا، في منصب السفير الروحي للإسلام في العالم، كما كان أيضًا شغوفًا
بخدمة المجتمع والتمكين الاجتماعي.
في أحد أحاديثه الصحفية؛
عندما سُئِلَ عن سرّ اختياره لعنوان "الإسلام يتحدى"، كعنوان لكتابه الأشهر، قال
خان إن "هذا الدين جواب محدد لكل الأسئلة التي تؤرقنا في كفاحنا الحضاري، إنه
يوجّهنا إلى المشرع الحقيقي الطبيعي، وهو يضع لنا الأساس النظري للقانون ولكل شئ،
فهو يمنحنا أساسًا صائبًا لكل مسألة في هذه الحياة، حتى يمكن لها الوصول إلى أعلى
درجات الازدهار والرقي، كما أنه يهيئ لنا الأساس النفسي، الذي يصبح القانون بدونه
مشلولًا تماما وبلا حراك، كما أنه يخلق لنا ذلك المناخ المناسب الذي لابد منه لتطور
أي مجتمع تطورًا حيويًا وفعالًا"، وفي أحد كتبه قال: "في هذا العالم، لا يمكن تحقيق
الوحدة إلا من خلال القبول بالاختلافات، بدلاً من الإصرار على الوحدة دون اختلافات
والسعى لاستئصالها التام، وهذا أمر مستحيل، يكمن سر تحقيق السلام في الحياة عبر
التسامح".
غالبًا ما كان التزام خان
العميق والمطلق ببناء جسور السلام مثيرًا للجدل، خاصةً وأن بعض تصريحاته بشأن قضية
مسجد بابري قد تسببت في تعرضه للانتقاد الشديد، فعندما هدم المتطرفون الهندوس
المسجد الواقع في ولاية أوتار براديش في ديسمبر من عام 1992، دشن خان مسيرة كبرى
استمرت 15 يومًا للتنديد بما حدث، لكن بعض تصريحاته لاحقًا لم تلق قبولًا، خاصةً
عندما تحدث عن قبوله لحكم المحكمة العليا بشأن أرض المسجد، ومناداته للحوار والتخلي
عن المطالبة بالأرض آنذاك ونقل المسجد إلى مكان آخر حقنًا للدماء، تضخمت المشكلة
حينها حيث طالب البعض بأن الأرض التي يقوم عليها المسجد يجب أن تستخدم كمسجد إلى
الأبد، لكن اجتهاد خان ورأيه كان نابعًا من أن الأرض بأكملها هى مسجد، فأينما كان
الإنسان في لحظة الصلاة، فليصلي. بالنسبة لـ"خان"، كان السلام غاية مطلقة في حد
ذاته ويجب السعي لتحقيقه دون قيد أو شرط، حيث كان من المؤمنين بأن إحلال السلام
كفيل بفتح المجال أمام الفرص لتحقيق أهداف أخرى، لكنه في نفس الوقت كان يؤمن بعدالة
قضية فلسطين، وقد ألّف عنها كتابًا يحمل عنوان "فلسطين والإنذار الإلهي".
في إحدى محاضراته الأخيرة،
أشار خان إلى أن فيروس كورونا ليس لعنة كما يروّج البعض، ولكنه تحذير من انحراف
البشرية عن مسار الفطرة الطبيعة، رحل الشيخ وحيد الدين خان عن دنيانا في العاصمة
الهندية نيودلهي، بعد أيام من ثبوت إصابته بفيروس كورونا المستجد، وبوفاته فقدت
الهند والعالم الإسلامي مفكرًا دينيًا بارزًا وعالمًا إسلاميًا حاول ـ حتى نهاية
حياته ـ ردم هوة الخلافات، باحثًا متعمقًا في أمور عصره بأعمق ظواهرها وأعقد
تشعباتها، شارحًا لثقافة الإسلام الخالدة في أدق خصائصها وأشمل معطياتها، بوفاته
انتهت مهمته لمساعدة العالم على إعادة اكتشاف جوهر الإسلام، تاركًا مكتبة علمية
زاخرة بالإنتاج العلمي الرصين.