"جو بايدن".. الذي لا يختلف كثيرًا عن ترامب!
في عام 1973، وبينما كان عضو مجلس الشيوخ الشاب، مُنتَخبًا حديثًا، ذهب في رحلته الأولى إلى إسرائيل، حيث التقى هناك برئيسة وزراءها "جولدا مائير"، التي حدّثته بالتفصيل عن التهديدات الأمنية في المنطقة قبل أيام قليلة من حرب السادس من أكتوبر، لاحقًا وصف اجتماعه مع مائير بأنه "كان من أكثر الاجتماعات أهمية من حيث تأثيره على حياته"، لقد كان السيناتور الشاب "جو بايدن" الذي هو فى أوائل الثلاثينيات من عمره يتلمس أولى خطوات حياته السياسية، وكان يدرك تماما القوة التأثيرية التي يحظى بها اليهود في أمريكا، والتي يبدو أنه قد أحسن استغلالها هذا العام 2020، فمن هو "جو بايدن".. الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية؟
وُلِدَ بايدن لأسرة مسيحية كاثوليكية قبل 77 عامًا فى ولاية بنسلفانيا لعائلة ميسورة الحال، لكنها تعرضت لاضطرابات مالية دفعت بها للتراجع ماديًا بشكل كبير، وعلى عكس باقي أفراد عائلته الذين توجهوا للعمل فى مناجم شرق بنسلفانيا، سلك هو مسارًا سياسيًا، انطلاقًا من ولاية ديلاوير الصغيرة، والتى مثّلها لاحقًا فى مجلس الشيوخ 6 فترات، وقد تولى رئاسة لجنة العلاقات الخارجية بالمجلس، وهو ما سمح له بمقابلة أغلب حكام العالم، وصولًا إلى شغله منصب نائب الرئيس السابق باراك أوباما لفترتين رئاسيتين، مكنته هذه السنوات الطوال من تعزيز سجله الطويل بين دهاليز العمل السياسى ومعرفته العميقة وتجربته الثرية، ففي الخلفية السياسية لبايدن نجد أنه داخليًا سيتبنى نفس المواقف التقليدية المعلنة للحزب الديمقراطى من مختلف القضايا التي تهمّ المواطن الامريكي، ومن غير المتوقع أن يُحدث بايدن خرقًا لهذه المواقف.
أما خارجيًا؛ فنجد أن بايدن كان ـ ولا يزال ـ من أشد المتحمسين لتوسيع حلف الناتو، وسبق له وأن أيدّ بشدة تدخل الحلف فى حرب البلقان، كما كان من مؤيدى غزو العراق عام 2003، بل إنه قد دعا سابقًا وبشكل رسمي إلى تقسيم العراق إلى 3 دول: كردية فى الشمال، وسنية فى الوسط، وشيعية فى الجنوب، قبل أن يعترف لاحقًا بأن ذلك كان خطأ وغيّر موقفه في ظل الملل المتزايد من النزعة التدخلية الأمريكية، وكان داعمًا قويًا للا تفاق النووى مع إيران، فيما كان يتبنى موقفًا تقليديًا مع روسيا والصين، أما مع إسرائيل فتلك قصة أخرى، يمكن العودة إلى بعض جذورها عندما كان بايدن لا يزال عضوا في مجلس الشيوخ، ففي عام 1986، أعلن أنه "إذا لم تكن إسرائيل موجودة، فستضطر الولايات المتحدة إلى اختراع إسرائيل لحماية المصالح الأمريكية"، قبل أن تتوالى تصريحاته المشابهة، كقوله: "إذا كنت يهوديًا فسأكون صهيونيًا، والديّ أشار إلى أنه لا يشترط عليّ أن أكون يهوديًا لأصبح صهيونيًا، وهذا أنا!، إسرائيل تعتبر ضرورية لأمن اليهود حول العالم"، وقد تفاخر بايدن في السابق بزواج ابنه من امرأة يهودية، وكرر تفاخره أيضا عندما تزوجت ابنته من جراح يهودي، وقال معلّقًا على زواج ابنته عام 2016: "لقد تحقق حلمي!"، لذا لا عجب فيما كشفته الاستطلاعات حول تصويت 75% من يهود أمريكا لصالح بايدن، بالرغم من تودد ترامب طيلة السنوات الماضية لهم وهداياه الثمينة لإسرائيل.
يرى البعض أن فوز بايدن في الانتخابات قد يعرقل الخطط التي بدأها ترامب، وأنه قد يؤجل صفقة القرن في المنطقة، لكن واقع الأمور أنه لن يحدث فارق كبير في ظل السياسة الأمريكية الداعمة لإسرائيل، فالحفاظ على علاقة متميزة مع إسرائيل تعد مصلحة وهدفًا أمريكيًا دائما مهما كان اسم الرئيس، بيد أن ترامب كان قد انتهج سياسة أكثر صرامة مع الفلسطينيين، وانحاز بشكل فجّ إلى المصالح الإسرائيلية، ولم يتورع في التأكيد علنًا على أحقية إسرائيل في ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية وضم الكتل الاستيطانية إلى سيادتها، هذا بخلاف اعترافه في خطوة منفردة أواخر عام 2017 بالقدس بشطريها الشرقي والغربي كعاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، كما أوقف المساعدات الأمريكية للفلسطينيين، وأغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، واعترف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل. لكن في المقابل فإن بايدن قد ظلَّ خلال 40 عامًا من مسيرته السياسية مدافعًا قويًا عن إسرائيل، لا سيما في ما يتعلق بمواقفه من النزاع الفلسطيني، وبالرغم من أنه قد أعلن صراحةً أنه سيعيد استئناف المساعدات للفلسطينيين، وسيعمل على إعادة الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي إلى طاولة المفاوضات، إلا أن هذا لا يؤمن حلًا عادلًا للقضية الفلسطينية بسبب الانحياز الأمريكي التاريخي لإسرائيل في مخططاتها، ولا يمكن نسيان ما قاله بايدن في خطاب ألقاه عام 2015، حين قال إنه "ورث حب إسرائيل عن أبيه، وإن على الولايات المتحدة التمسك بوعدها المقدس بحماية وطن الشعب اليهودي".
كانت السياسة الأمريكية صوب العالم وفقًا لرؤية ترامب الشعبوية التي تتلخص في جعل "أمريكا أولًا"، وفي سبيل تحقيق ذلك لا مانع من التخلي عن الاتفاقات الدولية التي كان يرى أنها تمنح بلاده صفقة غير عادلة، لقد جعل من علاقة أمريكا بالعالم علاقة قائمة على الصفقات التجارية، وهو ما جعل العلاقات مرتبكة، غير منتظمة، تحددها مشاعر ترامب الغريزية وعلاقاته بالقادة، ومن المحتمل أن يسير بايدن على خطى ترامب في بعض هذه السياسات، أبرزها وضع حد للحروب التي لا تنتهي، وهو المسار الذي بدأ فيه ترامب، الحديث العهد في السياسة، من دون مشاورة، حيث بدأ سحب الجنود من سوريا والعراق وأفغانستان. أما فيما يخص قضايا المسلمين والسود والأقليات في أمريكا، فقد كان بايدن ودودًا طوال حملته الانتخابية نحوهم، وتحدث عن رغبته في تعلم المزيد حول العقيدة الإسلامية في المدارس الأمريكية، وأعلن أنه سيلغي القرارات التعسفية التي اتخذها سلفه بحق بعض الدول الإسلامية، بل إنه استخدم حديثًا شريفًا خلال إحدى خطاباته متوددًا بذلك للجالية المسلمة في أمريكا، لكن هل تكفي الوعود؟، في الواقع فإنه من الصعب التعويل على الدور الأمريكي في المنطقة، أو في العالم عمومًا، فبالرغم من وجود اختلافات جوهرية بين ترامب وبايدن، غير أن المصالح الإستراتيجية لأمريكا هى التي ستلزم الرئيس الجديد بما يجب عليه فعله، وهو ما يعني أن الفارق بين بايدن وأسلافه لن يكون كبيرًا.
من المتوقع أن يتعامل بايدن مع دول العالم، سواء الحلفاء أو الأعداء، بصورة أكثر تقليدية طبقًا لما تمليه المصالح التاريخية لأمريكا، وهو ما تأصّل في المؤسسات الدولية منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد يعيد الزخم إلى العلاقات الغربية المشتركة، وسيسعى للعودة إلى منظمة الصحة العالمية لقيادة الاستجابة الدولية في مواجهة وباء كورونا، كما سيعيد أمريكا إلى اتفاقية باريس للمناخ، لكن هذه القرارات ليست بالضرورة مؤشرًا على اختلاف أكثر من المتوقع بين بايدن وترامب، فعندما يتم تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة فى يناير المقبل، سيكون بايدن قد وصل إلى عامه الـ 78، وهو ما يجعله الأكبر سنّا عند بدء مهامه الرئاسية مقارنة بكل من سبقوه إلى البيت الأبيض، فهل سيستطيع بايدن أن يساعد بلاده والعالم على التخلص من إرث ترامب الثقيل، وأن يمهد الطريق لحياة سياسية مختلفة خلال العقود القادمة؟