عمود الإسلام (أدعية الصلاة مجابة)
الحمد لله الرحمن الرحيم، القريب المجيب؛ يقبل توبة التائبين، ويغفر للمستغفرين، ويجيب دعاء الداعين، ويعطي السائلين؛ وهو الجواد الكريم، نحمده على هدايته وكفايته، ونشكره على إمداده ورعايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عرج بعبده من الأرض إلى السموات، وفرض عليه خمس صلوات، وجعلها خمسين في الأجر خمس في الأداء؛ فضلا منه على عباده ورحمة لهم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ علم أمته أن الصلاة عمود الدين، وأنها صلة العبد برب العالمين، وكان قرة عينه في الصلاة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا عظم قدر الصلاة، وأنها سبب للنجاة والفلاح، فأقيموها كما أمر الله تعالى، وحافظوا عليها في جماعة المسلمين {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].
أيها الناس: الصلاة قيام لله تعالى بخشوع وخضوع وحب وذل لله تعالى؛ والصلاة من أولها إلى آخرها ذكر لله تعالى، فإما تكبير وتعظيم، وإما تسبيح وتنزيه، وإما حمد وثناء، وإما قراءة ودعاء.
ومن عجيب أمر الصلاة أن الدعاء فيها مجاب كله؛ لأنها مناجاة بين العبد وربه سبحانه. وقد دلت النصوص على ذلك، من بداية الصلاة إلى نهايتها. فإن كان دعاء ثناء على الله تعالى قبله سبحانه، وجازى به المصلي أعظم الجزاء، وإن كان دعاء مسألة استجاب لصاحبه فأعطاه مسألته.
وأول ما يكبر المصلي تكبيرة الإحرام فإنه يقول دعاء الاستفتاح، وهو دعاء مقبول عند الله تعالى، دل على ذلك حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنَ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ رَجُلٌ مَنِ الْقَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: عَجِبْتُ لَهَا، فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ» رواه مسلم.
وفي حديث أَنَسٍ رضي الله عنه: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَدَخَلَ الصَّفَّ وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ: أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ؟ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ: أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا، فَقَالَ رَجُلٌ: جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا» رواه مسلم.
ثم يقرأ المصلي سورة الفاتحة، وهي ركن من أركان الصلاة، والفاتحة تتضمن نوعي الدعاء: دعاء الثناء ودعاء المسألة، والله تعالى يجيب العبد في كل آية يقرؤها من سورة الفاتحة؛ كما دل على ذلك حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ، ثَلَاثًا، غَيْرُ تَمَامٍ. فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» رواه مسلم.
وبما أن الفاتحة دعاء فيشرع بعد انتهائها للإمام والمأموم والمنفرد أن يؤمنوا على الدعاء، ومعنى (آمين): اللهم استجب. ومن أمَّن على الدعاء فكأنه دعا به، وهذا التأمين له فضل عظيم، وهو من خصائص هذه الأمة، ومن أسباب إجابة الدعاء، وجاء فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ: {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه البخاري، وفي رواية مسلم: «إِذَا قَالَ الْقَارِئُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقَالَ: مَنْ خَلْفَهُ: آمِينَ، فَوَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وقال أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه: «...وَإِذْ قَالَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ، يُجِبْكُمُ اللهُ» رواه مسلم.
هذا كله في الفاتحة فقط.. ولو استشعر المؤمن هذا الفضل العظيم، لأحسن مناجاته لربه سبحانه وهو يقرأ الفاتحة، وتأمل المعاني العظيمة التي حوتها، وأمَّن على دعائها بخشوع مستحضرا أن الملائكة يؤمنون كذلك، وأن موافقتهم في التأمين فيها مغفرة الذنوب.
والركوع موضع تعظيم للرب سبحانه وتعالى، وفيه الاستغفار الذي واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، وهو ما جاء في حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» متفق عليه. ودعاء واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته لحري أن يستجاب.
وإذا رفع المصلي من الركوع أثنى على الله تعالى بما هو أهله، وثناؤه على الله تعالى مقبول مستجاب، وهو سبب لمغفرة الذنوب أيضا؛ لما جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه.
وإذا استشعر المصلي أن في قوله «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ» مغفرة الذنوب قالها وما بعدها بتدبر وخشوع.
وفي حديث رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: مَنِ المُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ» رواه البخاري.
وإذا هوى المصلي للسجود فالسجود موطن دعاء، ودعاؤه مظنة القبول والاستجابة؛ لما جاء في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَالَ: قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «...فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» رواه مسلم. وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» رواه مسلم. وليس يخفى على المؤمن ما يجده من لذة إطالة السجود، ولذة سؤال الله تعالى حاجاته وهو معفر وجهه له عز وجل؛ ولذا كان الساجد قريبا من الله تعالى.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43].
أيها المسلمون: إذا جلس المصلي للتشهد فيشرع له الدعاء بين التشهد وبين السلام، وكما استفتح المصلي صلاته بالثناء على الله تعالى وبالدعاء، فإنه يختمها كذلك بالدعاء، والدعاء قبيل السلام مستجاب؛ لما جاء في حديث أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ «أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَاتِ» رواه الترمذي وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. ودبر الصلاة آخرها؛ لأن دبر الشيء منه.
وبما أن دعاء الصلاة مستجاب كله؛ لعظيم قدر الصلاة عند الله تعالى، فلا عجب أن يفزع النبي صلى الله عليه وسلم في الهموم والكروب والنوازل إلى الصلاة؛ كما صلى يوم كسفت الشمس. وقال حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى» رواه أبو داود.
وقال عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ وَمَا مِنَّا إِنْسَانٌ إِلا نَائِمٌ، إِلا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى شَجَرَةٍ، وَيَدْعُو حَتَّى أَصْبَحَ» رواه أحمد.
فالصلاة هي المفزع في الكرب، والدعاء فيها مستجاب، وما على المهموم والمغموم والمصاب والمكروب إلا أن يوجه وجهه للقبلة، ويعلق قلبه بالله تعالى، ويكبر بخشوع، ويدعو بإلحاح، ويطيل السجود والدعاء، ويجد عقبى ذلك قبل أن يفارق محرابه؛ راحة في صدره، وسعادة في قلبه، وأنسا بربه سبحانه، وتزول همومه وغمومه كأن لم يكن به بأس. وببركة صلاته تقضى حاجته، أو يوجهه ربه سبحانه إلى ما هو خير منها. ولن يبأس عبد لزم الصلاة {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45- 46].
وصلوا وسلموا على نبيكم....