ترامـب وكابـوس الرئاسـة المقبـل
بانزعاج يترك مقعده، يسير لبضع خطوات في مكتبه البيضاوي، يتوقف أمام إحدى النوافذ، يتأمل حديقة البيت الأبيض، يشغله الداخل الأمريكي المعقد بمشكلاته وعثراته، ويزعجه الخارج الدولي بقضاياه وأزماته التي لا تنتهي، 4 سنوات ثقيلة قضاها في هذا السكن الرئاسي الأشهر في العالم، فأشعل العالم بتصريحاته وتغريداته، تمزقت صورة أمريكا في العالم بأسره، غابت صورة الرئيس الأمريكي المهموم بالديموقراطية والمشغول بالحريات وحقوق الإنسان، وحلّت مكانها صورة المقاول ورجل الأعمال الباحث عن الاقتصاد مهما تكلّف الأمر، وههو الآن مشغول برحلة انتخابية جديدة يتوقف عليها بقاؤه في البيت الأبيض لأربع أعوام أخرى، وأمامه حوالي 100 يوم تقريبًا.
عندما ظهر "دونالد ترامب" لأول مرة كمرشح محتمل للرئاسة، كان يختصر في شخصيته كل عناصر الشعبوية واليمينية التي دغدغت مخيلة الناخب الأمريكي الأبيض، وخاصة فئة المسيحيين المتعصبين والأمريكيين المناهضين لسياسات الهجرة، شخصيته جذبت أيضا عقلية المستثمر الباحث عن الربح بغض النظر عن المبادئ، فهو رجل أبيض، ثري، على سجيّته، وبالرغم من كونه لم يتولَّ أيّ دور مهم في أي حزب، ولم يمتلك تاريخًا سياسيًا قبل ذلك، لكنه بدا مؤهلًا أمام شريحة كبيرة من الأمريكيين لفتح صفحة جديدة أمام أمريكا التي أنهكتها الحروب وانعكاساتها النفسية والاقتصادية السيئة، فالرجل المنتقل فجأة من عالم المال إلى معترك السياسة وعد ناخبيه بأن تصبح "أمريكا أولًا"، فظهر ترامب كمرشح القطيعة مع عهد أوباما، الذي ـ بحسب رأيه ـ أفقد البلاد الكثير من الوظائف والمليارات والمكانة العالمية المؤثرة.
في رحلة صعوده في عالم المال والعقارات تعلم أسرار المهنة من والده الذي كان يعمل أيضا في هذا المجال، لكن عبء التحديات والمشكلات في رئاسة دولة بحجم الولايات المتحدة لا يمكن تعلمها في يوم وليلة، لقد كان الامر أكبر مما توقع، ولا يمكن حل الأزمات بالتغريدات، صحيح أن ترامب قد حقق جزءًا كبيرًا مما وعد به، سواء عرقلة قوانين الهجرة ومنع دخول القادمين من بعض الدول الإسلامية، أو بناء جدار فاصل على الحدود الجنوبية مع المكسيك، والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وفرض قوانين وأنظمة جديدة تتعلق بالاتفاقات التجارية، ورفع القيود الفيدرالية عن إنتاج الطاقة، ووقف دعم بلاده لبرامج الأمم المتحدة المتعلقة بالتغيرات المناخية حيث انسحب من اتفاق باريس للمناخ، والضغط على دول حلف الناتو لزيادة تمويلها ضمن الحلف.
وإذا كانت تلك وعود قد تحققت، حتى وإن كانت بعض نتائجها وخيمة أو بائسة، فإن ثمة أخرى كثيرة مازالت مُعَلّقة، يشعر بالضجر كلما تذكرها، لعل أبرزها عدم قدرته على إلغاء نظام الرعاية الطبية "أوباما كير"، ومثلما وعد بأن يهزّ الساحة الدولية من أجل أمريكا، وقد أوفى بهذا الوعد، لكن هل باتت أمريكا "محترمة" في العالم، كما يقول الآن؟.. فخارجيًا؛ لم تحدث الولايات المتحدة التأثير الذي اعتاد العالم أن يراه منها، أو على الأقل لم تظهر بالمظهر المعتاد لقوة عظمى تمثل المعسكر الغربي للعالم، لقد تقزم دورها في العديد من البقاع الساخنة على الخريطة، أو بات مناحزًا بشكل كبير مما أفقدها قدرتها على التأثير أو لعب دور الوسيط، ولعل القضية الفلسطينية التي مازالت تراوح مكانها أبرز مثال على ذلك، فبالرغم من صفقة القرن التي كشف ترامب عن ملامحها وحشد لها الدعم المالي والسياسي، ونقله للسفارة الأمريكية إلى القدس واعترافه بها عاصمة لإسرائيل، لكن بالرغم من ذلك فإن صفقة القرن لن ترى النور إبان فترة رئاسته الأولى.
الدب الروسي التهم جزءًا من أوكرانيا وسوريا وههو الآن يتدخل في ليبيا، إيران مازالت تسير في طريق إنتاجها للسلاح النووي بعد انسحاب ترامب من الاتفاق معها، ومازالت أيضا تنفث في نار الفتنة في المنطقة وتثير القلاقل في العراق وسوريا واليمن، والنظام السوري مازال يقتل الأبرياء، والتخريب مازال مستمرًا، تركيا أيضا تصعد وتؤثر في المنطقة، والمصالح الأمريكية باتت رهن التفهمات التي تعقدها روسيا مع حلفاءها والقوى الإقليمية بالمنطقة. هنا.. يدقق النظر عبر النافذة، يشعر بالأسى لهذا الفراغ الذي تركه في منطقة كانت تحسب إلى وقت قريب ضمن مناطق النفوذ الأمريكي، يبرر لنفسه ذلك بأن واقع السياسة الأمريكية قائم على مبدأ يجب احترامه يُسمى "المصالح"، الأمريكان يجيدون لعبة التنصل من وعودهم إذا اصطدمت مع مصالحهم، فهي التي تفرض علي رئيسها سياسته وليست المبادئ، فالمبادئ للحديث والمصالح للتنفيذ؛ "ترامب" في النهاية يبقى رئيسًا أمريكيًا، تمامًا مثل أسلافه، يتصرف مع الظروف بمنطق المصالح والمكسب والخسارة.
قد يكون "ترامب" مختلف عن أسلافه في لهجة التصريحات، لكنه بلا شك يفوقهم جميعًا في التغريدات، وربما لن تشهد الولايات المتحدة رئيسًا في المستقبل يحظى بهذا الرصيد من التغريد اليومي الذي حظى به "ترامب"، بأي حال فإنه يسير في نفس طريق أسلافه الآن، لكن بدلًا من مصطلح بوش "الحروب الإستباقية"، ومصطلح أوباما "الضربات الوقائية"، يبحث ترامب عن مصطلحات بديلة بغض النظر عن مسمياتها، المهم أن ينتج عنها في النهاية تشغيل لمصانع السلاح الأمريكية، لقد فطِنَ ترامب بعقلية رجل الأعمال إلى أن الحروب لن تتوقف، وهو أيضا لا يريد لها أن تتوقف، فدوران عجلة مصانع السلاح تعني مزيدًا من الوظائف، والوظائف الجديدة تعني انخفاض معدل البطالة، وهذه من الأمور التي تجعله يصيح بقوة في تجمعاته الانتخابية مفتخرًا بالنجاح الاقتصادي الذي استطاع ـ بفضل حكمته ـ في تحقيقه.
تعثر ترامب 3 مرات خلال رحلته في عالم المال، إلا أنه كان يقف على قدميه في كل مرة يسقط فيها، لا ينسى أبدًا حين تعرض في عام 1991 للإفلاس بسبب زيادة ديونه والتي عاد بعدها أقوى مما كان وأكثر ثروة، كرر تجربة النهوض حين خرج من أزمة التدخل الروسي في انتخابات 2016 بأقل الخسائر، لكن في أسوأ كوابيسه التشاؤمية لم يكن يتخيل أن تنتهي مدته الرئاسية الأولى بمقتل مواطن من أصول أفريقية فتنقلب الولايات المتحدة بأكملها، ومعها معظم دول العالم، ضد العنصرية وعنف الشرطة والتاريخ الأسود للعبودية وما صحب ذلك من مراجعات للحقبة الاستعمارية والحروب الأهلية، لم يكن يتصور أن فيروس لا يُرى بالعين المجردة يمكنه أن يتسبب في أسوأ حالة من الإغلاق الحكومي بالبلاد، وحالة الكساد التي فاقت الكساد الاقتصادي الكبير.
مازال ينظر عبر نافذة المكتب، استغرق طويلاً في خياله المتعب والمثقل بالأزمات، تحوم في ذاكرته كلمات خصمه الكوري الشمالي حين وصفه "كيم جونج-أون" بـ"المختل عقليًا"، متوعدًا إياه بأنه سيجعله يدفع غاليًا ثمن التهديدات التي أطلقها من على منبر الأمم المتحدة بتدمير كوريا الشمالية، يحاول بمرارة أن يقنع نفسه بسلامة قواه العقلية، فيمسك بهاتفه، ويطلق تغريدة سريعة يتهم فيها خصمه في الانتخابات المقبلة، المرشح الديمقراطي "جو بايدن"، بضعف قدراته الذهنية!