الحوار وسيلة وأداة مهمة يحتاجها المربي في توجيه دفة المفاهيم والتفكير لدى أولاده، وحتى تحقق تلك الوسيلة نتائجها المرضية نحتاج إلى إطلالة على كيفية استخدمها واستغلالها حتى تؤدي أهدافها.
تهدف التربية إلى بناء
الشخصية المؤمنة بالشكل الذي يدفعها إلى الإستقامة والصلاح، بشكل تلقائي ينبع من
القيم الإسلامية الأصيلة التي تنتمي إليها وتعتز بها.
وكم يحتاج المربي إلى
الاستعانة بالله تعالى لكي يحقق هذا الهدف النفيس، كما يحتاج أيضًا إلى الأخذ بكل
وسائل التربية التي وردت في القرآن والسنة، وما يتفق معهما من معارف التربية بشكل
عام.
عناية القرآن بأسلوب
(الحوار) وآدابه ومقاماته
يأتي (الحوار) في مقدمة
وسائل التربية والإقناع وبناء التصورات الصحيحة ونقض الأفكار الفاسدة، ولذلك نلاحظ
اهتمام القرآن الكريم به، وعرضه في العديد من السور وفي مختلف المواقف في القرون
الماضية، وأثناء تنزّله على النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى في ما سيكون من حوارٍ
يوم القيامة.
وذلك لأن الحوار هو وسيلة
التواصل الأولى بين البشر، وعبر الحوار تتم كل أشكال التفاعل الأسري والإجتماعي بين
الأفراد؛ فكان لابد أن يضبطه القرآن ويبين الطريقة السديدة للحوار المثمر سواء مع
الناس عمومًا أو بين الأنبياء وأقوامهم حين يلزم استدعاء الحجة وقوة البيان مع لزوم
الرفق وضبط النفس، أو في داخل إطار الأسرة في مشهد دعوة الابن المسلم للأب الكافر،
- وهو أقصى ما يتصور من مواقف ضبط النفس أثناء الحوار- أو في مقام التربية بين الأب
وابنه (مثل حوار لقمان مع ابنه)، أو حال الأزمات والمواقف العصيبة....وهكذا
هل نعاني غيابَ الحوار
البنّاء داخل الأسرة؟
في الوقت الذي يواجه فيه
الوالدان كثيرًا من التحديات التي تنازعهم مهام التربية، وتشاركهم في توجيه الأبناء
والتأثير على أفكارهم؛ تشتد الحاجة إلى معرفة أهمية وأصول الحوار المثمر داخل
الأسرة.
ولكن الواقع يزخر بمشاهد
متكررة من ضعف التواصل بين الوالدين والأبناء داخل محيط الأسرة، وانقطاع خيوط
الحوار المثمر بين الطرفين، فقد أكدت الدراسات العلمية أنّ أكثر من 80% من مشكلات
المراهقين في عالمنا العربي تأتي كنتيجة مباشرة لمحاولة أولياء الأمور تسيير
أولادهم بموجب آراؤهم وعاداتهم، ومن ثمّ يُحجِم الأبناء عن الحوار مع الوالدين،
لأنهم يعتقدون أنّ الآباء لا يهمهم معرفة رأي أبنائهم في مشكلاتهم، أو أنهم لا
يهتمون بمعرفة مشكلات أبنائهم من الأساس.
|
يرفع الحوار الفعّال من مستوى ودرجة تقدير المتربي لذاته، وهذا بالتالي
سيؤدي إلى ارتفاع معدل الاتزان السلوكي والانفعالي لديه، والذي سيثمر بدوره
مستوًى عالٍ من النضج في شخصية المتربي |
وللحوار آداب وضوابط لابد
من مراعاتها:
- ندعو الوالديْن والمربين
للقيام بدور المُحاور لا المناظِر؛ وهناك فرق كبير بينهما؛ فالمناظِر يبغي إقناع
صاحبه برأيه ليتبناه، بينما المحاور يقوم بإضاءة نقطة مظلمة، وتوضيح قضية غامضة لا
يراها المُحاور الآخر على الوجه الصحيح، فهو يستهدف إفادة الأبناء وليس الاستحواذ
والاستيلاء عليهم.
- من أهم المهارات التي
يجب أن يتمتع بها الوالديْن، ويدربوا عليها الأبناء أثناء الحوار، هي: فن الإصغاء،
والصبر والحفاظ على الهدوء، وتقبل الاختلاف بيننا وبين أبناءنا.
- ثم لنتفق مع الأبناء قبل
الحوار أن بُغْيَتنا من الحوار هو معرفة الصواب الذي يرضاه الله تعالى، وأنّ
مرجعيتنا عند الخلاف هي الرجوع إلى أحكام الدين، لمعرفة ما يحبه الله تعالى فنأتيه،
وما يبغضه الله تعالى فنبتعد عنه ونجتنبه.
ومع الاستمرار، يجني
الوالدان والأبناء ثمار الحوار اليانعة
- في الأسر التي تعتمد
أسلوب الحوار يزيد قبول الابن لوالديه خاصةً الأب؛ وتقترب المسافة بينهما، حيث يشعر
أن والده يحترمه ويستمع إليه، ولا يمارس معه نوعاً من مصادرة الرأي أو إلغاء
الشخصية.
- ومع تكرار موقف الحوار
الناجح بين الآباء والأبناء تتأكد القيم الفاضلة في نفوس الأبناء، وتُصحح المفاهيم
الخاطئة لديهم، ويكتسبون الثقة بالنفس والمناعة اللازمة ضد التيارات الفكرية
المنحرفة.
- كذلك يجعل الحوار من
الوالد مرجعية موثوقة ومنضبطة لدى الابن، فلا يتجاوزه إلا إذا أحاله الأب إلى من هو
أعلم منه، وذلك في الحالات التي يعجز فيها عن تقديم المشورة الصحيحة، قال تعالى:
"وفوق كل ذي علم عليم"
–
يوسف:76
–
- وتؤكد عملية المناقشة والتحاور بين الآباء والأبناء قيمة الثقة والاحترام
المتبادل بين الطرفين، وتهديء من حدة التوتر بينهما، وتتحول مساحة التسلط الموجّه
من الكبار إلى الصغار، وكذلك الشعور بالظلم والهوان وقلة الحيلة من جهة الصغار إلى
الاحترام المتبادل والرحمة والتعاون.
-
يرفع الحوار الفعّال من مستوى ودرجة تقدير المتربي لذاته، وهذا بالتالي سيؤدي إلى
ارتفاع معدل الاتزان السلوكي والانفعالي لديه، والذي سيثمر بدوره مستوًى عالٍ من
النضج في شخصية المتربي،
خاصة إذا ما قورن بغيره من
الأقران الذين يفتقدون الحوار في أسرهم.
- كما سيتيح الحوار للوالد والمربي أن يتعرف على مساحة واسعة من شخصية المتربي
العقلية والمهارية والوجدانية، مما يجعله أكثر فهمًا لسلوك الابن ودوافع هذا السلوك
وخلفياته، ومن ثم إدارة المواقف التربوية مع المتربي بشكل فاعل ومؤثر.
- من خلال الحوارات الجيدة
المتكررة تتمكن الأسرة (متمثلة في الوالديْن) من أداء وظيفتها الرئيسة كمصدر موثوق
للمعرفة الصحيحة وتوجيه سلوك الأبناء وبناء هويتهم الدينية والثقافية.
وفي مدرسة النبوة: كان
الحوار سبيلًا لتصحيح الأفكار وتوجيه السلوك
لنتأمل.. كيف سار هذا
الحوار العظيم وكيف أداره النبي صلى الله عليه وسلم مع الشاب الذي جاء يستأذنه في
الزنا..!
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا. فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ
عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ قَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ
قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ. قَالَ: أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ
جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ.
قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لابْنَتِكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ
جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ.
قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ.
قَالَ: وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ
لِعَمَّتِكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلا
النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَالَ:
لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ
لِخَالَاتِهِمْ. قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ
ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ
الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.
ومن أهم سمات الحوار
التربوي في هذا الموقف النبوي الرائع:
- ضبط المربي لانفعالاته،
إذ يعلمنا النّبي صلى الله عليه وسلم كيف نضبط الانفعالات بالصورة التي نستطيع أن
نؤثّر بها على من نربيهم.
- الاستماع إلى الشاب
(الابن) وإتاحة الفرصة له ليعرض وجهة نظره مهما كانت شائكة أو خاطئة.
- تفكيك الإشكالية التي
يعرضها الشاب من خلال أسلوب (المحاكمة العقلية)، التي ترده إلى الأصول الصحيحة التي
لا يقبل هو نفسه أن يحيد عنها.
- ملازمة التعبير عن الحب
لشخص الشاب (الابن)، والاحتواء للأزمة التي يمرّ بها، والحرص على صلاحه واستقامته.
- التدعيم من خلال التواصل
باللمس (فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ)، والدعاء له وهو يسمع (وَقَالَ: اللَّهُمَّ
اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ).
- الدعاء للأبناء يمثل
حلّا حقيقيًا وعلاجًا نافعًا لكثير من التحديات التي يواجهها أبناؤنا (فَلَمْ
يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ).
فلا تنزعج ولا تغضب عندما
يفصح أبناؤك عن أفكارهم القاصرة، وحاجاتهم الفطرية، وطموحاتهم، وهمومهم، ثم عن طريق
الحوار، والإقناع، وبروح الهدوء عليك أن تأخذ بأيديهم لإيجاد الحلول، أو تساعدهم في
الوصول إلى طموحاتهم أو تعدل من أفكارهم، ثم تُتْبِع الحوار بالدعاء لهم، متجنبًا
سلوك القمع والتأنيب حتى لا يخرجوا من محيطك الآمن إلى قوارع الطريق.