الباب الأول: مصادر الاستدلال والتلقي بين أهل السنة والرافضة2-2
الرئيسية - أصول
وقواعد منهجية
القاعدة
الثانية:
تعظيم النص الشرعي والوقوف عند حدوده:
قال ابن تيمية: «أحمد بن حنبل يستحب المتعة
- متعة الحج - ويأمر بها، حتى يستحب هو وغيره من الأئمة - أئمة أهل الحديث - لمن
أحرم مفرداً أو قارناً أن يفسخ ذلك إلى العمرة ويصير متمتعاً، لأن الأحاديث
الصحيحة جاءت بذلك، حتى قال سلمة بن شبيب للإمام أحمد: أبا عبد الله قوَّيت قلوب
الرافضة لـمَّا أفتيت أهل خراسان بالمتعة - متعة الحج -! فقال: يا سلمة كان يبلغني
عنك أنك أحمق، وكنت أدفع عنك، والآن فقد ثبت عندي أنك أحمق، عندي أحد عشر حديثاً
صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، أأتركها لقولك؟!»[1].
فالمعيار الذي توزن به الأقوال والأعمال هو
النص الشرعي وليس المكايدة المذهبية، ولذا فقد أصل ابن تيمية قاعدة جليلة قال
فيها: «كل ما نهى الله عنه ورسوله فهو مذموم منهي عنه، سواء أكان فاعله منتسباً
إلى السُّنَّة أو إلى التشيع»[2].
القاعدة
الثالثة: ردُّ
المتشابه إلى المحكم:
من مآخذ المبتدعة في الاستدلال: اتباع
المتاشبة وردُّ المحكم، كما جاء وصفهم في قول الله - تعالى -:
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ
آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ} [آل عمران: ٧].
وقد تميَّز الرافضة بهذه الصفة، حيث قال شيخ
الإسلام ابن تيمية في بيان حالهم: «وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم
يقيناً - بطرق كثيرة علماً لا يقبل النقيض - بشُبَه في غاية الضعف، هم من أعظم
الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ، الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم، كالنصارى
والجهمية وأمثالهم من أهل البدع والأهواء، الذين يدعون النصوص الصحيحة الصريحة
التي توجب العلم، ويعارضونها بشُبَه لا تفيد إلا الشك، لو تُعرض لم تثبت، وهذا في
المنقولات سفطة كالسفطة في العقليات، وهو القدح فيما عُلم بالحس والعقل بشُبَه
تعارض ذلك. فمن أراد أن يدفع العلم اليقيني المستقر في القلوب بالشُبَه، فقد سلك
مسلك السفسطة»[3].
القاعدة
الرابعة:
نصوص الشارع كلمات جوامع، فينبغي الاجتهاد في الجزئيات:
قال ابن تيمية: «فإنَّ الشارع نصوصه كلمات
جوامع، وقضايا كلية، وقواعد عامة، يمتنع أن ينصَّ على كلِّ فرد من جزئيات العالم
إلى يوم القيامة، فلا بدَّ من الاجتهاد في المعيَّنات: هل تدخل في كلماته الجامعة
أم لا؟.
وهذا الاجتهاد يسمى تحقيق المناط، وهو
مـمَّا اتفق عليه الناس كلهم: نفاة القياس ومثبتته، فإنَّ الله إذا أمر أن يُستشهد
ذوا عدل، فكون الشخص المعيَّن من ذوي العدل لا يُعلم بالنصِّ العام بل باجتهاد
خاص، وكذلك إذا أمر أن تؤدَّى الأمانات إلى أهلها وأن يولى الأمور من يصلح لها،
فكون هذا الشخص المعين صالحاً لذلك أو راجحاً على غيره لا يمكن أن تدلَّ عليه
النصوص، بل لا يُعلم إلا باجتهاد خاص»[4].
وقال ابن تيمية في موضع آخر: «القياس إن كان
حجة جاز إحالة الناس عليه، وإن لم يكن حجة وجب أن ينص النبي على الكليات، وأيضاً
فقد قال - تعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا}
[المائدة: ٣].
وهذا نص في أنَّ الدين كامل لا يحتاج معه
إلى غيره، والناس في الأصل ثلاثة أقوال:
منهم من يقول: النصوص قد انتظمت جميع كليات
الشريعة فلا حاجة إلى القياس؛ بل لا يجوز القياس.
ومنهم من يقول: بل كثير من الحوادث لا
يتناولها النصوص، فالحاجة داعية إلى القياس. ومن هؤلاء من قد يدَّعي أنَّ أكثر
الحوادث كذلك، وهذا سرف منهم.
ومنهم من يقول: بل النصوص تناولت الحوادث
بطرق جلية أو خفية، فمن الناس من لا يفهم تلك الأدلَّة، أو لا يبلغه النص فيحتاج
إلى القياس، وإن كانت الحوادث قد تناولها النصُّ، أو يقول: إن كلَّ واحد من عموم
النص القطعي والقياس المعنوي حجة وطريق يسلك السالك إليه ما أمكنه، وهما متفقان لا
يتناقضان إلا لفساد أحدهما، وهذا القول أقرب من غيره.
وأما الجزئيات فهذه لا يمكن النص على
أعيانها، بل لا بدَّ فيها من الاجتهاد المسمى بتحقيق المناط، كما أن الشارع لا
يمكن أن ينصَّ لكلِّ مصلٍّ على جهة القبلة في حقه، ولكل حاكم على عدالة كل شاهد،
وأمثال ذلك...»[5].
القاعدة
الخامسة: الموازنة
بين المصالح والمفاسد:
قال ابن تيمية: «فالأقل ظلماً ينبغي أن
يُعاون على الأكثر ظلماً، فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل
المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين، حتى يُقدَّم عند
التزاحم خير الخيرين ويُدفعَ شرُّ الشرين»[6].
وقال أيضاً: «الصواب الذي مصلحته أعظم: هو
خير وأفضل من الصواب الذي مصلحته أقل»[7].
وقال: «ومما ينبغي أنَّ يُعلم: أن الله -
تعالى - بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الناس على غاية ما يمكن من الصلاح، لا لرفع
الفاسد بالكلية، فإن هذا ممتنع في الطبيعة الإنسانية، إذ لا بدَّ فيها من فساد»[8].
القاعدة السادسة:
الفتنة من صوارف الاهتداء بالحق:
قال ابن تيمية: «.. وذلك أنَّ الله - تعالى
- بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فبالهدى يُعرف الحق، وبدين
الحق يُقصد الخير ويُعمل به، فلا بُدَّ من علم بالحق، وقصد له وقدرة عليه، والفتنة
تضادّ ذلك، فإنَّها تمنع معرفة الحق أو قصده أو القدرة عليه، فيكون فيها من
الشبهات ما يلبس الحق بالباطل، حتى لا يتميَّز لكثير من الناس أو أكثرهم، ويكون
فيها من الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته، ويكون فيها من ظهور قوة الشر
ما يُضعف القدرة على الخير.
ولهذا يُنكر الإنسان قلبه عند الفتنة، فيردُ
على القلوب ما يمنعها من معرفة الحق وقصده، ولهذا يُقال: فتنة عمياءُ صمَّاء،
ويقال: فتن كقطع الليل المظلم، ونحو ذلك من الألفاظ التي يتبيَّن ظهور الجهل فيها،
وخفاء العلم»[9].
القاعدة السابعة:
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
قال ابن تيمية: «وهو صلى الله عليه وسلم
أمره شامل عام لكلِّ مؤمن شاهده أو غاب عنه في حياته وبعد موته، وليس هذا لأحد من
الأئمة ولا يُستفاد هذا بالإمامة. حتى أنه صلى الله عليه وسلم إذا أمر ناساً
معينين بأمور، وحكم في أعيان معينة بأحكام، لم يكن حكمه وأمره مختصَّاً بتلك
المعينات، بل كان ثابتاً في نظائرها وأمثالها إلى يوم القيامة، فقوله صلى الله
عليه وسلم لمن شهده: (لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود)[10]، هو حكم ثابت لكلِّ
مأموم بإمام ألَّا يسبقه بالركوع ولا بالسجود، وقوله لمن قال: لم أشعر فحلقت قبل
أن أرميَ، قال: (ارمِ ولا حرج)، ولمن قال: نحرت قبل أن أحلق، قال: (احلق ولا حرج)،
أمر لمن كان مثله[11]. وكذلك قوله لعائشة -
رضي الله عنها - لما حاضت وهي معتمرة: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألَّا تطوفي
بالبيت)[12]، وأمثال هذا كثير...»[13].
القاعدة الثامنة:
العبادة مبناها على الاتباع لا على الابتداع:
قال ابن تيمية: «العبادات مبناها على أصلين:
أحدهما: ألَّا
يعبد إلا الله، لا نعبد من دونه شيئاً، لا ملكاً ولا نبيَّاً ولا صالحاً ولا شيئاً
من المخلوقات.
والثاني:
أن نعبده بما أمرنا به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نعبده ببدع لم
يشرعها الله ورسوله»[14].
وهذه قاعدة عظيمة من قواعد التلقي تعصم
المسلم من الزيغ والانحراف والإحداث في دين الله تعالى. ومن عضَّ عليها بالنواجذ
سلمت ديانته من تحريف الغالين وانتحال المبطلين.
- الباب الأول: مصادر الاستدلال والتلقي بين أهل السنة
والرافضة 1-2
- الباب الأول: مصادر
الاستدلال والتلقي بين أهل السنة والرافضة 2-2
[1] (4/152).
[2] (1/483).
[3] (7/464).
[4] (6/139-140).
[5] (6/411-412).
[6] (6/118).
[7] (6/114).
[8] (6/149).
[9] (4/547-548).
[10] أخرجه: مسلم (1/320).
[11] قال المحقق: جاءت
أحاديث في جواز عدم الترتيب في المناسك عن عدد من الصحابة، انظر: البخاري (2/173 و
175)، ومسلم (2/948 - 950).
[12] أخرجه: البخاري
(2/159).
[13] (1/81 - 82).
[14] (2/448).