(أصول وقواعد منهجية) مقدمة الطبعة الثانية 1-2
الرئيسية - أصول
وقواعد منهجية
الحمد
لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام
المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
فقد
نشرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في عام 1422هـ، وها هي ذي الطبعة الثانية التي
أنشرها في ظروف سياسية وفكرية أكثر احتقاناً وتوتراً بين السُّنَّة والشيعة.
واللافت للنظر أن كثيراً من المتابعين والمحللين؛ بل بعض الإسلاميين من الدعاة
والمصلحين عند قراءته للعلاقة بين السُّنَّة والشيعة؛ يفصل بين البعدين: العقدي
والسياسي، مـمَّا يؤدي في بعض الأحيان إلى التباس كثير من المواقف وردود الأفعال،
وأصبح بعض هؤلاء يعالج هذا الواقع في ظلِّ انبهاره بشعارات المقاومة والممانعة
التي يرفعها المحور الإيراني في المنطقة.
ومنذ
بدايات تصدير مشروع الثورة الإيرانية كان بعض الفضلاء ينظر إلى مشروع الوحدة
الإسلامية بمنظار عاطفي، يبني هذه الوحدة على أسس هشة لا تكاد تلقي للأبعاد
العقدية كبير اهتمام واعتبار، ومع تعدد النوازل السياسية في المنطقة بدأت تتكشف
حقيقة الثورة الإيرانية بأبعادها المستفزة المعادية لأهل السُّنَّة، ومع ذلك ما
زال بعضهم يتهرب من بيان الحقيقة، فعندما تتحدث عن انحرافات الشيعة العقدية يتهمك
بعض إخوانك بأنك تحيي الخلافات التاريخية، وتجتَّر الصراعات القديمة التي عفا
عليها الزمن، وعندما تتحدث عن حقوق أهل السُّنَّة في إيران، وعن حقوق الأحوازيين
يوبخك إخوانك لأنك بزعمهم - تحيي الطائفية. وعندما تتحدث عن القتل والتشريد على
الهوية، وحملات التطهير المذهبي، ومصادرة الأوقاف العامة والممتلكات الخاصة في
العراق يتهمك بالتعصب والتشدد، وعندما تكشف له عن مشاريع تصدير الثورة في البحرين،
وخلفياتها الحزبية والطائفية، وعن حراك وتسليح الحوثيين في اليمن، فأنت في ميزانه
طائفي بامتياز، أمَّا حينما تتجرأ في نقد حزب الله، وتواطئه مع النظام السوري في
مجازره الرهيبة بحق السوريين، فأنت ضد مشروع المقاومة وتثير خلافات لا مكان لها،
وعندما ترصد التمدد والاختراق الإيراني في الجزائر، ومصر وليبيا ونيجيريا والسنغال
وأندونيسيا ونحوها من الدول الإسلامية الكبرى، فأنت تقوِّض الوحدة الإسلامية،
وتشتِّت الأمة بالعصبية المذهبية. وعندما تردُّ على بعض المتطاولين على أمهات
المؤمنين والصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - فأنت تشغل نفسك بالردِّ على بعض
المغمورين الذين لا يمثلون التيار العام!
وإن
تحفظت على دعوات ومجالس التقريب بين السُّنَّة والشيعة، وذكرت من الشواهد القديمة
والمعاصرة ما يدلُّ على فشلها وعدم صدقيتها ؛ صاح بك بعضهم ينهاك عن التثبيط
والتخذيل!
والمحصلة
أن المشروع الصفوي يستأصل ويُهجِّر أهل السُّنَّة في بعض البلاد، ويُغيِّر
تركيبتها السكانية، ويخترق بمشاريعه الطائفية دولاً ومناطق أخرى، ويصل إلى الآفاق
والأطراف الإسلامية في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى وأوروبا الشرقية
بدعاته ومشاريعه وسفرائه السياسيين.
أما
بعض السياسيين المنتسبين إلى السُّنَّة فيواجه ذلك بالتهدئة والتغافل، وبعض
الإسلاميين يطالب بالتسامح والحكمة وضبط النفس، وترتفع الأصوات من هنا وهناك: لا
للطائفية.. إياكم والطائفية!
إنَّ
ثمَّة حقيقة مؤلمة تستحق الحوار الجاد والمراجعة الصادقة، وهي: أن رؤوس المشروع
الصفوي من السياسيين وأصحاب العمائم يجاهرون بكل وضوح بأهدافهم السياسية وتطلعاتهم
العقدية، ويسقطون بكل استعلاء ومكابرة عباءة التقية بلا تردد، وبعضنا ما يزال يجتر
أوهاماً لا حقيقة لها ألبتة، ويتردد حيث يجب الإقدام، ويسكت حيث يجب الكلام
والبيان.
ويسرني
أن أضع بين يدي القارئ الكريم طبعة جديدة من هذه القراءات في (منهاج السنة
النبوية)، وقد أضفت فيها مسائل جديدة، وتعليقات عديدة؛ أرجو أن يجد فيها القارئ
إسهاماً علمياً يعينه على رؤية الواقع بعين بصيرة مدركة للخلفيات العقدية المؤسسة
لمذهب التشيع.
وأسأل
الله - عزَّ وجلَّ - أن يرينا الحق حقاً ويترزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً
ويرزقنا اجتنابه.
وصلى
الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
التمهيد
إنَّ
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا،
من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله،
وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ
إلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل
عمران: 102].
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً 70
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما
بعد:
فقد
عاش شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في عصر اختلطت فيه الثقافات،
واشتبكت فيه الأفكار، وكثر فيه الدخيل على العقيدة الإسلامية، فقد نصب المبتدعة من
الفلاسفة والمتكلمين والرافضة والمتصوفة.. وغيرهم راياتهم هنا وهناك، وأثاروا
زوبعة من البدع والشبهات، وتسللت على أيديهم عشرات العقائد المنحرفة والآراء
المضطربة، التي تلبست بلباس الإسلام، وأضلَّت عدداً كثيراً من العباد.
وكان
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عقلية جبارة، وقمَّة فكرية فذَّة، درس
العلوم الشرعية منقولها ومعقولها دراسة عظيمة تثير الدهشة والعجب، واجتمعت فيه
علامات النبوغ والعبقرية في مرحلة مبكرة من عمره، فقد كان قويَّ الحافظة، سريع
الخاطرة، نافذ البصيرة، قويَّ النفس، عالي الهمَّة، أفتى الناس في سن الثانية
عشرة، واعترف له الأقران والعلماء بعلوِّ المكانة ورسوخ العلم.
وتعدُّ
الجهود العلمية الخصبة لابن تيمية فتحاً كبيراً أمام الإنسان المسلم في مواجهته
للتيارات العقدية المختلفة. وكانت إبداعاته المتنوعة حرباً ضارية على الحركات
البدعية والباطنية التي كبلت طاقات الأمة وإمكاناتها بقيود من الجهل والاستبداد
والهوى.
فثروة
هذا الإمام المجدِّد في المعارف الشرعية منقولها ومعقولها صقلت مرآة العلم الشرعي
الأصيل، وأعادت الثقة من جديد بمنهج السلف الصالح - رضي الله تعالى عنهم - وأزالت
الغبار المتراكم خلال عقود متتابعة من الزمن. ولا شك بأنَّ البحوث والدراسات
والتحقيقات العلمية الماتعة، والكتابات القوية المؤصلة، التي جاء بها شيخ الإسلام
ابن تيمية كانت ثمرة للمعاناة الكبيرة التي تحملها في مواجهة الملل والنحل
والمذاهب المختلفة التي تموج بها الساحة الإسلامية في ذلك الوقت.
لقد
نهل ابن تيمية من معين المنهج الكريم لسلف الأمة الأبرار - رضي الله تعالى عنهم -
ثم شبَّ واستقام عوده عليه، ليُعلن بكلِّ قوة وجرأة الرفض الكامل لكلِّ
الآراء والتصورات البشرية التي ليس لها حظ من الأثر الصحيح، أوالنظر الراجح أو
الصريح، وهو إذ يعلن ذلك يعلنه في ثقة كاملة من هذا المنهج، وبمعرفة كاملة لحدوده
ومعالمه وأصوله.. فها هو ذا يقول لمناظريه بكلِّ ثقة: «أنا أمهل من يُخالفني ثلاث
سنين إن جاء بحرف واحد عن أحد من أئمة القرون الثلاثة يخالف ما قلتُه، فأنا أقرُّ
بذلك. وأمَّا ما أذكره فأذكره عن أئمة القرون الثلاثة بألفاظهم، وبألفاظ من نقل
إجماعهم من عامَّة الطوائف»[1].
وقال
في (مناظرة الواسطية): «وقلتُ مرات: قد أمهلتُ كلَّ من خالفني في شيء منها ثلاث
سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله
عليه وسلم حيـــث قال: (خــــير القــــرون القــرن الذي بُعثت فيهم، ثم الذين
يلونهـم)[2] -
يُخالف ما ذكرتُه فأنا أرجع عن ذلك. وعليَّ أن آتيَ بنقول جميع الطوائف عن القرون
الثلاثة - توافق ما ذكرته، من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة،
والأشعرية، وأهل الحديث، والصوفية، وغيرهم»[3].
وقال
في مقدمة (الجواب الباهر في زوَّار المقابر): «إنني لـمَّا علمت مقصود وليِّ الأمر
السلطان - أيَّده الله وسدَّده فيما رسم به - كتبت إذ ذاك كلاماً مختصراً. لأنَّ
الحاضر استعجل بالجواب، وهذا فيه شرح الحال أيضاً مختصراً. وإن رسم ولي الأمر
أيَّده الله وسدَّده، أحضرتُ له كتباً كثيرة من كتب المسلمين - قديماً وحديثاً -
ممَّا فيه كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وكلام أئمة المسلمين
الأربعة، وغير الأربعة، وأتباع الأربعة، ممَّا يوافق ما كتبته في الفتيا؛ فإنَّ
الفتيا مختصرة، لا تحتمل البسط. ولا يقدر أحدٌ أن يذكر خلاف ذلك، لا عن النبي صلى
الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن أئمة المسلمين، لا
الأربعة ولا غيرهم. وإنَّما يُخالف في ذلك من يتكلم بلا علم، وليس معه بما يقوله
نقل، لا عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم ولا عَنِ الصحابة، ولا عَنِ التابعين، ولا
عَنْ أئمة المسلمين، ولا يمكنه أن يُحضر كتاباً من الكتب المعتمدة عن أئمة المسلمين
بما يقوله، ولا يعرف كيف كان الصحابة والتابعون يفعلون في زيارة قبر النبي صلى
الله عليه وسلم وغيره. وأنا خطي موجود بما أفتيت به، وعندي مثل هذا كثير كتبته
بخطي، ويُعرض على جميع من يُنسب إلى العلم شرقاً وغرباً، فمن قال: إنَّ عنده علماً
يُناقض ذلك فليكتب خطَّه بجواب مبسوط، يُعرف فيه من قال هذا القول قبله، وما
حُجَّتهم في ذلك..!!»[4].
ومع
هذه الثقة بمنهجه، وقوَّته في معرفة الحق بدلائله تمَّيز - رحمه الله تعالى -
بمعرفته الدقيقة لكلِّ البدع الكلامية، والسفسطات الفلسفية، والخرافات الصوفية،
التي يتنادى بها أصحابها في كلِّ ميدان، حتى قال عن نفسه: «أنا أعلم كلَّ بدعة
حدثت في الإسلام، وأوَّل مَن ابتدعها، وما كان سبب ابتداعها»[5].
وقال
أيضاً «كلُّ من خالفني في شيء ممَّا كتبتهُ فأنا أعلم بمذهبه منه»[6].
وقال
في معرض ردِّه على الاتحادية: «ولهذا لمَّا بيَّنت لطوائف من أتباعهم ورؤسائهم
حقيقة قولهم، وسرَّ مذهبهم، صاروا يُعظِّمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذمِّ
لجعلوني من أئمتهم، وبذلوا من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجلُّ عن الوصف، كما تبذله
النصارى لرؤسائهم، والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون»[7].
لقد
استطاع شيخ الإسلام ابن تيمية أن ينطلق بكلِّ صدق إلى آفاق متعددة، بنَفَسه
الطويل، وحجَّته الواضحة، وعزيمته القوية؛ ليقول للناس جميعاً بكلِّ ثقة وقوة:
إنَّ هذا الركام الهائل من التصورات البدعية والنحل الفكرية، دخيلة على منهج
الإسلام الصحيح، بعيدة كل البعد عن منهاج النبوة والقرون المفضلة الأولى، ولا تثبت
للتمحيص بالموازين العلمية الدقيقة.
وكان
ابن تيمية يعرض آراءه وأقواله بعد طول بحث ونظر ودراسة، فلم يكن مقلداً لأحد أو
متعصباً لقول، فها هو ذا يقول: «وقد طالعتُ التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما
رووه من الحديث، ووقفتُ من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار
أكثر من مئة تفسير، فلم أجد - إلى ساعتي هذه - عن أحد من الصحابة أنَّه تأوَّل
شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم ا لمعروف، بل عنهم -
من تقرير ذلك وتثبيته، وبيان أنَّ ذلك من صفات الله - ما يُخالف كلام المتأولين ما
لا يُحصيه إلا الله. وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير.
وتمام
هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله - تعالى -: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42]»[8].
وقال
في موضع آخر: «والله يعلم أني بعد البحث التام، ومطالعة ما أمكن من كلام السلف، ما
رأيت كلام أحد منهم يدلُّ - لا نصَّاً ولا ظاهراً ولا بالقرائن - على نفي الصفات
الخبرية في نفس الأمر، بل الذي رأيتُه أنَّ كثيراً من كلامهم يدلُّ - إمَّا نصّاً
وإمَّا ظاهراً - على تقرير جنس هذه الصفات، ولا أنقل عن كلِّ واحد إثبات كل صفة،
بل الذي رأيته أنَّهم يُثبتون جنسها في الجملة، وما رأيت أحداً منهم نفاها.
وإنَّما ينفون التشبيه، ويُنكرون على المشبهة الذي يُشبهون الله بخلقه، مع إنكارهم
على من ينفي الصفات أيضاً...»[9].
ويؤكد
ابن تيمية - في كلِّ ما يقوله - أنَّه لم يأت بشيء جديد من عند نفسه، وإنَّما أراد
أن يرتبط الناس جميعاً بكتاب الله - عزَّ وجلَّ -، وسنَّة النبي صلى الله عليه
وسلم ومنهج القرون المفضلة الأولى، حيث قال: «جماع الفرقان بين الحق والباطل،
والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق السعادة والنجاة، وطريق الشقاوة والهلاك، أن
يُجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، هو الحق الذي يجب اتباعه، وبه يحصل
الفرقان والهدى والعلم والإيمان، فيصدق بأنَّه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر
الناس يُعرض عليه، فإن وافقه فهو الحق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم هل وافقه
أو خالفه لكون ذلك الكلام مجملاً لا يُعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده، ولكن لم
يُعرف هل جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بتصديقه أو تكذيبه، فإنَّه يُمسك فلا
يتكلم إلا بعلم»[10].
ويؤكد
على ضرورة الاعتماد على الكتاب والسُّنَّة بقوله: «فمَن بنى الكلام في العلم -
الأصول والفروع - على الكتاب والسُّنَّة والآثار المأثورة عن السابقين: فقد أصاب
طريق النبوة، وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال
وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسُّنَّة والهدى والذي
كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد أصاب طريقة النبوة، وهذه طريقة أئمة
الهدى»[11].
وقال
في موضع آخر: «فعلى كلِّ مؤمن ألَّا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعاً لما جاء به
الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتقدم بين يديه؛ بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعاً
لقوله، وعلمه تبعاً لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم
بإحسان وأئمة المسلمين؛ فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس
ديناً غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه نظر فيما
قال الله والرسول صلى الله عليه وسلم، فمنه يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر،
وبه يستدل، فهذا أصل أهل السُّنَّة، وأهل البدع لا يجعلون اعتمادهم في الباطن ونفس
الأمر على ما تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل على ما رأوه أو ذاقوه، ثم إن
وجدوا السُّنَّة توافقه، وإلا لم يبالوا بذلك، فإذا وجدوها تخالفه أعرضوا عنها تفويضاً
أو حرفوها تأويلاً»[12].
وقال
أيضاً: «وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم - يعني: أهل السُّنَّة - اعتقادهم
بالكتاب والسُّنَّة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم
بإحسان: أنَّه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا
قياسه، ولا وجده، فإنَّه ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أنَّ الرسول
صلى الله عليه وسلم جاء بالهدى ودين الحق، وأنَّ القرآن يهدي للتي هي أقوم[13].
وكان
ابن تيمية - رحمه الله - يذمُّ الذين يردُّون النصوص الثابتة المحكمة ولا
يُعظِّمون كتاب الله - عزَّ وجلَّ - وسنَّة النبي صلى الله عليه وسلم ويبيِّن
ضلالهم وانحرافهم، فها هو ذا يصف حال هؤلاء القوم بقوله: «فعدل كثير من المنتسبين
إلى الإسلام إلى نبذ القرآن وراء ظهره، واتبع ما تتلو الشياطين، فلا يعظِّم أمر
القرآن ونهيه، ولا يُوالي من أمرَ القرآن بموالاته، ولا يعادي من أمر القرآن
بمعاداته»[14].
ويصف
غلاة الصوفية بقوله: «ولهذا يوجد في هؤلاء وأتباعهم من ينفرون عن القرآن والشرع
كما تنفر الحمر المستنفرة التي تفرُّ من الرماة ومن الأسد، ولهذا يوصفون بأنهم إذا
قيل لهم: قال المصطفى، نفروا..»[15].
وقال
أيضاً: «وأهل العبادات البدعية يزيِّن لهم الشيطان تلك العبادات، ويبغض إليهم
السبل الشرعية، حتى بغضهم في العلم والقرآن والحديث، فلا يحبون سماع القرآن
والحديث ولا ذكره، وقد يبغض إليهم حتى الكتاب، فلا يحبون كتاباً ولا من معه كتاب،
ولو كان مصحفاً أو حديثاً كما حكى النصرباذي أنهم كانوا يقولون: يدع علم الخرق
ويأخذ علم الورق! قال: وكنت أستر ألواحي منهم، فلما كبرت احتاجوا إلى علمي..»[16].
وقال
أيضاً: «لا يجوز لأحد أن يعارض كتاب الله بغير كتاب، فمَن عارض كتاب الله وجادل
فيه بما يسميه معقولات وبراهين وأقيسة، أو ما يسميه مكاشفات ومواجيد وأذواقاً، من
غير أن يأتي على ما يقوله بكتاب منزل فقد جادل في آيات الله بغير سلطان.. فأمَّا
معارضة القرآن بمعقول أو قياس فهذا لم يكن يستحله أحد من السلف، وإنما ابتدع ذلك
لما ظهرت الجهمية والمعتزلة ونحوهم، مـمَّن بنوا أصول دينهم على ما سمُّوه
معقولاً، وردُّوا القرآن إليه، وقالوا: إذا تعارض العقل والشرع إمَّا أن يفوَّض
وإمَّا أن يتأوَّل، فهؤلاء من أعظم المجادلين في آيات الله بغير سلطان أتاهم»[17].
ويبين
في مواضع عديدة منهجه في الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح، وأنَّه ما كان يدعو إلى تقليده
أو تقليد غيره من الأئمة، فمن ذلك قوله: «مع أني في عمري إلى ساعتي هذه لم أدعُ
أحداً قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي وغير حنبلي، ولا انتصرت لذلك، ولا أذكره في
كلامي، ولا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمَّة وأئمتها»[18].
وقال
في موضع آخر: «وأمَّا الاعتقاد فلا يؤخذ عنِّي، ولا عمَّن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف الأمَّة، فما كان في القرآن
وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل: صحيح البخاري، ومسلم..»[19].
ولهذا
كان ابن تيمية يذمُّ التعصب والتعلُّق بالأشخاص، فيقول: «وإذا تفقَّه الرجل بطريقة
قوم من المؤمنين مثل: أتباع الأئمة والمشايخ، فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم
المعيار، فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم، فينبغي للإنسان أن يُعوِّد نفسه
التفقه الباطن في قلبه والعمل به، فهذا زاجر، كمائن القلوب تظهر عند المحن، وليس
لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها لكونها قول أصحابه، ولا يناجز عليها؛ بل لأجل
أنها ممَّا أمر الله به ورسوله، أو أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لكون
ذلك طاعة الله ورسوله»[20].
ويقول
عن التعصب في موضع آخر: «وهذا يُبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في
العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة أو غيرهم، أو إلى رئيس معظَّم عندهم في
الدين غير النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّهم لا يقبلون من الدين رأياً ولا رواية
إلا ما جاءت به طائفتهم، ثم إنَّهم لا يعلمون ما توجبه طائفتهم، مع أنَّ دين الإسلام
يوجب اتباع الحق مطلقاً، رواية ورأياً، من غير تعيين شخص أو طائفة غير الرسول صلى
الله عليه وسلم»[21].
وقال
أيضاً: «ولهذا تجد قوماً كثيرين يُحبون قوماً ويُبغضون قوماً لأجل أهواء لا يعرفون
معناها ولا دليلها؛ بل يُوالون على إطلاقها أو يُعادون من غير أن تكون منقولة
نقلاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمَّة، ومن غير أن يكونوا هم
يعقلون معناها، ولا يعرفون لازمها ومقتضاها. وسبب هذا: إطلاق أقوال ليست منصوصة،
وجعلها مذاهب يُدعى إليها ويُوالي ويُعادي عليها»[22].
ويُشدد
في هذه المسألة بقوله: «معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها هو
من فعل المكذبين للرسل؛ بل هو جماع كلِّ كفر»[23].
وظل
ابن تيمية يُصارع رؤوس المبتدعة طويلاً، ويكشف زيوف أفكارهم ومعتقداتهم، ويظهر
عوارهم ومخازيهم، الفرقة بعد الأخرى، والنحلة بعد الثانية. واستمر يواجه تلك
الأمواج المتلاطمة، والأفواج المجتمعة، بسيف الحق، لا يضرُّه من خذله ولا من
خالفه، ولاقى - رحمه الله تعالى - في هذه الطريق ألواناً مختلفة من الكيد
والابتلاء والعنت، ليس على أيدي المبتدعة والضُّلال فحسب، بل حتى من بعض الحسدة من
علماء الدنيا المضللين والحكام الظالمين، ولكنه وقف بكلِّ قوته وصلابته لا يخشى في
الله لومة لائم، لم تلن له قناة، ولم ينحن له سهم، ولم تضعف له عزيمة.. حدَّث عنه
تلميذه البر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - قائلاً: «وعلم الله ما رأيتُ
أحداً أطيب عيشاً منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم؛ بل
ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشاً،
وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنَّا
إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض: أتيناه، فما هو إلا نراه ونسمع
كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة»[24].
- مقدمة الطبعة الثانية
1-2
- مقدمة الطبعة الثانية
2-2
[1]مجموع الفتاوى (3/229).
[2]أخرجه: البخاري (7/3)،
ومسلم (4/229).
[3]مجموع الفتاوى (3/169)،
وانظر (3/197) و (6/16).
[4]جموع الفتاوى
(27/314-315).
[5]المرجع السابق (3/184).
[6] المرجع السابق (3/163).
[7] المرجع السابق
(2/138).
[8] المرجع السابق
(6/394).
[9] المرجع السابق
(5/109-110).
[10] المرجع السابق
(13/135-136).
[11] المرجع السابق
(10/363).
[12] المرجع السابق
(13/63).
[13] المرجع السابق
(13/28).
[14] المرجع السابق
(14/227)، وانظر: (14/359-360).
[15] المرجع السابق
(13/224).
[16] المرجع السابق
(10/411).
[17] الاستقامة (1/22-23).
[18] مجموع الفتاوى
(3/229).
[19] المرجع السابق
(3/161).
[20]المرجع السابق (20/8).
[21]اقتضاء الصراط المستقيم
(1/73-74).
[22]درء تعارض العقل والنقل
(1/271).
[23]المرجع السابق (5/204).
[24]الوابل الصيب (ص 61).