خصومة بايدن مع عهد ترامب.. لا تعنيّ تصالحه مع العالم!

غالبًا ما يعد مرشحو الرئاسة الأمريكيون، ناخبيهم، بأنهم سيحققون السلام بمجرد توليّ المنصب، ثم سرعان ما يعكسون المسار وتسحرهم نشوة رائحة البارود


 لأول مرة منذ عقود؛ كانت المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة فيما يخص سياستها الخارجية تدور حول المرشح الأفضل لإنهاء الحروب في أقرب وقت، وليس من سيفوز بها، في تلك الأثناء حاول كل من دونالد ترامب وجو بايدن وضع نفسيهما كزعيم قادر على إخراج أمريكا من حروبها الأبدية، والتركيز أكثر على القضايا الداخلية، كان كلاهما يدفعان ليكونا "مرشح السلام"، على الرغم من أن سابقة أفعالهما تجعل من الصعب المطالبة بهذا اللقب، وبمجرد الإعلان عن فوز بايدن، توسم الكثيرون أن يتميز عهده بالخصومة التامة مع عهد ترامب، داخليًا وخارجيًا، بالرغم من أن بعض المؤشرات الراهنة لا تدفعنا إلى الاعتقاد بحدوث ذلك.

 بين بقاء القوات وعودتها

"سأعيد قواتنا من أفغانستان، سأعيد قواتنا من العراق"، هكذا قال ترامب خلال لقاء تلفزيوني قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لم تكن 4 سنوات قضاها ترامب في البيت الأبيض، كافية كي يعيد القوات، بل على العكس، فقد زاد العدد الإجمالي للقوات الأمريكية في الخارج منذ ترك سلفه باراك أوباما منصبه، ظل ترامب يردد طوال فترة حكمه بأن سياسته الخارجية جلبت الانسجام الدولي دون إراقة دماء، وأنه تجنب التدخل غير الضروري خارج حدود الولايات المتحدة. في المقابل؛ فقد وعد بايدن بأنه سيعيد القوات الأمريكية من الصراع في أفغانستان والذي دام 19 عامًا، بالرغم من أنه كان عنصرًا فاعلًا في زيادة أعدادها سابقًا في عهد أوباما حين كان نائبًا له، لفترتين متتاليتين، ففي يوليو 2019، قال بايدن خلال خطاب حول السياسة الخارجية: "لقد حان الوقت لإنهاء الحروب الأبدية التي كلفتنا دماءً وأموالًا لا تُحصى"، كان بايدن ـ ولا زال ـ يستغل أي فرصة يحصل عليها للإشارة إلى معارضته لخوض حروب جديدة ما لم تكن المصالح الأمريكية الأساسية على المحك، ردد كثيرًا أن "البقاء راسخين في صراعات لا يمكن كسبها يستنزف قدرتنا على القيادة في قضايا أخرى تتطلب اهتمامنا، ويمنعنا من إعادة بناء أدوات القوة الأمريكية الأخرى"

 بأوامر مباشرة من ترامب، أسقطت الولايات المتحدة القنابل بوتيرة قياسية في أفغانستان، قام بتصعيد الهجمات الأمريكية على أهداف في الصومال والعراق دون إجراء تحقيق جاد في الخسائر المدنية، وهددت بعمل عسكري في فنزويلا وكوريا الشمالية. أما في سوريا؛ فقد ظل ترامب يكرر "نحن خارج سوريا"، بالرغم من إرساله عدد من الجنود إلى هناك للوقوف ضد الاستفزازات الروسية، يتعين على بايدن الآن معالجة الدعم الأمريكي لحرب خاطئة، مثل تلك التي حدثت في العراق، وهى نفس الحرب التي صوّت بايدن مؤيدًا لها، كما أذن سابقًا بشن غارات جوية على يوغوسلافيا أثناء وجوده في مجلس الشيوخ، ودعم تدخلات أوباما الفاشلة في سوريا وليبيا، وبالرغم من تسويق بايدن لنفسه كرجل الدبلوماسية الأمريكية الجديد، إلا أنه لا يريد إجراء تخفيضات كبيرة في ميزانية الدفاع، على الرغم من ضخامة هذه الميزانية.

 سياسات مختلفة وأهداف واحدة

قد يكون من السابق لأوانه الحديث باستفاضة عن عقيدة بايدن العسكرية وسياسته الخارجية، سيبادر بايدن بسرعة إلى إلغاء سياسات "أمريكا أولًا"، لكنه لن يتخلى عن المفهوم المستهدف من وراءها، سيسعى إلى تحقيق ذلك عبر نهج متسق قائم على التعاون الوثيق مع الحلفاء، تخلى بايدن عن خطة لترامب التي تقضي بسحب القوات الأمريكية من ألمانيا، كما سعى إلى تسوية خلاف مالي مع كوريا الجنوبية يتعلق بالدعم الذي توفره قاعدة أمريكية متواجدة هناك، وبالتزامن فقد بدأ مشاورات مع اليابان وكوريا الجنوبية، لرسم خريطة طريق بشأن كوريا الشمالية، أما فيما يخص مواجهة النفوذ الصيني والروسي، وبعض القوى الأخرى مثل إيران وفنزويلا، فإن سياسات بايدن لا تعد تغييرًا لسياسات ترامب بقدر ما هي وعد لضمان مزيد من الدعم الدولي في مواجهة تلك القوى.

منذ أحداث 11 سبتمبر؛ دأبت الولايات المتحدة على تسمية حروبها بأسماء برّاقة، حيث جرى إطلاق اسم عملية العدالة اللانهائية على الحرب في أفغانستان، قبل أن يعيد البنتاجون تسميتها إلى عملية الحرية الدائمة، وعلى الرغم من عدم وجود أيّ دليل على تلك الحرية، فقد أعلن البنتاجون في عام 2014 عن انتهاء الحرب في أفغانستان، لكن في الواقع، فقد استمر هذا القتال حتى يومنا هذا، والأمر ذاته تكرر في غزو العراق عام 2003، والمعروف باسم عملية حرية العراق، قبل أن تتوالى الهجمات المدعومة أمريكيًا في الصومال والفلبين وليبيا وسوريا والنيجر وبوركينا فاسو وما وراءها، بتكلفة 6.4 تريليون دولار وخسائر بشرية تشمل ما لا يقل عن 335000 مدني قتلوا و 37 على الأقل مليون نازح من ديارهم.

 وعود زائفة

غالبًا ما يعد مرشحو الرئاسة الأمريكيون، ناخبيهم، بأنهم سيحققون السلام بمجرد توليّ المنصب، ثم سرعان ما يعكسون المسار وتسحرهم نشوة رائحة البارود، التاريخ يخبرنا أنه في عام 1940، سعى الديمقراطي فرانكلين روزفلت للحصول على فترة رئاسية أخرى ضد الجمهوري ويندل ويلكي، كان الجدل محتدمًا حول احتمال دخول أمريكا إلى الحرب العالمية الثانية، عارض معظم الأمريكيين هذه الفكرة، قدم ويلكي نفسه على أنه مناهض للحرب، لم يجد روزفلت حينها سوى تقديم التعهد ذاته، بالرغم من أنه كان يعلم هو ومستشاريه أنه لن يستطيع الوفاء بذلك، لكن سرعان ما دخلت الولايات المتحدة الحرب في أوروبا بتوجيه من روزفلت نفسه في أعقاب الهجوم على بيرل هاربور في 7 ديسمبر 1941.

وبعد ما يقرب من 30 عامًا، وتحديدًا في عام 1968، كان الحديث عن حرب فيتنام يتزايد في الولايات المتحدة، لا سيما بعد هجمات القوات الفيتنامية الشمالية في يناير 1968، والتي كشفت بشكل فاضح أن ادعاءات الرئيس ليندون جونسون آنذاك بأن الحرب كانت تسير على ما يرام وأن القوات الأمريكية ربما ستكون قادرة على الانسحاب قريبا، كانت خاطئة تماما، في الانتخابات التي جرت حينها كان على ريتشارد نيكسون وليندون جونسون، الادعاء بأنهما يعرفان كيفية تحقيق السلام في فيتنام، لكن في كلتا الحالتين، كان على المرشح الفائز الاستمرار في الحرب، حتى لو لم يستطع الوفاء في النهاية بوعده بالسلام، وبعد أن قام نيكسون بإطالة مشاركة أمريكا في الحرب الفيتنامية، اضطر في النهاية إلى بدء مفاوضات سلام تهدف إلى إنهاء الحرب، وهناك تقارير تشير إلى أنه كان سيستمر في هذا الصراع لو كان فائزًا فيه.

ليس ببعيد عنا؛ برز باراك أوباما إلى الصدارة، حيث عارض بشدة الحرب على العراق، لكن لا أحد ينسى أنه ـ في الوقت نفسه ـ دعا إلى إرسال المزيد من القوات إلى أفغانستان، بالرغم من اعترافه لاحقًا بأن "أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبناها استراتيجيًا بعد 11 سبتمبر كان الفشل في إنهاء المهمة في أفغانستان والعراق، وتركيز انتباهنا هنا". أما اليوم، وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن النقاش قد تحول إلى الوعد بحرب أقل، وليس المزيد منها، فبعد عقود من الحرب، يبدو أن الأمريكيين من جميع الأطياف السياسية قد تعبوا من المغامرات الدموية والمكلفة، وقد لاحظ قادة كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي ذلك، قد يختلف بايدن عن ترامب في سياسته الداخلية، لكن حتمًا لن يختلف عن خارجيًا، ستستمر الحروب الأمريكية التي تنعش اقتصادها، وتضفي على رئيسها هيئة البطل المنتصر، ولو بشكل زائف.

 

أعلى