أول لقاء جمعه بها كان في رحلة مدرسية ، وكان يومئذ في الثالثة عشرة من عمره ، دعاه صاحبه إلى نزهة على الدراجة الهوائية ، وحينما ابتعدا عن رفاقهما قدمها له زاهية بثوبها ناصع البياض ، يتوهج طرفها ، وتجر وراءها خيوطاً من الدخان يبددها نسيم الربيع ؛ تلك هي السيجارة الأولى ، ولكنه الآن وبعد أربعين سنة من الشقاء في صحبتها ، وبعد رحلة مع مرض القلب وتركيب شبكة في أحد شرايينه ، وبعد أن خلّفت بصماتها الصفراء على أسنانه وأصابع يديه ... يقول بكل مرارة :
- إن السيجارة أكبر همٍّ يؤرّقني ، ولقد حذّرني الأطباء من شرها ، ورغم ذلك فما زلت أعاقرها .
- سألته : كم سيجارة تدخن في اليوم ؟
- حوالي ثلاثين سيجارة ، علبة ونصف العلبة تقريباً ،هذا بعد أن كنت أستهلك أكثر من ( 60 ) سيجارة يومياً .
- وعلى الإشارة الضوئية تراخت يده عن مقود ( سيارته ) ونظر إليَّ بوجه حفرت عليه رحلة المعاناة أخاديد خريف العمر وأقسم لي أنه مريض ومرهق ومحبط ، وأنه لولا الحاجة الماسة لما بقي في مهنته التي سماها ( مهنة المتاعب ) .
- سألته : ألا تستطيع الامتناع عن التدخين ؟
- لا أستطيع أبداً ، حاولت كثيراً وأخفقت .
- لماذا أخفقت ؟ ! لأنني بصراحة أشعر بالعجز وضياع الإرادة .
- ما أطول مدة تخليت فيها عن التدخين ؟ ثلاثة أشهر .
- هل تدخن في نهار رمضان ؟ معاذ الله ! إذن ! أنت تستطيع ترك التدخين لأن من يستطيع الامتناع عن التدخين طوال نهار رمضان يمكنه أن يمتنع عن السيجارة في الليل ، ومن تركه ثلاثة أشهر يمكن أن يتركه طوال العمر .
- يا ليت ! يا ليت !
- هل تشعر أن التدخين ذنب ؟
- ذنوب كثيرة لا ذنب واحد .. الأول : أنه قاتل للصحة ، والثاني : أنه مضيعةٌ للمال ، والثالث : أنه إيذاء للناس ، والرابع : أنه محرقة للثياب وكم وكم .
- لو تجسدت لك السيجارة رجلاً يقف أمامك فما كنت تفعل به ؟
- أخنقه .
- لماذا ؟
- لأنه عدوي اللدود .
- حملت علبة السجائر الموضوعة على الفرش الأمامي للسيارة وسألته :
- فماذا تفعل بهذه العلبة إذن ؟ وبعينيه اللتين تقدحان شرراً وتفيضان حنقاً وغيظاً أخذ العلبة وضغطها بين أصابعه حتى جعلها فتاتاً ، وقال :
- هذا عدوي اللدود ، هذا عدوي اللدود ، ولن أعود إليه أبداً أبداً .
- تعاهدني على ذلك ؟ نعم هذا عهد .
- تصافحنا ودونت اسمه ورقم هاتفه .
- وحين اتصلت به بعد ثلاثة أيام قال :
- أنا بانتظار اتصالك لأؤكد لك أنني محافظ على العهد .