الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على النبي المجتبى ، وعلى
آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين ، وبعد :
فإن من تأمَّل في واقع أهل الإسلام اليوم رأى بفضل الله
- تعالى – شيوع الخير ، وعموم البر ، واتساع دائرة المعروف في كثير من مناحي الحياة
؛ إلا أن في تلك المسيرة المباركة ظاهرةً مكدِّرة ، تتمثل في اختلاف درجات الاستقامة
وتعظيم الحرمة في بعض جوانب الحياة لدى فئات من المتدينين ؛ بحيث تجد المرء الواحد
مثلاً - حريصًا على دعوة الآخرين لكنه خَلِيٌّ من بر الوالدين وصِلَة الرحم ، أو عَرِيٌّ
مما لا يسعه جهله من أحكام الشريعة ، أو معنيًا بالاحتساب لكنه سيئ الخُلُق عَسِر التعامل
، أو يبدو حريصًا على نوافل العبادات لكنه ذو هشاشة بيِّنة في أداء الحقوق والتعاملات
المالية ، أو يُعرَف منه محافظته على الواجبات العينية : من صلاة وصيام وصدقة لكنه
لا يشتغل بالواجبات الكفائية ، كتبليغ الدين وبَذْل النصيحة .
وليس الحديث هنا عن وقوع العبد في زلة في هذا الجانب أو ذاك
نتيجة غفلة أو فتور يعتريه ؛ إذ ذاك موضع للمجاهدة وميدان للابتلاء ، كما قال الله
- تعالى - : } خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ
نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ
الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ
* وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } ( الأعراف : 199-202 ) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : « كل ابن آدم خطَّاء ، وخير
الخطَّائين التوابون » [1] .
بل الحديث عن ظاهرة تجزئة التدين ، والبَوْن الشاسع المستمر
في الأخذ القوي لبعض الكتاب مع الإهمال شبه الكلي لبعضه الآخر ، مع أنه - تعالى - يقول
: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ
البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ( البقرة :
208-209 ) .
ولعل مردَّ تلك الظاهرة الخطيرة إلى أمور عدة
، من أبْرَزِها :
- عناية بعض الدعاة وطلبة العلم بمسألة العلم بأمر الله
- تعالى - ونهيه ، مع الضعف البيِّن في العناية بمسألة العلم به - تعالى - من خلال
مطالعة أسمائه - تعالى - وصفاته ، ومشاهدة آياته في الأنفُس والآفاق ، مما ولَّد هشاشة
في بواعث التدين : من محبةٍ لله - تعالى - وتعظيمٍ لأمره ، وورعٍ في مقاربة حِماه ،
ومن إجلال الله - تعالى - ومهابته ، ومخافة التعرض لسخطه وعقابه ، ومن الطمع في ثوابه - تعالى - ورجاء الظفر بدقيق لُطْفه وعظيم إنعامه في الدنيا
والآخرة .
وهذا جانب محوري في التدين ؛ إذ من لم يتعرف على جلال الله
- تعالى - وكماله ، ويرى آثار ذلك في كل شيء حوله ، ويتغلغل في سويداء قلبه استحقاقُه
- سبحانه - لجميع المحامد وصنوف التذلل كلها ، وأن الأمر أَمْره ، ولا حول ولا قوة
إلا له ، والخير كله في يديه ، والشر ليس إليه ؛ كيف يستطيع - من كانت تلك صفاته -
الانعتاقَ من أسوار الهوى وزُخْرُف الشيطان ومفارقة حصون الشهوة ، ولذا ؛ فإن ظاهرة
الفصام النكد بين العلم بالله والعلم بأمره ، والتي تُرى في وقتنا الحاضر بجلاء - واقعًا
لا تنظيرًا - في أوساط فئات عريضة من جيل الصحوة وأهل الدعوة ، متى أردنا قوة في أَخْذِ
الكتاب وشمولاً في التدين ...
إن هذه الظاهرة لا بد أن تضعف إن لم تتلاشَ ؛ لأنه لن يخشى
الله ويتقيه إلا من كان متضلعًا من العلم بالله ، عارفًا بأمره ونهيه ، أما من أغفل
الأمرين أو أحدهما على حساب الأمر الآخر ؛ فإنه واقع في هذه الظاهرة ولا بد ؛ إما لأنه
لن يقْدُر الله - تعالى - حق قَدْره ، وإما لجهله المريع
بأمره - تعالى - ونهيه .
- ارتباط مفهوم التدين لدى كثير من شباب الإسلام بالأعمال
الظاهرة على حساب استصلاح القلوب والعناية بأعمالها ، مع أن القلب إمام الجوارح وشريف
الأعضاء ؛ بصلاحه تصلح ، وبفساده تفسد ؛ فمتى كان القلب سليمًا ليس فيه إلا محبة الله
- تعالى - ومحبة ما يحبه - سبحانه - وخشية الله - عز وجل – وخشية الوقوع في ما يكرهه
- تقدست أسماؤه - فمتى كان القلب كذلك صلحت حركات الجوارح كلها ، ونشأ عن ذلك اجتناب
المحرمات وتَوَقِّي الشبهات ؛ أما متى كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتِّباع هواه
، فسدت حركات جوارحه ، وانبعث صاحبه إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب قوة اتِّباعه لهواه
.
يقول ابن القيم : « من تأمَّل الشريعة في مصادرها ومواردها
عَلِمَ ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب ، وأنها لا تنفع بدونها ، وأن أعمال القلوب
أفْرَض على العبد من أعمال الجوارح ؛ وهل يميَّز المؤمن عن المنافق إلا بما في قَلْب
كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما ؟ وهل يتمكن أحدٌ من الدخول في الإسلام
إلا بعمل قَلْبِه قبل جوارحه ؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم ؛
فهي واجبة في كل وقت ، ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام ، والإسلام واجب الجوارح
في بعض الأحيان ؛ فمركب الإيمان القلب ، ومركب الإسلام الجوارح » [2] .
فالعناية بالقلوب والحرص على سلامتها مدخل الفلاح ومفتاح
السعادة في الدنيا والآخرة ، ومن تأمَّل في أحوال الناس اليوم شاهد بجلاء أن العناية
بأعمال القلوب لا تتوازى مع جلالتها ، وعلو منزلتها ، وكونها شَرْط النجاة وركيزة التدين
، والمحور الأعظم للإقبال على الله - تعالى - بل إن عامة جوانب الاختلال اليوم في وسط
أهل الإسلام بعامة ومعاشر المتدينين بخاصة مردُّها إلى قلة الفقه في هذا الباب .
- التعلق بالدنيا وطَلَبُ راحتها والاشتغال بأعمالها عن الآخرة
، وهو ما أدى إلى تشتُّت هموم القلب ، وإلى عدم عكوفه على الله ، وتفريغه لمحبته ،
تعالى .
وهو ما يجعل المرء يخلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا بحسب اختلاف
عمق غفلته ومدى قوى الهوى لديه نحو هذا العمل أو ذاك .
والداعي للوقوع في هذا الداء العضال ، هو : ضَعْف الوعي بطبيعة
النفس البشرية ووظيفتها ، ومحدوديةُ الإدراك العميق لحقيقة الدنيا والآخرة ، وقلَّةُ
البصيرة بعواقب الأشياء ونتائجها ، وعدمُ التحرز مما يمكن أن يكون ؛ وإلا فمن يدرك
ذلك : كيف لا يجمع همته على الله ولا ينصرف بكليته إليه ، سبحانه .
وهو يعلم حقارة الدنيا وهوانها ، وعلوَّ منزلة الآخرة وعظيم
نعيمها وشديد عقابها وهول الخسارة فيها ؟ إن الانغماس في الدنيا والوقوع في أَسْر ملذاتها
من أعظم ما يسوِّغ للمرء الاستقامة على أجزاء من الدين والتفلت من بعضه الآخر ، ويزيد
من خطورة هذا الجانب غفلة عامة الخلق عن وقوعهم في إسار الغفلة وأوحالها ؛ فاللهم الهدايةَ
والنجاةَ .
- ضَعْف العزيمة ومحدودية الجدية في أَخْذ الكتاب بقوة ؛
تعلُّمًا وتدبرًا وعملاً ودعوة ، وكم فوَّتت دناءة الهمة على صاحبها من فرصة ، وأورثته
من تقاصُر ومعصية ؟ إن التعبد بحسب الهوى ، والعُجْب بالعمل ، ورؤيةَ الطاعة اليسيرة
، والوقوعَ في أَسْر الترف أو المعاناة من الفقر ، والتسويفَ في الطاعة ، وضَعْفَ التربية
عن البِدار إلى تلقي أوامر الشرع كله للتنفيذ بحسب الاستطاعة ، وضَعْف التواصي بالحق والتواصي بالصبر ، هو ما أدى إلى الإخلاد إلى الأرض
والاشتغال بالسفاسف ، واستمراء المعاصي والسيئات ، والاجتراء على الوقوع في
المهلكات ، والتواني عن تَحَمُّل المسئولية الشرعية نحو النفس والمجتمع ، والرغبة في
الدَّعَة والراحة وإن كان في ذلك مفارقة للشرع .
إن الجدية مقوِّم أصيل من مقومات شخصية المسلم الرزين ، ولن
يظفر بالاستقامة الشرعية - كما يجب - شخص غير متحلٍّ بها
مهما تظاهر أو زعم .
وإن التواني عن ركوب مطيتها مُورِث للهلكة موقِع
في الرَّدَى على الصعيدين ( الشخصي
والجمعي ) .
وفي الجملة : فظاهرة تجزئة التدين والتفلت المستمر من بعض
جوانب الاستقامة ومظاهرها داء عضال لا بد للخلاص منه من التشبث بركائز التدين ، والمداومة
على متابعة الشرع واستهدائه ، والاستعانة بالله - تعالى - على تلافيه ، والعناية بمحاسبة
النفس ، والقيام بمفارقة البطالين وأرباب الغفلة ، وملازمة علماء الأمة الربانيين والأخذ
عنهم ، وتقوية قنوات التناصح وجسور الاحتساب في أوساط الدعاة والمصلحين متى أردنا التعبد
لله بحق ومتانة ، والظفر بسعادة الدنيا والنجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى
الله بقلب سليم .
فاللهم اهدنا سبيلك ، وبصِّرنا بدينك ، وارزقنا
الفقه عنك ، والظَفَر بمرضاتك
وأعنا على تعاهد قلوبنا وصيانتها من الأدواء والأهواء ، إنك جواد كريم ، بَرٌّ رحيم
، وصلى الله وسلم على النبي الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
(1) الترمذي : 2499 ، وحسَّنه الألباني .
(2) بدائع الفوائد ، لابن القيم : 4/ 287
.