• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أنت قادر على العطاء

أنت قادر على العطاء


العنصر البشري هو الأساس لكل نهضة ، وهو العماد لكل حركة ، وبدونه تموت في مهدها أي فكرة . وعندما يشعر الأفراد في أي أمة أنهم غير قادرين على العطاء ، فإنما هم بذلك يصدرون حكماً بالإعدام على أنفسهم ومجتمعهم ، شاؤوا أم أبوا .

وذلك أنهم بتقريرهم هذا الشعور ، يعلنون العزم المبيت على تجميد الحركة والعمل ليصبح ذلك المجتمع بعد ذلك كالجثة الهامدة . إن هذه الظواهر الاجتماعية التي يعرفها الخاص والعام ، قد جاءت نصوص الشريعة بتقرير الحقائق عنها ، فهي ثابتة لا تتغير ، وكونية لا تتبدل ، قال عليه الصلاة والسلام : (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم) [1]  رواه مسلم .

لقد كان يقين السلف بقدرتهم على البذل والعطاء نابعاً من استشعارهم المسؤولية الفردية القائمة على الإحساس بالعزة الإيمانية ؛ فجعلتهم مشاعل هداية ، ونماذج فريدة في البذل والعطاء والتضحية ، فكان الواحد منهم بأمة . فهذا مصعب بن عمير -رضي الله عنه- يقدُمُ المدينة سفيراً للإسلام ، فلا يحول الحول إلا وقد دخل الإسلام أكثر بيوت المدينة .

وهذا نعيم بن مسعود الغطفاني لا يكاد يُسلم حتى يؤدي دوره فيُخذّل جيوش الأحزاب .

وتأمل دور أبي بكر في الردة ، وأحمد بن حنبل في الفتنة ، وصلاح الدين في الذلة ، كلهم أفراد غيروا مسار الأحداث ، وأعادوا كتابة التاريخ ، وهذا غيض من فيض .

أولئك آبائي فجئني بمثلهم      إذا جمعتنا يا جرير المجامع

إن مما يجدر بنا أن نستحضره في كل حين ؛ أنه لا أحد في المجتمع المسلم يمكن أن يوضع في خانة : (غير قادر على العطاء) ، بل الجميع يملكون شيئاً ما إن لم يكن أشياء يستطيعون من خلاله خدمة أمتهم . وهذا النسق الاجتماعي ، قد قرره المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله وفعله ، والتزمته الأمة الإسلامية منذ فجرها الأول .

فلو نظرنا إلى حديث الهجرة مثلاً ، لتجلّى لنا ذلك في أروع صوره ؛ فالصدّيق أمينُ السر ورفيق السفر ، والجارية تحفظ السر وترتب الزاد ، والصبي ينقل الأخبار ويعفو الآثار ، كل ذلك في صورة مشرقة لتنوع البذل بحسب القدرة .

وفي المدينة يدعو الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس للبذل قائلاً : (تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بُره ، من صاع تمره ، حتى قال : ولو بشق تمرة) [2]  .

بل وفي قمة أعمال البذل والعطاء في الجهاد في سبيل الله يبرز هذا المعلم الإسلامي في أجلى صوره ؛ فالكل يبذل ، والجميع يُضحي ، حتى إذا بقي الضعفة والمساكين الذين لا مال لهم ولا قوة يجاهدون بها ، يبقى لهم دورهم الذي ينبه إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله : (إنما ينصُر الله هذه الأمة بضعيفها ؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم) [3]  .

إن خطر وأد الذوات وتحييدها عن العطاء ، لا يمكن تجاهله أو تناسيه خاصة في هذه الحقبة ، التي يقبع فيها أهل الإسلام في مؤخرة الركب . وإن هذا الخطر مما ينبغي تداركه وعلاجه حسماً لداء المُواتِ الذي دبّ في أوصال الجسد الإسلامي المنهك . ومما يحسن الختام به التنبيه إلى أن صور وأد الذوات تكون من التعدد وعدم الوضوح أحياناً ؛ بحيث يصعب التفطن لها ، ومن ذلك :

1- إحجام الفرد عن البذل ، أو ممارسة عمل ما بحجة أنه ليس أهـلاً لذلك ، لأي عذر يرتئيه .

2- إيهام النفس بأنه لا يُحتاج إليه في هذا المضمار ؛ لأنه قد امتلأ بغيره ، في الوقت الذي قد لا يكون الأمر كذلك ؛ بل ومن المحتمل أن يكون نفس الوهم منتشراً بين العديدين ؛ فيؤدي ذلك إلى أن الجميع يتركون العمل فيصبح هذا المضمار خالياً تماماً .

3- التحايل على النفس بأن الإنسان إنما هو فرد لا يملك التغيير أو البذل أو العطاء ؛ لأن (التيار جارف) و (اليد الواحدة لا تصفق) ، متناسياً بذلك أصل المسؤولية الفردية في الإسلام .

هذه بعض الصور من الأفراد أنفسهم ، وقد تحصل صور أخرى ممن يتولى الريادة والقيادة وذلك مثل :

1- ألا تُستغل المواهب الخاصة والقدرات الفردية لدى الأفراد كل بحسبه ، فتُقتل القدرات ويُخْنَق الإبداع ، وقد خلق الله الناس مختلفين : منهم (القادة) ومنهم (الساقه) و (قد جعل الله لكل شيء قدراً) .

2- ألا يُنْظَر إلى الجميع عند توزيع الأعمال ؛ بل تتكرر نفس الوجوه دائماً لكل الأعمال ، وهذا يقتل الفئتين ؛ فالعاملة تنهك بالأعمال ؛ حتى تصبح غير قادرة على العطاء المثمر ، كما تَفُوتُ الاستفادة منهم فيما لا يحسنه إلا هم ، وأما الكثرة الباقية فتبقى أرقاماً لا رصيد لها في واقع الحياة .

3- الحكم بالإخفاق المؤبد على من يُسند له عمل ما ، ثم لا يتقنه ، في الوقت الذي قد يحسن غيرَه ، بل ربما كان الخلل ابتداءً في إسناد هذا العمل له وهو لا يحسنه .

 


(1) أخرجه مسلم ، كتاب البر والصلة والآداب ، رقم 2623 ، ص 1053 .

(2) أخرجه مسلم ، كتاب االزكاة ، باب (الحث على الصدقة ولو بشق) ، رقم 1017 ، ص392 .

(3) صحيح الجامع/2384 .

 

 

 

أعلى