من الأهمية بمكان أن يبدأ الإنسان بنفسه وقدر
استطاعته في إبراء ذمته ،وتخليص رقبته ، والقيام لله - تعالى - بحقِّه ، وتوفية الحقوق
لأصحابها في الزمان والمكان اللذين هو فيهما ، دون تلكؤ أو تباطؤ ؛ فالرويَّة في كل
أمر خير إلا ما كان من أمر الآخرة .
فلا يكفي أن يعرف الإنسان قيمة الأخوة الإيمانية
وقدر الوحدة الإسلامية ثم هو لا يتحرك في الاتجاه الذي يحقِّق هذا المطلب الشرعي ،
ويكتفي بمطالبة الآخرين ؛ فضلاً عن أن يكون معول هدم لصرح الوحدة ولمعنى الأخوة ، وهو
ما يفرغها من محتواها ، وتصبح عبارة عن شعارات وهتافات لا واقع لها ولا رصيد .
رأى أحد العلماء أخاً له يجمع مسائل العلم ولا
يعمل بها فقال : « يا هذا ! إذا أفنيتَ عمرك في طلب السلاح فمتى تقاتل به ؟ » .
وقالوا : « العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا
ارتحل » .
السلوك مرآة الفكر :
لا يكفي أن نتعرَّف إلى
معاني العقيدة ومسائل الأخلاق دون عمل بمقتضاها بحيث تصبح سلوكاً وصبغة .
قد نحفظ ما جاء في « معارج القبول » و « شرح
الطحاوية » و « العقيدة الواسطية » ، ولكن نحن أحوج إلى ترجمته إلى توحيد عملي سلوكي
، وكذلك الأمر بالنسبة لمعنى الأخوة الإيمانية والوحدة ؛ فلا يكفي أن نردِّد هذه المصطلحات
دون العمل بمقتضاها .
لا بدَّ من منهج إيماني لتحقيق معاني الأخوة
والاتحاد ، وأن تتحقق بمثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام
رضي الله عنهم ؛ فهذا هو المنهج الذي رضي به ربنا ، ويلتئم به شملنا ، وتتوحَّد به
كلمتنا ، ونكون به يداً واحدة على عدوِّ الله وعدوِّنا ، بعكس ما لو تعدَّدت مذاهبنا
واختلفت فرقنا وطرائقنا وعقائدنا ؛ فهذا شيعي ، والثاني صوفي ، والثالث معتزلي .. وهذا
ينادي بالاشتراكية ، وذاك ينادي بالديمقراطية .. وهذا يفتخر بالوطنية ، والآخر بالقومية
...
لقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأمة
ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة ؛ كلها في النار إلا من كان على مثل ما كان عليه النبي
- صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام رضي الله عنهم ، وأوضح أنه لا تزال طائفة من
الأمة ظاهرين على الحق لا يضرُّهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك
، فكن واحداً من هؤلاء الذين ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال الجاهلين وتأويل
المبطلين .
لقد كان الخوارج نقمة على هذه الأمة في الوقت
الذي كانت تواجه فيه فارس والروم ، وقد قاتلهم علي - رضي الله عنه - وقال عندما رآهم
صرعى : « بؤساً لكم قد ضرَّكم مَنْ غرَّكم ، قالوا : ومن غرَّهم يا أمير المؤمنين ؟
! قال : الشيطان وأنفسٌ أمَّارةٌ بالسوء سوَّلت لهم المعاصي ونبَّأتهم أنهم ظاهرون
» .
وتعلمون فعل الصوفية بشيخ الإسلام ابن تيمية
- رحمه الله - وفتح الشيعة أبواب بغداد لهولاكو ؛ فالوحدة مع أمثال هؤلاء مآلها إلى
فُرْقة ، والتكثُّر بهم ضعف .
نعم ! بعض الشر أهون من بعض ، ولكن أنت في السعة
، ولا بدَّ من الأخذ بأسباب القوة الحقيقية والتركيز على دعوة التوحيد ؛ فكلمة التوحيد
قبل توحيد الكلمة ، ووحدة الفكر قبل وحدة العمل ، ونظرة سريعة إلى أحوال أفغانستان
بعد قتال الروس تذكِّرك بقيمة ما نقول ، والشواهد كثيرة .
قال - تعالى - : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ
الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } ( الأنعام : 1 ) .
فالظلمات جمع ظلمة ، والنور مفرد ، والباطل كثير
لا ينحصر ، وما الحق إلا واحد ، فاعرف الحق تعرف أهله ، واعرف الباطل
تعرف من أتاه ، واسلك طريق الهدى ولا يضرُّك قلة السالكين ، وإياك
وطرق الضلالة ، ولا تغتر بكثرة الهالكين
.
واعلم أن كل خير في اتِّباع من سلف وكل شر في
ابتداع من خلف ، وما لم يكن يومئذ ديناً فليس اليوم ديناًً ، ولن يصلح آخر هذه الأمة
إلا بما صلح به أولها ، ولا تلتفت إلى من يعدُّ غرس العقيدة والتركيز على معاني الإيمان
يفرِّق الأمة ويشتِّت جمعها ؛ فالناس إن لم يجمعهم الحق شعَّبهم الباطل ، وإن لم توحِّدهم
عبادة الله مزَّقتهم عبادة الشيطان ، وإن لم يستهوِهم نعيم الآخرة تناطحوا على متاع
الدنيا الزائل .
قال - تعالى - : { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ } ( النساء : 84 ) .
وأنت لا تطالَب أن تكون كالشمعة تنير لغيرك الطريق
وتحترق أنت ، بل سعيك لرأب الصدع وتحقيق معنى الأخوة إنما هو بمنزلة طلب طاعة لنجاة
النفس وسعادتها في العاجل والآجل ، ونحن لا ننشد وحدة بخسارة الآخرة ، فلا تعطِ الناس
رخصاً من جيبك الخاص ، ولا تجعل الحرام حلالاً لتكثير العدد ، ولا تتتبَّع زلات العلماء
لتأليف القلوب ؛ فالغاية لا تبرِّر الوسيلة ، ومن تتبَّع رخص المذاهب تجمَّع
فيه الشر كله ؛ فكيف بمن تتبَّع زلات العلماء
؟ ! وأنت على ثغر من ثغور الإسلام ؛ فاحذر أن يُؤتَى الإسلام من قِبَلك ، والأخوة
والوحدة لا تتمَّان بمجرد الكلام ، بل لا بدَّ من عمل وسلوك ، والدعوة بالسلوك أبلغ
من الدعوة بالقول ، وترك كل واحد منا للبدع والمعاصي مما يعين على تحقيق هذه المطالب
الكبيرة ؛ فواحد في الجيش يفسد تدبيره ؛ فكيف بألف ؟ ! والثقب في قعر السفينة يساوي قبراً في قعر المحيط
، وعدم تسوية الصفوف في الصلاة يترتَّب عليه اختلاف القلوب والوجوه ؛ فكيف يُستهان
بعقيدة تخالف أهل السنة والجماعة ؟ ! قال - تعالى - : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم
بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } ( آل عمران : 106 ) .
قال العلماء : « تبيضُّ وجوه أهل السنة والجماعة
، وتسودُّ وجوه أهل البدعة والافتراق » .
قال بعض العلماء : « ما تفرَّق اثنان إلا بذنب
أحدثه أحدهما »[1] ، فقل : أنا ذلك العبد المذنب المسيء لأخي ،
واللهِ أنا كنت أظلم .
كان الإمام الشافعي - رحمه الله - قد اختلف مع
بعض إخوانه ؛ فلقيه في الطريق فأخذ بيده وقال : أما يليق وإن اختلفنا أن نبقى إخواناً
؟ وقال : « ما ناظرتُ أحداً إلا وأحببتُ أن يجري الحق على لسانه » ، وقال : « معي صواب
يحتمل الخطأ ، ومع خصمي خطأ يحتمل الصواب » .
يا ليتك وأنت تسعى لتوحيد كلمة المسلمين أن تفرِّق
بين ما يسوغ وما لا يسوغ الخلاف فيه ، وما كل خلاف جاء معتبراً ؛ فهناك خلاف لا يفسد
وُدّاً ؛ كالخلاف في قصر الصلاة في السفر .
وأما خلافنا مع الشيعة في سبِّ الصحابة وقولهم
بعصمة الأئمة ، ومع الخوارج في التكفير بالكبيرة ، ومع الصوفية في صرف العبادة للمقبور
، ومع المرجئة في تأخير العمل ، ومع المعتزلة في تقديم العقل على النقل ؛ فهذا الخلاف
غير منجبر .
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول
: « نعم ! من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة خلافاً لا يعذر فيه ؛ فهذا يُعامَل
بما يُعامَل به أهل البدع » .
وقد كان أبو بكر و عمر - رضي الله عنهما - يتناظران
في المسألة لا يقصدان إلا الخير .
واختلفت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -
مع معاوية - رضي الله عنه - في : هل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربَّه ليلة أُسري
به ، أم لا ؟ واختلف قول الإمام أحمد مع الشافعي - رحمهما الله - في تكفير
تارك الصلاة تكاسلاً ، حدث ذلك مع بقاء الأخوة الإيمانية ، فإذا كان كلما اختلف مسلمان
في مسألة تقاطعا وتدابرا لم تبقَ أخوة إيمانية ؛ ففرِّق بين ما يسوغ وما لا يسوغ الخلاف
فيه ، واجعل القطيعة والهجر طلباً للعلاج لا للبتر ولا للإهلاك ، فلا تزدْ في الكيفية
أو الكمية فتُهلك صاحبك .
وقد كان من مذهب عمر و أبي الدرداء - رضي الله
عنهما - و إبراهيم النخعي - رحمه الله - أنك لا تهجر أخاك عند المعصية ؛فإن الأخ يَعْوَجُّ
مرة ويستقيم أخرى ، نحن لا نتعامل مع ملائكة أولي أجنحة مَثنى وثُلاث ورُباع .
ولذلك كان لا بدَّ من كظم الغيظ والعفو عن الناس
واحتمال زلات الإخوان وأن تأتي لهم ما تحب أن يأتوك به .
قيل للفضيل : « ما الفتوة ؟ قال : الصفح عن عثرات
الإخوان » .
ومن صدق في أخوة أخيه قَبِل عِلَلَه ، وسدَّ
خلله ، وغفر زلـله .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : « أَحَبُّ
إخواني إليِّ أخٌ إن غبت عنه عذرني ، وإن جئته قَبِلني » .
واعلم أن الأخوة الخاصة لا تمنع من الأخوة العامة
؛ فَرُدَّ السلام ، وشمِّتِ العاطس ، وعُدِ المريض ، واتبعِ الجنازة ، وابذلِ النصيحة
لأهلها ، وكن على بصيرة من أمرك وأمر الناس .
واعلم أنه لن يتأتَّى لك ذلك إلا بعلم وعمل ودعوة
إلى الله تعالى ، فتعلم ما تؤدي به الحقوق لأصحابها وتكون به على تقوى لله في السر
والعلن ، والغضب والرضا .
تعرَّف إلى قيمة الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية
والأصول والضوابط التي تحقق ذلك ؛ حتى لا تصبح المسائل عبارة عن مجرد حماسة أو عاطفة
، وتابِعِ العلم النافع بعمل صالح ؛ فالسلوك مرآة الفكر ، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه
وإلا ارتحل .
قال عمر - رضي الله عنه - : « إذا رزقك الله
مودة امرئ فتشبَّث بها » وركِّز في دعوتك على بوابات الخير ومن جملتها معنى الأخوة
.
تأبى الرماحُ إذا اجتمعْنَ تكسُّراً وإذا افترقْنَ تكسَّرتْ آحادا
والجماعة رحمة والفرقة عذاب ، وإنما يأكل الذئب
من الغنم القاصية ،والإنسان بإخوانه كثير وبنفسه قليل وإن كان عبقرياً .
لا بدَّ من تذكرة النفس بالسنن الشرعية والسنن
الكونية ؛ فقد آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار ، وبين الأوس
والخزرج ، كما آخى بين كل اثنين كمعاذ بن جبل و ابن مسعود - رضي الله عنهما - و سلمان
وأبي الدرداء رضي الله عنهما .
وأنت ترى النمل والنحل يعملان عمل الفريق ، ونحن
لا نستخلص العسل من الملكات ، فإن وُضِعْتَ في المقدمة أو المؤخرة فلا تأبه ، وتعامل
مع الله - عز وجل - وأحسن المسير إليه سبحانه وتعالى .
ومن نظر إلى أنه مكلَّف ، وأن الخطاب يتوجَّه
إليه قبل غيره ؛ سعى لإقامة الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية ؛ سواء سارع الآخرون
في ذلك أو قصَّروا ؛ فكل امرئ بما كسب رهين ، وهذه الطاعة سالمة عن كل معارضة ؛ فإن
لم تكن بانياً لقلاع الأخوة فلا تكن هادماً لها ، وإن لم تكن لبنة عاملة في صرح بناء
الوحدة الإسلامية فلا أقل من دعوات صالحات عسى ربنا أن يؤلِّف بين قلوبنا ، ويوحِّد
صفوفنا ، ويجعل بأسنا على عدوِّه وعدوِّنا .
فارفع أكفَّ الضراعة ، وتَحَيَّن أوقات الإجابة
، وألِحَّ على الله بالطلب ولا تعجل ، وقد كان عمر - رضي الله عنه - يقول : « إني لا
أحمل همَّ الإجابة ، ولكن أحمل همَّ الدعاء ؛ فإن العبد إذا أُلهم الدعاء فإن الإجابة
معه » ، {
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ( غافر : 60 ) .
إن دورك عظيم في تحقيق معنى الأخوة الإيمانية
؛ فتحمَّل الأمانة وأدِّ الرسالة واستعن بالله ولا تعجز ، وقل : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } ( طه : 84 ) .
وفَّقك الله ، وأعانك على فعل الخيرات وترك المنكرات
، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
(1) بل صح ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - : « والذي نفسي بيده ! ما توادَّ اثنان فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما
» أخرجه أحمد ، وصححه الألباني .