تكرّر في القرآن الكريم الحث الصريح على تدبّر القرآن والتأمل في دلالاته وألفاظه ، فقال - جل
وعلا - : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ } (النساء : 82) ، ووُصف كتابُ الله - تعالى - بأنّه : ( لا يخلَق عن
كثرة الردّ ، ولا تنقضي عجائبه ) ، فهو الكتاب العَجَب البديع الفائق في مفاده ،
وهو المنهل الذي لا تنتهي أسراره ، ولا تُحصى أوجه الروعة والإعجاز فيه .
وإنّ مِن تدبُّرِ كتاب الله - تعالى - وقوفَ
التأمل أمام نسجه المحكم ، والخَضَعَ ( وهو التطامن في العنق ) والإنصاتَ في محراب
إعجازه البياني، وأسلوبه المتقن ؛ لاستظهار لطائفه اللغوية ، وأسراره التي لا
تنقضي .
وفي الوقفات الآتية محاولة للدّرَج في مراقي
التعبّد بالتأمّل المأجور في لطائف القرآن
اللغوية ، من خلال النظر في آيتين تتفقان في غالب ألفاظهما ، وتختلفان في بعض
الألفاظ التي تعطي مزيداً من الدلالات الدقيقة ، وتضيف إلى المعنى العام فيهما
مجموعة من المعاني اللطيفة ، وهما قول الله - تعالى - : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ { (التوبة:32)، وقوله - تعالى - : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ
بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ { (الصف : 8) .
الوقفة الأولى : نور الله وأفواههم :
قبل الحديث عن هذه
الوقفة ، أودّ أنْ أذكّر القارئ الكريم بأن النحويين يقرّرون في كتبهم عند بيان
مسائل باب الإضافة ؛ أن المضاف يتأثر باتصاله بالمضاف إليه ، ويكتسب منه أموراً
عديدة ، أوصلها بعضهم إلى أحد عشر أمراً .
ومنها ما يكتسبه المضاف من معاني الشرف أو
الضَّعَة من المضاف إليه ، فإذا قيل لك مثلاً : دخلتُ بيت الأمير ، تخيّلت قبل أن
ترى البيت أنه مسكن كبير مشرف مشرق ، تزيّنه ملامح الفخامة والإتقان المعماري .
أمّا إذا قيل لك : دخلت بيت الفقير ، تخيّلت بيتاً صغيراً ضيّقاً ، أنهكه تتابع
السنين ، فبدا كاسفاً كئيباً .
فالمضاف في المثالين واحد ، وهو كلمة ( بيت
) ، ولكن الأول اكتسب الرفعة والشرف من المضاف إليه : ( الأمير ) ، أما الثاني
فتأثر بمعاني الحاجة ودلالات العَوَز التي يحملها المضاف إليه : ( الفقير ) .
إذا اتّضح هذا الأصل ، فلنعد للتأمل في
الآيتين : ففي قوله - تعالى - فيهما : { نُورَ اللَّهِ
بِأَفْوَاهِهِمْ } إضافتان
: إحداهما إضافة النور إلى الله - تعالى - : { نُورَ اللَّهِ } ، والمراد به دين الإسلام ،
والأخرى إضافة الأفواه وهي الآلة المستعملة للإطفاء إلى جماعة المريدين لإطفاء
النور : {
بِأَفْوَاهِهِمْ } .
وعند التأمل في الإضافة الأولى : { نُورَ اللَّهِ } نجد
أن النور المضاف قد اكتسب قدراً من خصائص القوة والعظمة والشرف والعلو والبقاء من
المضاف إليه ( الله ) ، فأنت تستشعر حينما تتلو : { نُورَ اللَّهِ } أن
الحديث عن نور يستمدّ قوته وعظمته وكماله من ( الله ) القوي العظيم الكامل ، ونور
يتسامى رفعةً وشرفاً وعلواً ؛لأنه يكتسب علوّه من ( الله ) العلي ،ونور باقٍ دائم
كبير قد أضاء الأفق وامتدت به المساحات ، وانتشر سناه لينير مسارح الطَّرْف ومنتهى
البصر .
وبعد الشعور بهذه العظمة التصويرية تأتي
الإضافة الأخرى : {
بِأَفْوَاهِهِمْ } بإضافة الأفواه الضعيفة إلى نفر من البشر
المخلوقين الضعفاء ، فالمضاف فيها وهو كلمة : ( أفواه ) على ما فيه من الضعف
العضوي والعضلي يزداد ضعفاً من خلال إضافته إلى الضمير المتصل ( هم ) العائد إلى
أولئك المخلوقين المهازيل .
وهذا من عجيب البيان ؛ إذ يجمع أمرين :
أحدهما : التهكم بإرادتهم وزعمهم أنّه نور ضعيف يمكن أن ينطفئ بمجرّد النفخ ،
والآخر : تصغير شأنهم وتضعيف كيدهم ؛ فهم بالمقارنة مع قوة الخالق العظيم ضعفاء
مهما أوتوا من قوة ، ومحدودون مهما استعملوا من آلة وأداة ؛ فكيف إذا كانت أداة
الإطفاء أفواهَهم ؟إنك حينما تقف وقفة التأمل التصويري هذه تشعر بالأسى والشفقة
على هؤلاء ؛لأنك تشاهد أمامك نوراً عظيماً عالياً قد ملأ محيط النظر ، ثم تلتفت
إلى زاوية سفلية من زوايا المجال البصري لترى عدداً من الأقزام الصغار ، قد مدّ كل
واحد منهم فمه ، وكوّر شفتيه ، ورفع رقبته عالياً ، وبدأ ينفخ وينفخ ، وربّما تجد
بعضهم قد اعتلى أكتاف بعض ليصل بنفخه إلى أعلى ما يستطيع من المدى ، ظانّين أنهم
قادرون على إطفاء النور ، في محاولات عبثية بائسة يائسة أمام ذلك النور العظيم
المتنامي .
الوقفة الثانية : الإرادة المستمرة :
اتّفقت الآيتان بالبدء
بالفعل المضارع : {
يُرِيدُونَ } الذي يدل على الحدوث والتجدّد في الحاضر
والمستقبل ، ولم يأتِ التعبير بالفعل الماضي ( أرادوا ) الذي يدل في الأصل على
انقضاء حدوث الفعل في الزمن الماضي .
فهم يريدون بصورة متجدّدة ومتكرّرة إطفاء
نور الله منذ ظهور ذلك النور إلى زمننا الحاضر ، وستتجدّد معهم تلك الإرادة وتستمر
ما بقي هذا النور الممتد على مدى الزمن المتتابع ، وما بقيت فيهم قوة على النفخ .
إنهم عبر التاريخ لم يقفوا عند حد انحرافهم
الشخصي عن دين الحق ، واتّباعهم شهواتهم ، إنما هم كذلك يعلنون باستمرار الحرب على
دين الحق ، ويريدون إطفاء نور الله في الأرض .
وهذا التجدّد الملازم لهم في السعي لإطفاء
نور الله والصدّ عن سبيله ؛ يتكرّر في مواضع أخرى مبثوثة في كتاب الله ، يؤكّد
بعضها بعضاً ، ويضيف بعضها خطوات عملية يقومون بها ويتواصون عليها . تأمّل على
سبيل المثال الفعل المضارع {
يُنفِقُونَ } المجرد من السين ، والمسبوق بها ، وتأمّل ما
بعد الفعلين في قول الله - تعالى - : {
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ
فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ })الأنفال:36)، فهم ينفقون وسينفقون الأموال
المضافة إليهم إضافة ملكية وحيازة ليصدّوا عن سبيل الله ، لكنها ستكون عليهم حسرة
وخسارة في الدنيا ، وعذاباً وندماً في الآخرة .
ومثل هذا كثير ، ولو أنك رجعت إلى المعجم
المفهرس لألفاظ القرآن وتأمّلت في الآيات التي تكرر فيها ذكر
الصدّ عن سبيل الله وأنّهم يبغونها عِوجاً ؛ لوجدت عجباً .
الوقفة الثالثة : الغايات الظاهرة والمخفية
: في آية التوبة : {
يُرِيدُونَ أَن
يُطْفِئُوا } ، وفي آية الصف : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا } . وقبل النظر في
دلالات هذا الاختلاف بين الآيتين ، والمعنى الذي يُضيفه دخول اللام في الثانية ؛
أودّ أنْ أشير إلى مقدّمة نحوية يسيرة تُعين على فهم المعنى ، وهي أنّ الفعل
المضارع { يُطْفِئُوا { في الآيتين منصوب بـ ( أنْ ) الظاهرة في
الأولى ، والمضمرة في الثانية . وتقدير الثانية : يريدون لأنْ يطفئوا ،و ( أنْ )
والفعل المضارع بعدها تؤوّل بمصدر ( إطفاء ) . وعلى هذا يكون التقدير في آية
التوبة : يريدون إطفاءَ نور الله ، وفي آية الصف : يريدون لإطفاءِ نور الله .
وهذه اللام هي لام التعليل على الصحيح من
آراء أئمة النحو .
وفي هذا الاختلاف اللفظي بين الآيتين إشارة
إلى أنّهم يغايرون في إظهار غاياتهم وأهدافهم ؛ ففي آية التوبة هم يريدون إطفاء
نور الله صراحة وبصورة ظاهرة ومباشرة ، فالإطفاء ( وهو المفعول به للفعل : يريدون
) هو مرادهم علناً ، فالغاية من إرادتهم هنا ظاهرة وصريحة .
أما آية الصف ، وتقديرها : ( يريدون لإطفاء
نور الله ) ؛ فالشيء المراد فيها ( وهو المفعول به للفعل : يريدون ) غيرُ مذكور ،
أي أنّهم يريدون مرادات مختلفة يجعلونها وسائل موصلة في نهاياتها إلى إطفاء نور
الله ، فهم لا يَظهرون أو يُظهرون علناً أنهم يريدون الإطفاء ، وإنما يريدون أن
يصلوا إلى الإطفاء من خلال طرق غير مباشرة توصل في زعمهم وتدبيرهم إليه ، ولذلك
تجدهم في هذه الحال يَظهرون بعباءات مختلفة ، ويدعمون البرامج والمشروعات ،
ويرفعون شعارات إصلاحية في ظاهرها ، لكنّها تتغيّا في حقيقتها إطفاء نور الله .
وما من شك في أنّ خطورة هؤلاء في الحال
الثانية ، وهي حال الغايات المخفية ؛ أشدُّ من خطورتهم في الحال الأولى التي
يصرّحون فيها بمراداتهم ، ويُعلنون فيها غاياتهم .
{
يُرِيدُونَ أَن
يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ
نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ } (التوبة : 32) ، وقوله - تعالى - : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا
نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الكَافِرُونَ { (الصف : 8) .
الوقفة الرابعة : الموقف الرباني :
جاء الموقف الرباني
من تلك الإرادات والغايات في الآيتين مختلفاً في المبنى ؛ ليعطي المتأمِّلَ دلالات
إضافية في المعنى ، تتناسب مع اختلاف الدلالات في الغايات في الآيتين : ففي آية
التوبة يقول الله - تعالى - بجملة فعليّة حاصرة :{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ
نُورَهُ { ، والإباء : هو
الامتناع بقوّة ؛ فالله - تعالى - هنا يأبى كلّ شيء إلا إتمامَ نوره . وفي التعبير
بالفعل ( يأبى ) من المبالغة والدِلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادةِ لو
كان التعبير : ( ولا يريد الله إلا أن يتمّ نوره ) .
فهم يريدون إطفاء النور ، واللهُ الذي له
جميع العظمة وكمال القدرة والعز ونفوذ الكلمة يأبى إلا أن يتمّ نوره ، ثم يجدّدون
الإرادة ، والله يأبى ... وما تزال إراداتهم تتجدّد ويتجدّد معها إباء العظيم - جل
وعلا - وامتناعه من كل شيء إلا إتمام النور .
واستعمال الجملة الفعلية الحاصرة بفعلها
المضارع ( يأبى ) المشعِر بقوة الامتناع ؛ يتناسب مع الغاية الصريحة والجرأة
المعلنة التي ظهرت منهم في أول الآية : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ { ؛ فراية الإطفاء لنور
الله المعلنة بصراحة وجرأة لا يناسبها إلا القوة في بيان الموقف الإلهي .
أمّا آية الصف التي جاءت إرادة الإطفاء فيها
عبر الوسائل والأعوان والشعارات الإصلاحية : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ { ؛ فيناسبها أن تكون صياغة الموقف الإلهي فيها من خلال الجملة
الاسمية الحاليّة : {
وَاللَّهُ مُتِمُّ
نُورِهِ { ؛ التي تدل على الدوام
والثبوت . أي : أنّهم يريدون أموراً يخادعون فيها ويكيدون ليصلوا من خلالها إلى
إطفاء نور الله ، فلربّما شعروا بشيء من القدرة ، ووجدوا من الأعوان من يمدّهم
بعونه بقصدٍ سيئ أو بنية حسنة ، أو وجد بعض أهل الإيمان في نفسه أن الدين يتضاءل ،
وأن نوره آخذٌ في الانحسار ؛ فيأتي الموقف الإلهي الواعد بدوام إتمام النور ،
وبخاصة في الأحوال التي يريدون فيها الإطفاء من خلال الدروب الملتوية .
وإتمامُ النور الموعود به في الآيتين لا
يقتصر على مجرد إشراقه ، بل الموقف الإلهي يعِدُ بإكماله وإعلائه ، ويبشّر بتبليغه
غايته بنشره في الآفاق وإظهاره على الدين كله ، حتى يبلغَ ما بلغ الليلُ والنهار ،
وحتى لا يبقى بيتُ مَدَر ولا وَبَر إلا أدخل الله فيه هذا النور .
ومن هذه الحقيقة يأتي القَسَم النبوي
بالإتمام اليقيني على الرغم من شدة الحال وغلبة مظاهر الضعف : « واللهِ [ أو والذي
نفسي بيده ] لَيُتِمّن الله هذا الأمر ... » رواه البخاري .
إن التأمل في الموقف الإلهي تجاه إراداتهم
وغاياتهم المعلَنة والمخفيّة ؛ لَيستجيش قلوب الذين آمنوا ، ويقوّي في نفوسهم
الثقة بوعد الله ، ويؤصل في شخصياتهم الاعتزاز بالانتساب للإسلام والاستعلاء
بالتمسك به ، فيدفعهم ذلك إلى المضي في الطريق ، والصبر على المشقة والكيد
المتتابع ضد دين الحق .
لقد اجتمعت بمعاني تلك الآيتين الصورُ
التكاملية التي تُظهِر بتفنّنٍ حالَ دين الحق ، وإرادات أعدائه وغاياتهم ضدّه ،
والموقف الرباني الذي يختم فيه المؤمن قراءته المتدبِّرة لهاتين الآيتين .
لكنّ البيان لم يقف عند هذا الحد ؛ إذ يتأكد
المعنى من خلال الكلمة الختامية الواردة بعد الآيتين في السورتين بلفظ واحد : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ
} (التوبة : 33) ؛ فهو - سبحانه - قد
أرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - حاملاً لمنهج النور والهدى ودين الحق ،
ليظهر رسالته على جميع الرسالات ، ولم يرسله لتنتصر على رسالته إرادات النافخين .
الوقفة الخامسة : أين مكاني ؟وفي ختام هذه الوقفات يأتي السؤال الذي يحسن
أن يوجِّهه كل واحد منّا إلى نفسه وهو يرى السعيَ المتتابع اليوم لإطفاء نور الله
: أين أجد نفسي من بين هاتين المجموعتين : هل أنا ممن استحوذ عليهم اليأس من واقع
نور الله اليوم ، فتحطّمت على صخوره كل معاني التفاؤل ومبشّرات الأمل ، فوجد نفسه
واقفاً في مدرجات المتفرّجين على هشاشة محاولات الإطفاء وقوة مواقف الإباء ؟ أم
أنا من تلك الفئة المباركة التي يستعملها الله - تعالى - لإتمام نوره وتحقيق
موعوده ؟
�ْ�m�*��P��� رفة بديع صنع الله ،
قال العلماء
: « فأول الواجبات الإيمان بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به ، ثم النظر والاستدلال المؤديان إلى معرفة الله تعالى » [8] .
فمن دعا إلى النظر والاستدلال ، كان على وَفْق
القرآن ودين الأنبياء .
سادساً : من عادة الله - تعالى - أن لا يُهلك
القرى المستأهلة الإهلاك حتى يبعث رسولاً
في القرية الكبرى منها : قال - تعالى - : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى
يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا
ظَالِمُونَ } ( القصص : 59 ) .
قال السعدي - رحمه الله - في تفسير قوله - تعالى
- : { حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا } ( القصص : 59 ) أي : في القرية
والمدينة التي إليها يرجعون، ونحوها يترددون، وكل ما حولها ينتجعها ، ولا تخفى عليه
أخبارها [9] .
وفائدة ذلك : أنه على الدعاة والعلماء والمصلحين
أن يوجهوا جهودهم الدعوية إلى القرية الكبرى والتي تمثِّل مركز الإشعاع العلمي والروحي
، والتي هي مهبط أهل القرى والبوادي المجاورة لها ؛ فلا تخفى دعوة العلماء والمصلحين
فيها ، ولأن أهلها قدوة لغيرهم في الخير والشر فهم أكثر استعداداً لإدراك الأمور على
وجهها .
وحكمة إرسال الرسول في أم القرى ؛ أي كبراها
أو عاصمتها أن تكون مركزاً تُبلَّغ منه الرسالة إلى الأطراف ؛ فلا تبقى حجة ولا عذر
فيها لأحد ؛ وقد أُرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة أم القرى العربية .
وتطبيقاً لذلك فإنه ينبغي : - استثمار مكانة
مكة المكرمة ، استثماراً يعود على الأمة بالعزة والسؤدد والفهم الوسطي للإسلام ؛ لأنها
مركز الإشعاع الروحي والفكري للأمة الإسلامية .
- وكذلك استثمار الجامعات الكبرى مثل : جامعة
الأزهر الشريف ، و جامعة أم القرى بمكة المكرمة ، و الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
، و جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان ، والتي تجمع طلاباً من جميع أنحاء العالم ؛
لتكون مركزاً لتبليغ الرسالة المحمدية إلى كل العالم .
سابعاً : عادة الله - تعالى - بالمؤمنين في
أمره ونهيه ، مخالفة مشتهاهم : كما قال - تعالى - للمؤمنين في معرض اختلافهم في الغنائم
:{ فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ } ( الأنفال : 1 )، وقوله : { وَإِنَّ
فَرِيقًا مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } ( الأنفال : 5 ) .
ومن ذلك قوله - تعالى - : { قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ( النور : 30 ) .
فإن غضهم من النظر عما لا يحلُّ النظر إليه ،
وحفظ الفرج عن أن يظهر لأبصار الناظرين
؛ أطهر لهم عند الله وأفضل [10] .
وكما قال - سبحانه - في فرض القتال : { كُتِبَ
عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ
لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ( البقرة : 216 ) .
« والإسلام يحسب حساب الفطرة ؛ فلا ينكر مشقة
هذه الفريضة ، ولا يهوِّن من أمرها ، ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها
وثقلها ؛ فالإسلام لا يماري في الفطرة ، ولا يصادمها ، ولا يُحرِّم عليها المشاعر الفطري
التي ليس إلى إنكارها من سبيل ، ولكنه يعالج
الأمر من جانب آخر ، ويسلط عليه نوراً جديداً ؛ إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير
كريه المذاق ، ولكن وراءه حكمة تُهوِّن مشقته ، وتُسيغ مرارته ، وتُحقق به خيراً مخبوءاً
قد لا يراه النظر الإنساني القصير ، عندئذٍ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها
على الأمر ، ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها .
نافذة تهبُّ منها ريح رخيَّة ؛ عندما تحيط الكروب
بالنفس وتشق عليها الأمور ، من يدري ؟ فلعل وراء المكروه خيراً ، ووراء المحبوب شراً
.
إن العليم بالغايات البعيدة ، المطَّلع على العواقب
المستورة ، هو الذي يعلم وحده ؛ حيث لا يعلم الناس شيئاً من الحقيقة [11] .
فوائد ذلك تربوياً ودعوياً :
- أن يتولى الدعاة توضيح ما في أحكام الله من
خير للنفس البشرية ، وإن بدا في الظاهر أنها شر .
- أن يفطن المربون والدعاة إلى ما يشتهيه المدعوون
، ومحاولة اتباع المنهج القرآني في مخالفة ما تشتهيه النفس البشرية ؛ حتى لا تصبح النفوس
أسيرة لشهواتها ؛ فيصعب عليها القيام بواجب الاستخلاف والعمارة في الأرض ، وهذا ما
أشار إليه عمر بن الخطاب ؛ فعن جابر بن عبد الله ، قال : رأى عمر بن الخطاب لحمًا معلقًا
في يدي ، فقال : ما هذا يا جابر ؟ قلت : اشتهيت لحماً فاشتريته ، فقال عمر : أوَكلما
اشتهيت شيئاً - يا جابر ! - اشتريت ؟ أما تخاف هذه الآية :{ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ
الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا } ( الأحقاف : 20 ) [12] .
وفي الختام : كانت هذه جولة مختصَرة على ما أردنا
الإشارة إليه .
نسأل الله الهداية والسداد ، وتفهُّم القرآن
، والعمل بما فيه في جميع مناحي الحياة . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
(1) مختار الصحاح : ص 220 .
(2) تاج العروس : 1/2150 .
(3) سنن أبي داود ، في حسن العشرة (4156) .
(4) شرح النووي على مسلم : 5/ 72 .
(5) سورة النساء : آية (43) والمائدة : آية (6) .
(6) سنن أبي داود ، ما جاء في إسبال الإزار : (3566) .
(7) تفسير الطبري : 17/ 120 .
(8) تفسير القرطبي : 7/ 331 .
(9) السعدي : ص620 .
(10) تفسير الطبري : 19/ 154 .
(11) في ظلال القرآن : 1/ 202 .
(12) أخرجه : الحاكم في المستدرك : 2 / 455 .