السنن الإلهية خريطة المستقبل
المستقبل بين رهان التفوق ورهان البقاء
ربما تلخص هذه العبارة طبيعة التفكير في المستقبل ودراسته في الوقت الراهن. فما زالت دراسات المستقبل تتزايد أهميتها منذ أن ظهر التفوق والهيمنة للذين كانوا يهندسون مستقبلهم لهذه الأيام في عقود مضت.
إن الاشتغال المحموم بالمستقبل في دوائر الفكر والإستراتيجيات العالمية هو ثمرة للجدوى التي وجدوها في التفوق الحالي. ويحفزه من جانب آخر السلوك الصراعي التنافسي في السياسات الدولية نحو التسابق على ممكنات القوة؛ من مصادر الطاقة والثروات الطبيعية والمواد الخام وموارد التنمية المعرفية، والبحوث والابتكار، وإيجاد الموارد البديلة. ذلك السباق الذي تختلف دوافعه من قوى تسعى إلى الحفاظ على البقاء في قمة الهيمنة من خلال التفوق المستمر، وأخرى صاعدة بتسارع مرعب للمنافسين، وثالثة تصارع من أجل البقاء بأدنى حياة.
إن التحولات والتغيرات الجذرية الكثيرة التي أصابت الحياة والإنسان والمجتمعات الغربية، وتلك التي أثرت فيها بشكل أو بآخر قد غيرت من نماذج التفكير الإنساني بعد الحربين العالميتين والحرب الباردة، ويعود إليها السبب الرئيس والمباشر لتوجه عالمي وغربي نحو أساليب التفكير والتخطيط الإستراتيجي، ومنها إلى وضع مناهج علمية وأكاديمية للدراسات المستقبلية والاستشراف[1].
وفي ظل الصراع والتدافع الحالي الذي يتجه يمينياً شيئاً فشيئاً فإنه من عبث البرهنة إثبات أن الرؤية المستقبلية المدروسة ببصيرة نافذة هي مفتاح لنهوض الأمة الرسالية الخاتمة والموعودة بالتمكين إن هي أخذت بأسبابه.
وعلى هذا الحال فأمتنا بحاجة لاتخاذ مسار ريادي لصناعة الإستراتيجية المستقبلية، والتي يمكن أن تحصل بإذن الله في حال الجمع بين خطين بارزين:
الأول: الإفادة من الدراسات والرؤى المستقبلية الماثلة عند الذين تقدموا فيها وبها.
الثاني: البحث في مصادرنا المعصومة وتراثنا عن مذخور معرفي يتجاوز الثغرات المنهجية حول المنظورات المستقبلية التي لا ينكرها أهل هذا الشأن.
ولئن كانت بقية لحديثنا ستكون عن المسار الثاني الذي ما زال أرضاً بكراً، فإنه لا بد من لمحة وجيزة حول المنجز العلمي في الدراسات المستقبلية المعاصرة، ومعرفة أين وصلت وما الذي ينقصها؟
الدراسات المستقبلية الحديثة.. أين وصلت وما الذي ينقصها؟
استشراف المستقبل هو اجتهاد علمي منظم يرمي إلى صوغ مجموعة من التنبؤات المشروطة، والتي تشمل المعالم الرئيسية لأوضاع مجتمع ما أو مجتمعات، وعبر فترة مقبلة محددة، وتنطلق من بعض الافتراضات الخاصة حول الماضي والحاضر[2].
تساعد الدراسات المستقبلية على استغلال الفرص المناسبة من خلال تلك الدراسات للتطور والتجديد والإصلاح الفكري وتقديم البدائل الفكرية التي تساعد في البناء المادي والمعنوي للإنسان والأمم، كما أن ذلك يعبر وبجدية عن برنامج ثابت يبني العناية بقياس القدرات الوطنية للنهوض بالمستقبل وتحديد آلية النهوض[3].
وبرغم تقدم الدراسات المستقبلية الحديثة تقدماً كبيراً، وضرورة الإفادة من ذلك، إلا إنها ما زالت تعاني من جانبي قصور بارزين يستدعيان التنبه لهما ومعالجتهما:
الأول: ما يتصل بالجانب الإستراتيجي الذي يسعى إلى المصداقية والدقة العلمية والحسابية المتناهية التي لا تحتمل الخطأ على غرار الدراسات الطبيعية والتقنية.. والتي يقصد الباحثون في هذا الشأن أن تصبح حتميات لا تقبل الاحتمال ولا التخلف.
الثاني: ما يتصل بالجذور الفلسفية والتاريخية المتعلقة بمراحل تكون الفكر الغربي الذي هو الجذر العميق لهذه الدراسات، فقد ظل الحكماء والمؤرخون والعلماء يواصلون جهودهم في محاولة اكتشاف مناهج لدراسة المستقبل. وقد خلصت محاولاتهم إلى وضع معايير ومعادلات، بعض منها انطلق من معتقداتهم الدينية أو رؤاهم الفلسفية والعلمية، فظهرت آثار لذلك في علوم الفلسفة، وفلسفة التاريخ، وعلم اجتماع الحضارات، وتاريخ الأفكار ومسيرتها وصيرورتها، حتى أسفرت هذه المحاولات عن نظريات عصر النهضة الأوربية والتقدم وصولاً إلى الدراسات المستقبلية الحديثة، فارتكزت الحضارة الغربية في حديثها عن المستقبل إلى مناهج وأنساق علمية خاضعة لتصورها الكوني الوضعي وغاياتها المادية في الحياة[4].
ومقابل ذلك فعلى المفكرين المسلمين مسؤولية كبيرة في صناعة منظومة دراسات وأبحاث متكاملة في الفكر المستقبلي تجمع بين التوظيف والابتكار والمعالجة وفق الملامح التالية:
الانطلاق من المنجز المتقدم في الفكر الغربي المستند منه على البحث العلمي الموضوعي وإثراؤه واستثماره لمصالح المسلمين شعوباً ودولاً.
تجاوز الثغرات الظاهرة في الدراسات الحديثة؛ سواء منها الكامن في جذورها ومنابتها، أو المتصل بالاستثمار والتوجيه الميكافيلي اللاأخلاقي.
إيجاد مستندات نظرية (يقينية/ حتمية) تتجاوز دائرة الحدس والتقدير البشري، وتتصل بالخبر الرباني المعصوم الكاشف عن حُجُب الغيب.
وإذا تأملنا الكتاب والسنة فسنجد ما تضمناه من حديث عن السنن الإلهية شاهداً جلياً على ملاءمتهما لتكوين نظرة مستقبلية نافذة تتجاوز الخلل في المنظورات البشرية وتحقق ما أمرنا به من السير في الأرض والنظر والاعتبار.
والمقصود بالسنن الإلهية أي طريقة الله وحكمته الجارية مع الأسباب المقتضية لمسبباتها، كما قدرها وأجراها، وهي عادته تعالى بمقتضى حكمته.
فهي إذن محاولة التعرف على الطرائق الإلهية الجارية وفق حكمته وعدله مع الأسباب المقتضية لمسبباتها، التي تحكم تصرفات البشر وتقتضي نتائجها بصورة جماعية، من خلال القرآن الكريم بحسب الإمكان[5].
والذي يقترب من دراسة المنظور المستقبلي هو ذلك الشق المتعلق بسنن الله في الأمم والمجتمعات؛ أي تلك السنن التي تتعلق بسلوك البشر وأفعالهم ومعتقداتهم وسيرهم في الدنيا وفق أحوال الاجتماع والعمران البشري، وما يترتب على ذلك من نتائج في العاجل والآجل[6].
إن التوجه السنني في الدراسات المستقبلية يجمع معظم المزايا التي تمثلها الاتجاهات المختلفة للرؤى المستقبلية؛ بينما ينفي كل العناصر السلبية التي تكمن في بعضها[7].
إن المعاني التي تتحرك صوب «شرطية السنن» هي التي تجعل من المستقبل معنى علمياً في إطار صناعة فعل الشرط وتحصيله وتمكينه، حتى يمكن بلوغ جواب الشرط في إطار اعتبار عناصر الإمكان والإرادة والعدة[8].
تتميز مقاربة الدراسات المستقبلية الإسلامية برؤية مؤمنة مسلمة، ببعدها الروحي وأساسها الإسلامي العقدي، فهذا الأساس يحث على الاهتمام بدراسة المستقبل، والالتفات إلى الزمن، وتتردد في القرآن الكريم كلمات (الدهر، والغد، والحين، والوقت، وقبل، وبعد)، وجميعها تدعو إلى الالتفات إلى الزمن والاهتمام المستقبلي، كما تتردد كلمات (البصر والبصيرة) وهي تدعو إلى النظر في ما هو قادم مقبل.
قال تعالى: {الـم» 1غُلِبَتِ الرُّومُ 2 فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ 3 فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْـمُؤْمِنُونَ 4 بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 5 وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: ١ - ٦]. هذه الإشارة القرآنية الكريمة فيها معنيان: معنى الإنباء بالغيب وذلك من اختصاص الله سبحانه عالم الغيب والشهادة، أما المعنى الثاني فهو توجيه الوعي الإنساني للتفكير في مصير البشرية ومصير العالم وما سيشهده من أحداث تستدعي الحكمة الإنسانية.. وهو ما يسمى بالتفكير المستقبلي؛ الذي لا يمكن أن يستشرف آفاق الغد إلا إذا أدرك القوانين والسنن الكونية والتاريخية التي يسير بمقتضاها العالم، والتي تؤثر في مصائر الأمم ومنعطفات التاريخ.
والتعبير القرآني المتكرر «سيروا في الأرض» و«فانظروا».. وما يأتي بنصه أو ما يقرب منه يحمل طابع الدعوة إلى الاستقراء العلمي التجريبي الذي كان ميزة من ميزات العقل والفكر الإسلامي في الحضارة الإسلامية.. وذلك ما يتوافق تماماً مع ما هو متعارف عليه لدى مفكري المستقبل وعلومه في عصرنا الحاضر من أن إدراك فلسفة التاريخ أي القوانين المؤثرة في ماضي البشرية هو المنطلق والبداية لاستشراف توجهات المستقبل[9].
حضور المنظور المستقبلي في السنن وروافدها:
إن السنن الإلهية دالة على المستقبل بأصالة مدلولها القائم على الربط الشرطي اللازم بين فعل العباد وتقدير الجزاء الرباني المترتب عليه وفق حكمته، والذي يأخذ تلازماً حتمياً لا ينفصم.
فما يحصل من البشر حاضراً هو ما سيجدون جزاءه مستقبلاً وفق السنن المحكية في الكتاب والسنة ووفق سنن الأولين التي قُصت علينا لأجل ذلك، بل وما ينبغي للبشر فعله مستقبلاً هو ما ينبغي أن يكون وفاقاً لسنن التمكين والرخاء والعطاء والاستخلاف، واستثماراً لها وتلافياً لأسباب أضدادها.
وأنت إذا تأملت نصوص الوحيين وجدتها مفصلة بجلاء بالمنطوق الظاهر أو بالإشارة إلى روافد السنن من الأمر بالسير في الأرض والنظر والاعتبار بأحوال من وقعت عليهم هذه السنن وكذلك التفكر في حِكَم الخلق والأمر والتدبير.
وسنفصل ونمايز بينها هنا:
- القصص القــرآني (سنن الأولين):
يقول محمد رشيد رضا: «إن ثلاثة أرباع القرآن تقريباً قصص، وتوجيه الأنظار إلى الاعتبار بأحوال الأمم في كفرهم وإيمانهم وشقاوتهم وسعادتهم، ولا شيء يهدي الإنسان كالمثلات والوقائع. فإذا امتثلنا الأمر والإرشاد، ونظرنا في أحوال الأمم السابقة، وأسباب علمهم وجهلهم، وقوتهم وضعفهم كان لهذا النظر أثر في نفوسنا يحملنا على حسن الأسوة والاقتداء بأخبار تلك الأمم»[10].
ويبين الله سبحانه وتعالى في ثنايا تلك القصص أو تعقيباً عليها سنن الله في خلقه ونواميسه المتحكمة في هذه الحياة الموجهة لنتبين أسباب السقوط ودواعي النمو والإقلاع، فالقرآن الكريم يجيء بمعطياته التاريخية من أجل أن يحرك الإنسان صوب الأهداف التي رسمها الإسلام ويبعده عن المزالق والمنعرجات التي أودت بمصائر عشرات بل مئات الأمم والجماعات والشعوب[11].
وفي أعقاب القصص القرآني يأتي الخطاب آمراً المؤمنين بالتوسم في هذه الأخبار، والتوسم ثمرة اجتماع السمع والعقل، فإنه عبارة عن التأمل والتدبر في ما يتعلق بأصحاب المثلات من آيات الله المسموعة والمشهودة؛ وهي ما في النصوص من أخبارهم، وما أبقاه الله في الأرض من آثارهم ليصل المتوسم لما يناسب اعتباره من درجات اليقين[12].
- سنن (قوانين) التاريخ:
إن التاريخ الذي يطلق عليه «أبو العلوم الاجتماعية» هو الماضي، وإن استشرافه والتعرف على قوانين حركته هو الذي يحقق لنا العبرة، ويؤهلنا للعبور إلى الحاضر والمرور إلى المستقبل: }لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ{ [يوسف: 111] فالعبرة والعبور والاعتبار إنما هي نوع من المقايسة والمقارنة والبصيرة والقدرة على رؤية المستقبل من خلال ما يمنح الماضي من معرفة هذه السنن ويؤكد اطرادها[13].
فالسنن التاريخية تعتبر دعماً للبشر، ومساعداً لهم في الابتعاد عن الوقوع في الخطأ مرة أخرى. فكل التجارب البشرية العريقة في القدم والموزعة على أقطار الأرض؛ تراث من العبر وسجل من الدروس لكل الناس إذا أرادوا أن ينظروا إليها[14].
فالوعي بالتاريخ تتجاوز فائدته وثمراته حدود الاستفادة في حياتنا الحاضرة وبناء واقعنا المعيش إلى التأثير في المستقبل القريب منه والبعيد، ومن ثم فنحن نضيف إلى أعمار الأجيال القادمة[15].
ومن الوعي بالتاريخ إلى بناء فلسفة للتاريخ قائمة على النظر إلى الوقائع التاريخية، والعمل على استنباط القوانين العامة الثابتة التي تتطور بموجبها الأمم والدول على مر القرون والأجيال[16].
- أحاديث الفتن ومنظورها المستقبلي:
تشكل أخبار وأحاديث الفتن من مصادر الوحي وشروحها رافداً مهماً لتشكيل الخريطة المستقبلية للعالم، فقد أخبرت الآثار أن لهذا الدين عودة، وأن الخلافة الإسلامية سوف تعود، وأن المسلمين سوف يعود لهم دورهم القيادي، وعند ربط ذلك باستشراف ما سيؤول إليه واقع الهيمنة المعاصرة للقوى النصرانية واليهودية فإنه سوف يساعد المسلم على تثبيت ركائز الإيمان في قلبه وتحمل المصائب والكوارث التي يمكن أن تقع خلال فترة التحول في تغير واقع الحال المعاصر[17].
إن مجابهة هذه الفتن تحتاج إلى وجود قوة إسلامية قادرة على حماية المسلمين وحماية العقيدة، كما تحتاج إلى قوة روحية على المستوى الفردي للاستعصام ضد هذه الفتن[18].
إن أحاديث الفتن هي في الحقيقة رؤى مستقبلية، تدفع للمداخلة في الحركة التاريخية ودفع قدر بقدر، والاستعداد لكيفية التعامل معها، وإلا ما معنى وجدوى ورود أحاديث الفتن والتحذيرات المستقبلية؛ مما يمكن أن تصير إليه الأمور؟!
وما هو موقف المسلم إذا لم يمتلك مدافعة قدر بقدر، ويستلم زمام المبادرة في الحيلولة دون الفتن، وكيفية التعامل معها حال وقوعها؟!
ما الفائدة من أحاديث الفتن إذا لم تدرك أبعادها على أنها إشارات مستقبلية، لا بد أن نأخذ حذرنا تجاهها، ونعد لها ما استطعنا.
إن سنن السقوط والنهوض أو القوانين التي تخضع لها مجتمعات البشر لم تقتصر في معرفة الوحي على قراءة الماضي، أو استيعاب الحاضر فحسب، وإنما تجاوزت حدود المنظور إلى تقديم رؤى مستقبلية، تسبق الزمن، لنحسن الإعداد والاستعداد للتعامل معه[19].
- الأمر بالسير في الأرض:
الأمر بالسير في الأرض ورد في القرآن الكريم مرات متعددة تزيد على أربع عشرة مرة، فكان الدافع إلى السير النظر والتعقل، ومن معاني العقل الربط أي ربط المعنى والعظة الماضية والانتفاع بها في الأوقات الحاضرة، يقول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46][20].
والسير في الأرض على نوعين:
أفقي: على امتداد الزمان والمكان لمشاهدة الأحداث والآثار، وأخبار الأمم وتقلبات الأحوال بهم.
عمودي: يتجه نحو العمق، ويتمثل في التبصر الواعي بالكيفية التي حدثت بها الأحداث، والبحث عن الأسباب والدواعي، والنتائج القريبة والبعيدة[21].
وتستتبع الدعوة للسير في الأرض الدعوة إلى مطلق النظر والاعتبار والتأمل وما يدخل في معانيها من البحث والدراسة واستخلاص القوانين، وهو في هذا الإطار يستدعي توظيف الدراسات الحديثة في علم المستقبليات وجعلها ضميمة إلى دلالات السنن امتثالاً للدعوة القرآنية إلى عموم السير والنظر والاعتبار ليتكون بمجمل ذلك ما سماه البعض بالعقلية الإسلامية.
ويقصد بالعقلية المستقبلية الإسلامية مجمل طرائق النظر وأنحاء الفعل والسلوك التي يجدر توافرها عند الإنسان المسلم سواء الآن أو في الزمن القابل الذي نستطيع بوسائلنا الطبيعية الممكنة أن نستشرفه، وهذا يعني أن تكون عقلية المستقبل هذه مطالبة بتحقيق شروط خاصة والسير في دروب متميزة وتثقف سجايا متكافئة تناسب المستقبل ومعطياته[22].
- خصائص السنن التي تشكل قيمة معرفية إضافية في الدراسات المستقبلية:
حينما نشير إلى السنن الربانية وتبيئتها في حقل علم المستقبليات فإنما نبحث عن القيمة الإضافية التي لم تصل إليها الدراسات الحديثة والتي أصبحت فجوات وأوجه قصور أشرنا لها في مطلع المقال، ولا شك أن خصائص السنن التي أشار لها العلماء تمثل ردماً للفجوة في ذلك:
1- ربانية المصدر:
فالسنن يقينية لارتباطها بالوحي؛ أي مرتبطة بالله سبحانه وتعالى ومضافة إليه: }سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا{[الأحزاب: 26]، ومفاد ذلك أن التعرف عليها يمنح الإنسان القدرة على تسخير الكون وقدر كبير من التحكم في النتائج، والتخفيف من الآثار السلبية ومغالبة قدر بقدر، وفي ذلك انفساح هائل أمام طاقات الإنسان غير المتناهية[23].
ويتصل بذلك البعد المعنوي المتمثل في العامل الإيماني القلبي من خلال الارتباط بالله والدينونة له في استجلاب خير المستقبل وتمكينه كما ورد الوعد بذلك التمكين المستقبلي لعباده إن هم أقاموا دينه: }وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{ [النور: 55]؛ هذا البعد الغائب عن التفكير والتدبير الغربي القائم على البعد المادي وديناميكية السعي البشري المنقطع عن وحي الله واستمداد الخير والفضل منه.
2- العموم والشمول:
فهي عامة وشاملة للأمم والأقوام والأجناس، في كل زمان ومكان، فلا استثناء لأمة، ولا محاباة لجنس أو لون أو ديانة، فالكل أمام القانون الإلهي سواء[24].
ومقتضاه في شأن مستقبل الاجتماع البشري أن الاعتبار بأحوال الأمم الغابرة يغدو بلا فائدة لو لم تكن السنن التي تحكم حياة المجتمعات والأفراد سنناً شاملة لا تستثني، ويمكن أن تتكرر كلما توافرت شروطها[25].
3- الثبات والاطراد:
سنة الثبات تعني أنها لا تتبدل ولا تتحول مصداقاً لقوله تعالى: }فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا{ [فاطر: 34]، فهي صارمة لا تتخلف من زمان إلى زمان، ولا من مكان إلى مكان.
ووصف السنن بالثبات يعني ارتباط الأسباب بالمسببات، أو ارتباط العلة بالمعلول، ارتباطاً مؤكداً لا ينفصم إلا أن يشاء الله تعالى[26].
وعلى هذا المفهوم يجب أن يكون تعاملنا مع السنن في شأن بناء المستقبل، فليس من الممكن تعديل صفاتها أو تبديلها، لأنها ماضية قاهرة تتصف بالثبات، ونحن لا نتعلمها من أجل تغييرها أو تحييدها، وإنما من أجل الانسجام معها والعمل بمقتضاها ولتلافي الاصطدام بها[27].
وكذلك خاصية الاطراد التي تعمل جنباً إلى جنب مع خاصية الثبات والشمول؛ والتي تعني تتابع حصولها أو تكرار آثارها على الوتيرة نفسها كلما توافرت شروطها وانتفت موانعها، وهي ذات طابع عالمي تنطبق على الناس جميعاً أفراداً وجماعات وأمماً ودولاً، ومسلمين وكافرين، وبهذا ينبعث شعور واع لدى المسلم يمكنه من تتبع أحداث التاريخ وحركة المجتمع في جريانها بصورة واعية بعيداً عن العشوائية والسذاجة والاستسلام[28].
4- المرونة والإمهال:
ولكي لا نقع في الخطأ أو انتقاض الثقة في المنظور السنني للمستقبل فلا بد أن نعلم أن حركة المجتمعات الإنسانية وإن كانت محكومة بقوانين تحكم توجهاتها ومساراتها العامة، لكنها تختلف عن المادة الصماء التي تثمر المعرفة اليقينية الفورية؛ فالعنصر النفسي والروحي والإرادة الحرة جعلت واقع الإنسان يتصف بكثير من الخفاء والغموض في العوامل التي تنشأ عنها الظواهر السلوكية، الأمر الذي يجعل نفاذ السنن والتحول الاجتماعي يتم ببطء وبتحولات تمتد لأجيال[29].
5- التكامل وتبادل التأثر والتأثير:
وهذا كسابقه يضبط إعمال السنن في دراسة المستقبل وارتياده، فالسنن الإلهية في ما يتعلق بالشأن الإنساني لا تعمل فرادى بل تعمل مجتمعة وبصورة متشابكة.
وهي وإن بدت سنناً مختلفة في ظاهرها - فللنصر والهزيمة سنن ولحصول البركات والأمن سنن، وللعقوبات سنن ثالثة، إلا إن بينها تكاملاً وتبادلاً في التأثر والتأثير، بحيث لا تحسم نتيجة سنة منها دون مراعاة أثر السنن الأخرى، وتكون النتيجة هي حصيلة السنن العاملة كلها في آن واحد، أو لنقل حصيلة تعامل الإنسان مع مجموعة السنن التي تعرض له في أثناء حركته في الأرض[30].
وفي جملة القول فإن في علم السنن الإلهية مُدّركاً واسعاً لإخصاب مجال الدراسات المستقبلية لو شرحت بالأبحاث والدراسات والنظر والتفكير والتحاور لاستخراج المكنون الزاخر الذي لم يُعطَ حقه، والذي سيرفد إستراتيجيات المستقبل بمنظورات فاعلة ورصينة لو أخذت حقها من الالتفات.
[1] مقدمة إلى علم الدراسات المستقبلية، رحيم الساعدي، ص49.
[2] الدراسات المستقبلية؛ الأسس الشرعية والمعرفية والمنهجية لاستشراف المستقبل، فؤاد بلمودن، ص16.
[3] رحيم الساعدي،مرجع سابق ، ص22.
[4] مقال: الرؤى المستقبلية في عالم المسلمين، سيف الدين عبد الفتاح، مجلة: استشراف، عام 2017م، ص117.
[5] سنن الله تعالى في الأمم من خلال آيات القرآن الكريم، د. حسن صالح الحميد، ص20-21.
[6] إعجاز النظم القرآني في اقتران السنن الاجتماعية بالسنن الكونية، توفيق علي زبادي، ص18.
[7] فؤاد بلمودن (مرجع سابق)، ص131.
[8] المرجع السابق، ص133.
[9] انظر: رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية، محمد جابر الأنصاري، ص22-24.
[10] تفسير المنار:1/56.
[11] فلسفة التاريخ الفكر الإستراتيجي في فهم التاريخ، جاسم سلطان ، ص25.
[12] دراسات في دلالات المثلات؛ بحوث علمية في عقوبات الأمم، عيسى السعدي، ص99.
[13] عمر عبيد حسنة، الأعمال الفكرية الكاملة، ص5424:9.
[14] محمد أمحزون، مرجع سابق، ص115:1.
[15] انظر: سنة الله في إهلاك الأمم، رمضان خميس زكي، ص45.
[16] انظر: جاسم سلطان، مرجع سابق، ص22.
[17] مختارات من أحاديث الفتن، د. محمد بن عبد الله الشباني، ص54-55.
[18] السابق ص56-57.
[19] عمر عبيد حسنة، مصدر سابق، مج5/ ص2950-2951.
[20] مفهوم السنن الربانية من الفهم إلى التسخير، رمضان خميس زكي، ص124.
[21] محمد أمحزون ، مصدر سابق، ص110-111.
[22] أسس التقدم عند مفكري الإسلام، د. فهمي جدعان، ص555، طبعة دار الشروق عام 1988م.
[23] محمد أمحزون ، مصدر سابق، ص137،75.
[24] حسن بن صالح الحميد، مصدر سابق، ص82.
[25] محمد أمحزون، مصدر سابق، ص1/139.
[26] انظر: السابق 1/142،143.
[27] انظر: السابق 1/146.
[28] انظر: السابق 1/148-151.
[29] انظر: السابق 170:1.
[30] انظر: حسن الحميد ، مصدر سابق، ص 28، محمد أمحزون، مصدر سابق، ص156:1.