إخراج الفلسطينيين زوال الكيان الصهيوني
تتطلع أفئدة المسلمين جميعاً إلى فلسطين، حيث المسجد الأقصى مسرى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ويشغل عقولهم التفكير بتحرير هذه الأرض المباركة من أيدي اليهود المحتلين. لكنهم يقفون أمام معطيات الواقع فيجدون أن الواقع يحكي حال وهن وضعف في المسلمين لا يقابل في الميزان المادي حال يهود، فيتطلعون إلى تحقق وعد الله تعالى باستعادة هذه البقعة في المستقبل البعيد، حيث يحتمل أن تتكافأ موازين القوى المادية بين المسلمين وبين يهود؛ هذا إذا لم يتسلل اليأس إلى نفوسهم.
وفي منظور الوعد الإلهي والتقدير الرباني الأمر أقرب من ذلك بكثير، فإن سنن الله تعالى في الأمم السابقة، وعبر مسيرة البشر التاريخية، تخبرنا أن كثيراً من دول الباطل زالت في أوج عظمتها وقوتها وجبروتها، بكرامة إلهية لفئة مؤمنة قليلة أخذت بما تستطيع من الأسباب، وأعدت ما يمكنها من القوة، وبذلت ما تملك من جهد، ثم استعانت بالله تعالى لاستكمال ما عجزت عنه. فتحقق في هذه الفئة المؤمنة مع تلك الدول القوية المتكبرة المتجبرة سنة الله: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
إن موازين التقدم الصناعي والتقني، والعتاد العسكري المتفوق كماً ونوعاً، لا تغير من هذه السنة الربانية في نصرة أصحاب الحق المظلومين، في وجه الظالمين المعتدين؛ يقول تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]، وقال: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِـمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83]. بل إن هذه الأمور صورة من صور الاستكبار والاستعلاء التي تدفع العدو إلى التمسك المطلق بقوانين المادة، في حين تتمسك الفئة المؤمنة - بعد أخذها بالأسباب، وقيامها بالواجبات - بقوانين الوعد الإلهي. وشتان بين معتمد على مخلوق ومعتمد على الخالق.
سُنَّةُ الإخراج:
عبر التاريخ كان الطغاة الظالمون يمارسون هوايتهم في فتنة المؤمنين المستضعفين في دينهم، ساعين في إخراجهم من ديارهم وتشريدهم في الأرض. فهي سياسة متبعة في القضاء على الخصوم، وتصفية وجودهم إذا لم يمكن قتلهم. وفي اللحظات التي يصرون فيها على الفتك بالمؤمنين الضعفاء، أو إخراجهم من ديارهم، يكونون قد قرروا بأنفسهم هلاكهم، وتمكين هؤلاء الضعفاء من بعدهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِـمِينَ 13 وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِـمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ 14 وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 14 - 15].
وهي سنةٌ ماضية لا تتخلف: {وَإن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلَّا قَلِيلًا 76 سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 76، 77].
فهذا لوط صلى الله عليه وسلم سعى في دعوة قومه، وإبلاغهم رسالة ربهم، فكذبوه وجحدوا دعوته، وبلغ بهم الحال التفكير بإخراجه وأهله من قريتهم: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]، وبالفعل ذهبوا إليه ينهرونه ويهددونه: {قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْـمُخْرَجِينَ} [الشعراء: 167]، فأهلكهم الله تعالى، ودمرهم، وأنجى لوطاً وأهله.
ولم يكن حال شعيب صلى الله عليه وسلم مع قومه بأحسن من حال لوط مع قومه، فقد كذبه قومه وجحدوا نبوته، وملوا دعوته إياهم حتى: {قَالَ الْـمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِيـنَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ 88 قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْـحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ 89 وَقَالَ الْـمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إنَّكُمْ إذًا لَّخَاسِرُونَ 90 فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ 91 الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْـخَاسِرِينَ} [الأعراف: 88 - 92]، وهكذا انتهت أمةٌ غالبة قاهرة بعتوها في الأرض، وسعيها في إخراج نبيها ومن آمن معه من ديارهم.
وسنة إخراج المؤمنين من ديارهم من سنن المنافقين أيضاً، يقول الله تعالى عنهم: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْـمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ 7 يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلَى الْـمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْـمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: ٧، ٨].
الجهاد والإخراج:
يربط القرآن الكريم غالباً الجهاد في سبيل الله بقضية الإخراج من الديار، لأن سنة الظالمين المستكبرين إخراج المؤمنين المستضعفين من ديارهم، حيث يصبح المخرجون من أرضهم أصحاب قضية عادلة تتطلب الدفاع والإذن باسترجاع الحقوق ورد المظالم، والعون والنصرة.
ففي سورة البقرة يربط القرآن الكريم بين فتنة الكفار للمؤمنين، وإخراجهم إياهم من ديارهم، وبين فريضة القتال، فيقول تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: ١٩١].
بل جاء في سورة البقرة ربط فرض القتال بالفتنة والإخراج في أوضح صورة، فيقول سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ 216 يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْـحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ وَإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 216، 217].
والأمر ذاته ورد في سورة الحج: {إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ 38 أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ 39 الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ 40 الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 38 - 41].
ويستحث الله تعالى المؤمنين للقتال بتذكيرهم بهذه الجريمة النكراء في حق الرسولصلى الله عليه وسلم ، فيقول تعالى في سورة التوبة: {وَإن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ 12 أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 13 قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ 14 وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 12 - 15]، ويعيد عليهم سبحانه الاستحثاث بربط نصره لنبيه بهذا الفعل المشين من الكفار: {إلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
وأذن الله تعالى لبني إسرائيل بالقتال استعادة لأرضهم وديارهم، بعد أن أخرجوا منها: {أَلَمْ تَرَ إلَى الْـمَلأِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِـمِينَ} [البقرة: 246].
ويربط القرآن الكريم بين الهجرة وبين الإخراج، تعبيراً عن تمسك المؤمنين بديارهم، وأنهم لولا الفتنة التي يتعرضون لها في دينهم بقوا في أرضهم: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ 195لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ 196 مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْـمِهَادُ} [آل عمران: 195 - 197]، {لِلْفُقَرَاءِ الْـمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: ٨].
بل يبني الشرع الإسلامي علاقة المسلم مع غير المسلم من منظور تعامله معه، وموقفه من حقه في البقاء على أرضه دون فتنة تفرض عليه ارتداده عن دينه، أو إكراهه على الخروج منها، يقول تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ 8 إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [الممتحنة: ٨، ٩]؛ ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْـمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْـحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْـمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ 1 إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: ١، ٢].
وبين الإخراج الجائر والعودة زمنٌ قصير، لا يتأخر أبداً، بل لا يتجاوز بضع سنين، للأخذين بالأسباب الشرعية والكونية في استعادة أرضهم وديارهم. فهذا رسولنا الكريم خرج من مكة مهاجراً للمدينة، وفي السنة الثامنة عاد إليها فاتحاً منتصراً: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13].
حرمة إخراج المؤمنين:
إن أحق الناس بالأرض المؤمنون الذين يقيمون فيها الحق والعدل والخير، فتصلح بهم الحياة وتتحقق فيهم العبودية ويقوم بهم العمران الذي أراده الله تعالى على هداه. لذلك حرم الله إخراجهم وفتنتهم، يقول تعالى: {وَإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ 84 ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلَّا خِزْيٌ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 84، 85].
بل جعل الله القتال لتثبيت هؤلاء المؤمنين في ديارهم وأرضهم جهاداً في سبيله، بل استحث المؤمنين له واستنهضهم إليه: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْـمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِـمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا 75 الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 75، 76].
والعكس صحيحٌ، فإن أحق الناس أن يخرجوا من الأرض هم أهل الظلم والفساد والطغيان في الأرض، يقول تعالى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: ٣٣]، ويقول سبحانه عن المنافقين الساعين في زعزعة جبهة المؤمنين: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْـمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْـمُرْجِفُونَ فِي الْـمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلا قَلِيلًا 60 مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيـلًا 61 سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 60 - 62].
ولـما سعى يهود المدينة في معاونة المشركين للقضاء على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخيانته ونقض العهود التي بينهم وبينه، وأرادوا التسلط على المؤمنين، أمر الله تعالى نبيه بحربهم وإخراجهم من ديارهم، فقاتلهم الرسول وأجلاهم منها: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ 1 هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْـحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْـمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ 2 وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْـجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ 3 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإنَّ اللَّهَ شَدِىدُ الْعِقَابِ} [الحشر: ١ - ٤]. وهذا جزاء طبيعي من جنس ما أراده اليهود للمؤمنين، بعد أن رأوا انتصارهم على المشركين؛ خاصةً وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب بينه وبينهم وثيقة المدينة، معترفاً بهم كجزء من نسيج يثرب الاجتماعي والاقتصادي والديني؛ ولم يسع لظلمهم، أو لاضطهادهم، أو لإخراجهم من المدينة؛ بل شرع التعامل معهم بالعدل والإحسان ودعوتهم بالتي هي أحسن.
فساد اليهود في فلسطين:
نجى الله تعالى بني إسرائيل من فرعون وقومه، وأوحى إلى موسى صلى الله عليه وسلم أن يأمر قومه للتوجه إلى فلسطين، حيث كتب لهم أن يقيموا دولة الإسلام والعدل. فلما وجههم موسى إلى ذلك، ودعاهم لمجاهدة من كان فيها من الجبارين، رفضوا أمر الله لهم؛ ولم يدخلوها. فكان الجزاء أن كتب الله تعالى عليهم التيه في الأرض أربعين سنة: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ 20 يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْـمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ 21قَالُوا يَا مُوسَى إنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإنَّا دَاخِلُونَ 22 قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 23قَالُوا يَا مُوسَى إنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 20 - 24].
وعقب إن تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال، استطاع يوشع بن نون صلى الله عليه وسلم أن يقود بني إسرائيل إلى فتح فلسطين ودخول بيت المقدس. ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن نبياً من أنبياء بني إسرائيل، قال لقومه: «لا يتبعني رجلٌ ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولـما يبنِ بها؛ ولا أحدٌ بنى بيوتاً ولـم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر ولادها»، فغزا، فدنا للقرية حين صلاة العصر، أو قريباً من ذلك. فقال للشمس: «إنك مأمورةٌ وأنا مأمورٌ؛ اللهم احبسها علينا». فحبست عليه حتى فتح الله عليه[1].
وقامت لبني إسرائيل في فلسطين دولة، واستمر تمكنهم حتى طال عليهم العهد، وفسدت أحوالهم، وسلط عليهم الأعداء، فقتلوا منهم، وأسروا وشردوا، وأخذوا ما كان بأيديهم من الأموال والتراث الذي كانوا يقدسونه. وزال سلطانهم، وأخرجوا من فلسطين.
وهاجروا من أرضهم إلى أرض الأردن، وهناك بدأ الحنين إلى الديار والأهل والأبناء يشعل عواطفهم للعودة، واسترداد ما أخذ منهم. وعادوا يلتمسون عودة عزهم ورجوع سلطانهم، فسألوا نبياً لهم أن يبعث لهم ملكاً يقودهم إلى النصر. وهذا جرى لهم بعد ما يزيد على ألف سنة من عهد موسى[2]. فبعث لهم طالوت ملكاً، واستجابت لواجب الجهاد فئة مؤمنة قليلة منهم. فلما عبروا نهر الأردن[3] في طريق جهادهم، ابتلوا بالشرب منه، فشربوا منه إلا قليلاً منهم.
فلما عادوا لسوء سيرتهم، وبغوا وطغوا، وأفسدوا في الأرض، وحرفوا دين الله، بعث الله عليهم من يخرجهم من فلسطين ويشتتهم في الأرض. فلم تقم لهم دولة، ولم يلتم لهم شمل، ولم يقر لهم قرار. وذاقوا كل صور الإذلال والإهانة والتسليط. وبعث رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وهم على هذا الحال. ولم يؤمنوا به، بل كذبوه وناصبوه العداء وسعوا في قتله، والإعانة على القضاء على سلطانه، فأجلاهم الرسول وأمر بإجلائهم.
وبعد قرون طويلة، جاء بنو إسرائيل من شتات الأرض إلى فلسطين، بعد أن نبذهم العالم لفسادهم وإفسادهم، ليقيموا عليها دولتهم وفقاً لديانتهم اليهودية المحرفة؛ متذرعين بالتاريخ، ومتسلحين بوعد «التوراة» بزعمهم، ومستقوين بالأسباب المادية والثراء المالي الفاحش الذي جعلهم ممسكين بزمام الاقتصاد العالمي، حتى أصبحوا أكثر نفيراً.
احتلوا فلسطين، وارتكبوا في سبيل احتلالها في مطلع القرن العشرين كل صور الإجرام والقتل والفتك بأهلها. وأعلنوا عن قيام «دولة إسرائيل» في 14 مايو 1948م. لتصبح «دولة شعب الله المختار» من أعظم الدول ظلماً وفساداً وطغياناً في الأرض.
وقد ساهم اليهود من قبل ذلك في سقوط الخلافة العثمانية الإسلامية عام 1924م، بخياناتهم ومؤامراتهم المختلفة. وكان لهم دورٌ في إثارة النعرات القومية والفتن الطائفية في سبيل إضعاف الأمة المسلمة وتمزيق صفوفها. فقد مثلت «الماسونية» العالمية محفلاً يدير الدسائس والمؤامرات ضد المسلمين وصولاً إلى قيام الكيان الصهيوني[4].
ومنذ احتلالهم فلسطين، اغتصب اليهود حقوق أبنائها، وأجبروهم على مفارقة ديارهم إما كرهاً وإما اضطراراً. فشردوا شعب فلسطين خارج أرضه، وحرموا من تبقى منهم السلام والأمان في أرضه. ولا تزال مؤامراتهم على البقية الباقية في داخل فلسطين المحتلة أو في البقاع المحررة منها نسبياً، كغزة والضفة، مستمرة حتى وقتنا الراهن. فاليهود يرغبون في تصفية «إسرائيل» من أي وجود غير يهودي؛ ليتمكنوا من هدم المسجد الأقصى وإقامة «هيكل سليمان» المزعوم محله!
ووضع اليهود في العالم اليوم يختلف عما كان عليه في قرون سابقة. فهم في أوج قوتهم، واستقلالهم، وتأثيرهم، في أوربا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، والأسواق العالمية. وتعد دولتهم من الدول الرائدة علمياً وصناعياً. كل ذلك في مشهد يترجم خبر الله تعالى عنهم في سورة الإسراء (بني إسرائيل)، ببلوغهم علواً كبيراً، وجعلهم أكثر نفيراً، وإفسادهم في الأرض: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ إلَى الْـمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ 1 وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا 2 ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا 3 وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا 4 فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا 5ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا 6 إنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا 7 عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: ١ - ٨].
غير أن هذا الطغيان هو مؤشر نهايتهم وزوال دولتهم مجدداً. خاصة وأنهم يتبعون سبيل المجرمين ذاتها في محاربة المؤمنين وحملة راية الإسلام والعدل والإصلاح في الأرض. وهي سبيل تفضي إلى استحقاق العذاب عاجلاً غير آجل: {وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْـمَاكِرِينَ 30وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إنْ هَذَا إلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ 31 وَإذْ قَالُوا اللّ›هُمَّ إن كَانَ هَذَا هُوَ الْـحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 32 وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 30 - 33]. فإذا كان عذاب الله يدرأ عن الكافرين لوجود الأنبياء والمصلحين فإنه إذ يخرجون يحل عليهم: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25].
وإذا كان مسلسل التهجير والتشريد قد مورس على الفلسطينيين في وقت مبكر منذ عهد الانتداب البريطاني في عشرينيات القرن الماضي وحتى الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني، واستمر عبر كل مراحل الصراع بين الفلسطينيين ويهود، فإن مطامع اليهود لم تتوقف، وما زال المخطط يقضي بإخلاء القدس وكثير من المدن والمناطق الفلسطينية من أهلها، في صفقة جديدة تستغل ظروف الأمة البئيسة لتغير الديمغرافيا السكانية لفلسطين وتنهي الوجود الإسلامي فيها.
صفقة القرن:
يسعى اليهود إلى إنهاء الوجود الفلسطيني فيما يعرف بـ«دولة إسرائيل»، وذلك بتقديم حلول تهيئ للفلسطينيين وطناً بديلاً عن أرضهم. ويجري الحديث مؤخراً عن «صفقة القرن»، أو ما يمثل حلاً نهائياً للقضية الفلسطينية. وهو مقترحٌ وضعه الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترمب، لإنهاء الصراع مع إسرائيل. وتهدف الصفقة بشكل رئيس لتوطين الفلسطينيين خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإنهاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين في الخارج، بإعادة توطينهم أو تجنيسهم في بلدان اللجوء شرط إسقاط هذا الحق منهم.
وبغض النظر عن التفاصيل، وعن موقع الوطن البديل، فإن هذا المسعى الحثيث لليهود في إخراج المؤمنين من الأرض الفلسطينية المباركة ظلماً وعدواناً ليس إلا استعجالاً لنهاية ذلك الكيان. وذلك بحسب السنن الربانية التي أسلفنا الحديث عنها. وكلما علا اليهود وتغطرسوا بكبريائهم وقوتهم لإخراج المؤمنين كلما سرعوا هذه النهاية الحتمية التي لا يشك فيها مؤمن.
وإذا كانت إرادة الله تعالى قضت بانتصار طالوت ومن معه على جيش الجبارين بزعامة جالوت برغم فارق العدد والعتاد والحسبة المادية، نظراً لرجحان كفة الإيمان وعدالة القضية، مع بذل الممكن من الأسباب والتوكل على الله، فإن ذات الإرادة الإلهية تقضي بذات الانتصار لذات المعنى. فهو وعد حق لا يتخلف ولا يتبدل. وسوف يتحقق في جيل المقاومة الفلسطينية الذي رابط على مدى أكثر من ربع قرن من الزمن في مواجهة العتو والجبروت اليهودي، متسلحاً بالإيمان والصبر، بإذن الله.
وقد قال تعالى: {فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: ٧]، وليس ذلك على الله بعزيز، فإن كرامته لهذه الأمة متصلةٌ إلى قيام الساعة. وإذا كان من غير المعلوم متى يكون هذا الوعد الإلهي تحديداً، إلا أن لكل ظاهرة كونية وحدث مقدمات وعلامات وأمارات، يعرف به ابتداؤه وانتهاؤه؛ فمن عرف هذه العلامات والأمارات لم تخطئ فراسته، ولم يشذ توسمه.
إن الطغيان القائم على الاستكبار والتجبر والظلم والإفساد في الأرض لا يتعايش مع الإيمان الداعي للتواضع والمسكنة والعدل والإصلاح في الأرض. ويرى الطغاة في المؤمنين خطراً عليهم، وتهديداً على وجودهم، لذلك يسعون إلى إفنائهم أو إخراجهم وطردهم، ما لم يخضعوا لطغيانهم وجبروتهم وعبوديتهم.
فقد اتهم فرعون وقومه موسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - بالسعي في إخراج أهل مصر منها، لمجرد أنه دعاهم للتوحيد والإيمان: {قَالَ الْـمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ 109 يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 109، 110][5]. وعقب هذا الاتهام الذي وجه لموسى وأخيه أعمل فرعون في بني إسرائيل سيفه وسوطه، فقتل واستعبد: {وَقَالَ الْـمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]. ثم حشد الناس ضد الفئة المؤمنة لاستئصالهم من الأرض. وقاد فرعون - وهو من هو في ملكه وعظمته - جيشه كاملاً للقضاء على الشرذمة القليلين، وتبعهم برغم فرارهم وخروجهم من أرضه طالبين النجاة بأنفسهم. وهنا حق تدمير الله تعالى للطغاة وإيراث الأرض من بعدهم للمؤمنين: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْـمَدَائِنِ حَاشِرِينَ 53 إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ 54وَإنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ 55 وَإنَّا لَـجِمِيعٌ حَاذِرُونَ 56 فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 57 وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ 58 كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إسْرَائِيلَ} [الشعراء: 53 - 59].
والنهاية المحتومة هي أن المستضعفين سينالون دورتهم في الحياة، وسيمكنون من الأرض كما مكن من قبلهم: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا صلى الله عليه وسلم 104} [الإسراء: 104]؛ وأن الأرض المباركة يرثها عباد الله الصالحون: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِـحُونَ 105إنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105، 106]، ومع ذلك هم مأمورون بالثبات والجهاد والصبر: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41]، {ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 110].
مئة عام على الاحتلال:
فتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سنة 637م الموافق 16هـ، واستمر بأيدي المسلمين خلال أكثر من أربعة عقود ونصف العقد تقريباً. ثم عاد الصليبيون ليحتلونه مجدداً، وينتزعونه من أيدي المسلمين، وذلك سنة 1099م الموافق 492هـ. وظل القدس في أيدي الصليبيين قرابة تسعة عقود، حتى استعاده المسلمون في عهد صلاح الدين الأيوبي والدولة الأيوبية، فحرر سنة 1187م - الموافق 583هـ - من أيديهم مرة أخرى.
عاد الصليبيون في العصر الحديث للتآمر على العالم الإسلامي، وتمكنت بريطانيا العظمى من احتلال القدس، ووضعها تحت الانتداب البريطاني، أو «الوصاية» البريطانية، سنة 1920م الموافق 1338هـ. ثم ما لبثت بريطانيا أن سلمت فلسطين لليهود، لتكون لهم وطناً قومياً بديلاً، فأعلنوا بعد جهود حثيثة واغتصاب للأرض وتشريد أهلها وقتالهم قيام دولة إسرائيل سنة 1948م، الموافق 1367هـ، ولولا تعاون العالم الغربي المسيحي مع إسرائيل لم تكن لتقم أبداً.
وهكذا فإن فلسطين قضت تحت الاحتلال الصليبي البريطاني (28) عاماً، وتحت الاحتلال اليهودي الإسرائيلي قرابة (70) عاماً، حتى عام 2018م. وبذلك تكون القدس قد ظلت خارج سلطان الإسلام والمسلمين قرابة (98) عاماً. وهذه المدة الزمنية الربانية تذكرنا بموعود نبوي كريم، يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها»[6].
ونحن موعودون بإحدى الحسنيين، إما أن يأتي من يجدد لهذه الأمة أمر خلافتها، التي أعلن عن سقوطها عام 1924م (1342هـ) فيحرر بيت المقدس؛ وإما من يعيد راية الجهاد ويحرر بيت المقدس، فتعود لسلطان الإسلام وأهله. والوعدان - في نظري - بين عامي 2020م و2024م؛ أما إذا اعتمدنا التاريخ الهجري فالحديث عن الفترة بين 1438هـ و1442هـ؛ ذلك أن أعظم الدين الجهاد وقيام السلطان، ففي الحديث: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»[7].
وسواء كانت هذه الفترة هي فترة تتويج ما سبق للأمة أن بذلته للنهوض بشئونها والقيام بواجباتها عبر عقود ماضية، أو فترة انطلاق جديدة لمرحلة التتويج القادمة، فإننا في جميع الأحوال حولها ندندن، فالنصر قادم لا محالة، والكيان الصهيوني إلى زوال محقق.
[1] البخاري، رقم: 3124؛ ومسلم، رقم: 1747. وفي رواية: «إنَّ الشَّمسَ لم تُحبَسْ على بشرٍ إلَّا ليُوشعَ لياليَ سار إلى بيتِ المقدسِ»، انظر: السلسلة الصحيحة، للألباني، رقم: 202؛ والصحيح المسند، للوادعي، رقم: 1278.
[2] يقول ابن كثير: «هذا كان بعد موسى بدهر طويل. وكان ذلك في زمان داود عليه السلام، كما هو مصرحٌ به في القِصَّة. وقد كان بين داود وموسى ما ينيفُ عن ألف سنةٍ». ج1/664- 665. وقد أنكر الإمام الشوكاني القول بأنَّ هذا النبي أتى بعد موسى مباشرة، وقال في تفسيره: «إنَّ بين داود وموسى أمدٌ بعيد». وقال محمد رشيد رضا: «وهذا النبي لم يُسمِّه القرآن. وقال الجلال: هو شمويل. وهذا أقوى أقوال المفسرين، وهو معرَّبُ صمويل، أو صموئيل. وقيل: إنَّه يوشع. وهذا مِن الجهل بالتاريخ؛ فإنَّ يوشع هو فتى موسى، والقِصَّة حدثت في زمن داود، والزمن بينهما بعيد». وفي الآيات القرآنية إشارة إلى هذا الأمد، يقول تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْـمَلائِكَةُ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 248].
[3] روي ذلك عن ابن عباس وغيره، أنَّ النهر الذي ورد في الآيات: «هو نهر بين الأردن وفلسطين»، يعني: نهر الشَّريعة المشهور.
[4] انظر: اليهود والدولة العثمانية، د. أحمد نوري النعيمي، مؤسسة الرسالة - بيروت، ودار البشائر - عمَّان، ط1/1997م.
[5] أشار القرآن الكريم إلى ذلك في أكثر من سورة: الأعراف: 123، وطه: 57، و63، والشعراء: 34- 35.
[6] رواه أبو داود، وانظر: السلسلة الصحيحة، للألباني، حديث رقم: 4291.
[7] رواه أبو داود، وانظر: السلسلة الصحيحة، للألباني، حديث رقم: 11، وقال: صحيح بمجموع طرقه.