• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أعراف الله

أعراف الله


الأعراف سور ضخم يضعه الله تعالى ليكون فاصلاً بين الجنة والنار، ومانعاً أمام خروج أهل النار للدخول إلى الجنة. إذن هو سور طويل على امتداد الجنة والنار، ومرتفع بحيث لا يستطيع أحد تسلقه، كما أن به من السُّمك بما لا يجسر أحد على ثقبه. وعلى هذا السور رجال كما تبين الآيات (44-50) من سورة الأعراف التي سيتناولها هذا البحث، فلا هم في الجنة، ولا هم في النار، وفي الوقت ذاته يتمكنون من رؤية أهل الجنة وما هم فيه من نعيم، ورؤية أهل النار وما هم عليه من عذاب، فإن نظروا في هذه الجهة رأوا هؤلاء، وإن نظروا في تلك الجهة رأوا أولئك دون أن يتحدد مصيرهم بعد، إن كانوا سينقلبون إلى هذه الجهة أو تلك.

ولكن لماذا تم وضعهم في هذا الموضع؟ إنهم فئة خاصة من الناس جميعاً على مختلف العصور والأحقاب البشرية، لكن أعمالهم المتشابهة جعلتهم في هذا الموضع المضطرب، كما أن الأعمال المتشابهة جمعت أهل الجنة فيها، والأعمال المتشابهة جمعت أهل النار فيها. {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف: ٦٤]، بين هؤلاء وهؤلاء، ولا هم من هؤلاء، ولا هم من هؤلاء. وإضافة إلى ذلك فإنهم يتمكنون من التعرف على بعض الوجوه التي هم على معرفة سابقة بها سواء في الجنة أو في النار برغم ذلك الارتفاع وتلك المسافات الفاصلة.

فإذن هم: {يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف: 46]، واستناداً إلى ذلك يلقون عليهم السلام، كونهم يسمعونهم أيضاً: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْـجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الأعراف: 46]، وأما عندما ينظرون إلى أهل النار يسألون الله ألا يجعلهم معهم: {وَإذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ} [الأعراف: 47].

من هذا المنطلق فإن سورة الأعراف تتناول جوهر النفس البشرية، وتحلل حيثيات هذه النفس.

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْـجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِـمِينَ} [الأعراف: 44]: تخبرك الآية الكريمة أن الحديث ممكن بين {أَصْحَابُ الْـجَنَّةِ} و{أَصْحَابَ النَّارِ}، فأصواتهم تصل بعضهم البعض. ويمكن الاستنباط من فحوى هذا الحوار أن {أَصْحَابُ الْـجَنَّةِ} يُذكرون {أَصْحَابَ النَّارِ}عندما كانوا يستهزئون بهم وباستقامتهم في الدنيا حيث إن ذلك سيكون هباءً في هباء. فالآن: لم يكن ذلك هباءً في هباء، بل كان حقاً في حق، والآن: قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُنَا حَقاً، وظَفَرنا بِما وُعِدنا به. وعندما كنا نرد على استهزائكم بالموعظة الحَسَنة، وندعوكم إلى الهداية، لأن الله يعد الضالين بأن يكونوا أصحاباً للنار: {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ}، وهذا اعتراف وتأكيد منهم بأنهم تَلَقوا الوعيدَ بالعِقاب، بَيدَ أنهم لبثوا في تكذيبهم واستكبارهم وعصيانهم: {وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْـجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] هذا حصادكم الذي فلحتموه. أما {أَصْحَابَ النَّارِ} {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِـمِينَ} [الأعراف: 44] الذين ظلموا أنفسهم بحرمانها من الجنة، واستحقاقها النار. فعملك هو الذي يجعلك صاحباً للجنة، أو صاحباً للنار: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ 7وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: ٧، ٨]، {إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].

 {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 45]:

أي {لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِـمِينَ} {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}. قد اعوجوا أولاً ثم يسعون إلى تعميم الاعوجاج ليكون حالة عامة، فهم من دعاة وأئمة الاعوجاج، {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} ذلك أنهم {بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ}، فلا يحسبون حساباً للثواب والعقاب فهم بالحساب في الآخرة كافرون أي جاحدون. وبالعودة إلى قراءة الآية، تجد أنها ترتكز على الذين {يَصُدُّونَ} الآن {عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}. وقد أظهَرَت الآية السابقة كيف أن الذين سبقوهم في الصد قد أمسوا في الجحيم، وهم يقرون بأنهم وجدوا وَعيدَ الله بهم، وبالمقابل وجد المؤمنون وَعدَ الله لهم. فالآية الكريمة تقول لهم: لا تضلوا {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ولا تَـ{يَبْغُونَهَا عِوَجًا} ولا تكفروا {بِالآخِرَةِ} حتى لا تلحقوا بـ{أَصْحَابَ النَّارِ}، وحتى تكونوا من {أَصْحَابُ الْـجَنَّةِ}.

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْـجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46]:

يضع الله سبحانه وتعالى حجاباً بين {أَصْحَابُ الْـجَنَّةِ}و{أَصْحَابَ النَّارِ}، {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ}. و{الأَعْرَافِ} هي الحدود التي تحد وتفصل بين الجنة والنار، فهي تبين للجنة حدودها، وتبين للنار حدودها، وتكون حداً بينهما، وهي جمع عرف، والعرب تسمي كل مكان مرتفع من الأرض عرفاً. {وَعَلَى} هذه الحدود {الأَعْرَافِ} يجتمع {رِجَالٌ}، وهؤلاء الرجال {يَعْرِفُونَ كُلًّا} مِمن هم في الجنة أو في النار {بِسِيمَاهُمْ} أي بملامحهم. ووضعهم في هذا المكان {عَلَى الأَعْرَافِ} أي {عَلَى} أعلى الساتر الفاصل فيه شيء من التعجب، فَمَا الذي أتى بهم إلى هذا الموضع، فلا يكونون في الجنة، ولا يكونون في النار. والتواجد لا يكون خاصاً بالرجال فقط، بل بالنساء أيضاً، لكن جاءت كلمة {رِجَالٌ} كون النساء ينتسبن للرجال، فهما معاً ينتسبان للرجال، فنسبة الرجل لأبيه، وكذلك نسبة المرأة لأبيها. ثم إن الذكورة إذا اجتَمَعَت مع الأنوثة، فإن النسبة تكون للذكورة، حتى لو كانت أعداد الذكور أقل من أعداد الإناث، فإن اجتمع عشرة أشخاص، ست نساء وأربعة رجال، فنقول: رأيناهم في المدينة، ولا نقول: رأيناهن. بل حتى لو كن تسع نساء مع طفل واحد، فإننا تقديراً للذكر، لا نقول: رأيناهن، بل: رأيناهم، كون الغَلَبة تكون للذكورة، وفي الأصل كان الرجل قبل أن يكون للمرأة أي وجود، ثم كانت المرأة من خلال وجود الرجل، فوجودها دوماً يقترن بوجود الرجل، ولذلك تبقى تابعة للرجل وتحمل نسبة الرجل، وتكون صيغة الذكورة غالبة على صيغة الأنوثة عند وصفهما معاً. ولذلك قد يكون أعداد النساء أكثر من أعداد الرجال الذين تم وضعهم {عَلَى الأَعْرَافِ}. إذن: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} بعد أن انتهى الميزان، وفرز الناسُ بحسَب أعمالِهم، وقد لبث هؤلاء دون فرز عندما تبين أمام الميزان أن حسناتهم لا تخولهم دخول الجنة، كما أن سيئاتهم لا تؤهلهم دخول النار، فقد تساوَت كفتا ميزان حسناتهم وسيئاتهم، فلا مثقال ذرة زيادة، ولا مثقال ذرة نقصان، فتم وضعهم مؤقتاً {عَلَى الأَعْرَافِ} ريثما يُحسم أمرهم بما يأمر الله تعالى في شأنهم. وفي ذلك الموضع المضطرب، ينظرون تارة إلى أهل الجنة، وتارة إلى أهل النار، {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْـجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46]. ينادون {أَصْحَابَ الْـجَنَّةِ} بأصواتهم، ويسلمون عليهم {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أن {يَدْخُلُوهَا} كَرماً من الكريم بِما لا يستحقونه بأعمالهم، والله دوماً يُطمَع في رَحمَته وكَرَمه. وما يجعل هؤلاء {يَطْمَعُونَ} أن أمرهم لم يُحسَم بعد، أي هناك إمكانية للنجاة من النار، فلا تمسهم لحظة واحدة برغم الحجم الهائل من الذنوب في موازينهم، وبناء على ذلك، فهناك إمكانية لدخولهم الجنة برغم عدم غلبة حسناتهم كفة السيئات ولو بزنة ذرة واحدة، فَكَرم الله جل شأنه يحسم لهم الأمر، وهم يعقدون كل آمالهم على هذا الكرم بانتظار أمر الله سبحانه وتعالى. فكما أن كفة الحسنات وضعتهم على حافة الجنة يرونها بأعينهم، فإن كفة السيئات وضعتهم على حافة النار يرونها بأعينهم، فلبثوا يتأرجحون على الحافتين.

{وَإذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ} [الأعراف: 47]:

وكما أنهم ينظرون إلى أهل الجنة ويمتلئون رغبة وشوقاً لدخولها طَمَعاً برحمة الله، فإنهم ينظرون إلى {أَصْحَابَ النَّارِ} ويتقون دخولها قائلين: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ}. {وَإذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ}. أي: نظروا وهم لا يبتغون أن ينظروا، ولكنهم نظروا فضولاً واستطلاعاً كَمَن يسترق نظرة سريعة خاطفة إلى شيء ويعاود بسرعة. ولعل في هذا الصرف بذاته إشارة إلى أنهم وضعوا احتمال دخول النار إلى جانب احتمال دخول الجنة، ولذلك {قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ}. فكان النظر السريع فقط لرؤية الحال استناداً إلى شعورهم بإمكانية الانضمام إلى تلك الحال، فلم ينادوهم، ولم يسلموا عليهم كما فعلوا عندما نظروا إلى {أَصْحَابُ الْـجَنَّةِ} وتمنوا دخولها، وطمعوا برحمة الله لتحقيق أمنية الدخول، بل {قَالُوا} اتقاءً: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا} أي لا تساوينا {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ}، ولا تضمنا إليهم.

{وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف: 48]:

يحدث أن يتعرف {أَصْحَابُ الأَعْرَافِ} على أناس {يَعْرِفُونَهُمْ} بملامحهم، فيقولون لهم: {مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}. أي مهما كانت تجمعاتكم كبيرة، ومهما حشدتم من أناس في تجمعاتكم التي استكبرتم فيها على آيات الله، اليوم تبين أنه {مَا أَغْنَى عَنكُمْ} ذلك كله بشيء. فمئة شخص يتواضعون لله ويؤمنون بوحدانيته ويعملون صالحاً، هم خير من ألف يفسدون في الأرض. فعدد قليل من الأشخاص مثل تاجر، وطبيب، ومزارع، ووجيه، وحِرَفي، وعامل، وما إلى ذلك يتفقون ويتعاونون فيما بينهم على أفعال الخير والصلاح لوجه الله تعالى، مثل إنشاء جمعية خيرية تُعنى بتأمين رواتب ولو منخفضة لأهل الحاجة، أو بناء مشفى خيري، أو فتح صيدلية خيرية، أو الاتفاق مع مخبز لتأمين الخبز لعائلات فقيرة، أو تزويد أهل الحاجة بمواد تموينية، وأحياناً يقوم بعض الخيرين سواء بتخصيص حصالة يضعون فيها ما باستطاعتهم على مدار عدة شهور، ثم يوزعون ما قد تجمع من المال فيها على أهل الحاجة. فَمِن الناس مَن يملك سلسلة محال لبيع اللحوم، أو يملك أبنية لعيادات طبية، أو سلسلة مخابز، أو محال لمواد تموينية، أو ما شابه، لكن منظر فقير لا يحرك فيه ساكناً، ولا شيء يعنيه سوى تكديس الأموال حتى لو كان ذلك على حساب احتكار لقمة عيش فقير. فهؤلاء لا يغنيهم كل ذلك بشيء مهما كثرت أعدادهم وأموالهم، ولكن الذي فيه نفع، هو ذلك الشخص الذي عندما يتناول لقمة لحم طيبة يتذكر المحتاج الذي لا يستطيع أن يبتاع اللحم، فيتحرك فيه ساكن، ويبتاع دابة، ثم يقسم لحمها في أكياس، ويوزعها على المحتاجين حتى يأكلوا كما أكل، فبذلك يكون قد شكر الله على ما أطعمه من لقمة طيبة، ولأنه ليس أكرم من الله، فإن الله الذي ينظر إلى صَنيعه يُضاعف له في العطاء. وهذا يأتي إلى سائر ما يمكن للإنسان المقتدر أن يقدمه لأخيه الذي به عوز، فهو يشعر بالآخر، ويتآزر معه لوجه الله تعالى، فهذه المواقف الإنسانية يراها عند الله، ويُعامَل بمثل ما عامَل. فأولئك ما أغنى عنهم جمعهم، وما أغنت عنهم أموالهم، ذلك أنهم كانوا يستكبرون على الناس، ويتعالون عليهم. فالناس يحتاجون إلى جمعيات خيرية تعزز فيهم مشاعر الألفة والتحاب. فاعلم أن الأولوية في أي مهنة مكنك الله منها هي للإنسان، وأن أي مال خلا من نصيب الفقير فيه هو مال منزوع البركة، فلا نفع في مال تجنيه من خلال إلحاق الضر بإنسان. فطبيب عديم الخبرة يرى الناس يموتون نتيجة خبرته المتدنية في العلاج، ولا يحرك ذلك فيه ساكناً، ولا يفكر أن يطور خبرته، أو يعاقب نفسه بالتوقف عن العمل شهراً، لأنه ينظر إلى الأمر من منظور مادي يفوق المنظور الإنساني، وصيدلاني يتسبب في إلحاق الأذى بالناس نتيجة أخطاء يرتكبها في إعطاء الأدوية الموصوفة في الوصفة الطبية، ولا يحرك ذلك فيه ساكناً. فاتقان العمل من العبادة، لأن الجودة تنتج من خلال الإتقان، فلا يكون الدافع من خلال أي عمل هو الأخذ، بل الأخذ وفق جودة العطاء.

 {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْـجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: 49]:

استئناف لنداء {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم} [الأعراف: ٨٤]، {أَهَؤُلاءِ} الفقراء {الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ}. هاهم {هَؤُلاءِ} قد نالهم {اللَّهُ بِرَحْمَةٍ}. وجاءت {أَ} سابقة {هَؤُلاءِ} تقريعاً وتعجيباً في الوقت ذاته، كَمَن يقول لك كلاماً مجحفاً بحق شخص طيب ويقسم على ما يقول، فتقول بتعجب: أتقصد فلاناً؟! وهذه هي المظاهر التي تعمي الناس عن الحقائق، وذلك منبته الاستكبار، حتى إن البعض لا يتنازل أن يقف بسيارته ليوصل فقيراً يمشي في الشمس لأنه لا يملك أجر الركوب، وقد يتجاهل أنه رآه حتى لا يسلم عليه، بل إذا رآه الفقير في مكان ما وألقى عليه السلام، تراه إما يُظهر أنه لم يسمع، أو يرد ببرود، لأنه يعتقد أن معرفته الوثيقة بفقير هي انتقاص من شأنه. وبالوقت ذاته فإنه لو رأى غنياً أو وجيهاً في مكان ما، فتراه يقف، ويقدم نفسه إليه، ويعرض عليه خدماته. فإذا نظرنا إلى سيرة رسول الله #، نراه كان يعتني بالفقراء ولم يكن يميز نفسه عندما يكون جالساً مع أصحابه، حتى إذا دخل شخص غريب لم يعرف من هو رسول الله # من الجالسين حتى يسأل، وكان إذا مر بالصبيان يسلم عليهم، وكان يلبي طلبات الناس، ويتواضع لهم، وذات يوم عندما رأى شخصاً أتى إليه وقد ارتعد من هيبته، قال: «هون عليك فلستُ بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد». {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} فهاهم {هَؤُلاءِ} الذين لم يكونوا يعجبون المستكبرين ينالون المقامات الرفيعة عند الله، في حين مُني المستكبرون بالخزي والعار والذل. {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} ها قد نالهم الله {بِرَحْمَةٍ} ونحن نراهم بأعيننا يرفلون في نعيم الجنة، كما نراكم بأعيننا تتقلبون في سعير النار. إلى هنا وقد انتهى كلام {أَصْحَابُ الأَعْرَافِ}، ليجيء أمر الله بشأنهم: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ}. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أصحاب الأعراف قوم ينتهى بهم إلى نهر يقال له الحيوان، جانباه قضب الذهب مكلل بالدر، فيغتسلون فيه ويخرجون وفي نحورهم شامة، فيعودون فيغتسلون فيزدادون بياضاً وحسناً، فيقال لهم: تمنوا، فيتمنون ما شاؤوا، فيقال لهم: لكم سبعون ضعفاً، فهم مساكين أهل الجنة».

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْـجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْـمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: ٠٥]:

يبدو أن الأمر قد حسم بشأن {أَصْحَابُ الأَعْرَافِ}، فلم يعد لوجودهم عَلَى الأَعْرَافِ ذكر، وقد تحول ذلك الوقوف إلى شيء من الماضي، فتستأنف الآية المرحلة الجديدة التي لم يبق فيها أحد خارج الجنة أو خارج النار: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْـجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْـمَاءِ} وكلمة {أَفِيضُوا} تبين مدى الحاجة القصوى إلى {الْـمَاءِ} أولاً أو {مِمَّا رَزَقَكُمُ}فعندما تكون عطشاناً تطلب بعض الماء لتشربه، أما إذا كنتَ في عطشٍ شديد، وبالوقت ذاته تكون محفوفاً بالنار المشتعلة بك، فعندها تطلب فيضاً {مِنَ الْـمَاءِ} من أجل إطفاء النار، لأن فيض الماء يَتَمَكن من النار ويُطفئها. فلم يطلبوا شربة {مِنَ الْـمَاءِ}، بل: يا {أَصْحَابَ الْـجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْـمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إنَّ اللَّهَ}. فإن أول شيء طلبوه هو الماء لكونه يطفئ النار، وينهي الحرارة المرتفعة، ويروي العطش. ثم لم يركزوا على شيء بعينه، بل {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} فتكون إجابتهم: {إنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}.

إن أصحاب الأعراف هم أناسٌ آمنوا بصدقٍ، دون أن يُنافِقوا أو يُشركوا بالله، ويؤدون فرائض الإيمان، لكن من الطرف الآخر، فإنهم يرتكبون المعاصي والأوزار، حتى إنهم يصبحون موضع شك بالنسبة لبعض المسلمين، بل إن البعض من أهل الفتيا الذين لم تنفتح ذهنيتهم على سعة الدين، ولم يستطيعوا أن يقرأوا القرآن قراءات استنارية، يجتزئون الآيات والأحاديث ويخرجونها من سياقها التشريعي العام، فيُقبلون على تكفير هذه النماذج من الناس، ويفتون في حقهم بما يمكن أن يلحق بهم الأذى استناداً إلى وقفة الغلو الضيقة التي حصروا أنفسهم فيها من سِعَة ورحابة الدين.

وإذا نظرت إلى إيقاع حياة هؤلاء بتدبر في السورة، سيتضح لك أنهم يعيشون حالة قلق وعدم استقرار، ولذلك مفرزاته، مثل وخزات الاضطراب التي يعانونها، وأشكال القلق النفسي التي يعيشونها، وعلقم الازدواج الذي يتجرعونه. فهم في حالة قلق نتيجة الشتات الذهني، وعدم حسم موقفهم من المعاصي برغم أنهم تطهروا بطهارة الدين، وتخلصوا من رجس الكفر. فعليك أن تفرز هذه الفئة في صنف خاص بها، لأنه ليس كل من يخطئ، ينتمي إلى هذا الصنف، فالمؤمن يخطئ ويرتكب الذنوب، وقد تبدر منه خطيئة في موقف ما، غير أن موازين الطاعة راجحة على موازين العصيان. ذلك أن الله تعالى غفور قولاً وفعلاً، قولاً بأنه أخبر الناس بأنه غفور، وفعلاً أن الناس ينالون بركات مغفرته. ومن بركات مغفرة الله أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والسيئة تمحوها الحسنة؛ لذلك فإن زِنة تلك الذنوب المنخفضة، قياساً مع زنة الطاعات المرتفعة، تُذهِب عن الإنسان تلك الذنوب كما لو أنها لم تُرتَكَب بموجب مغفرة الله.

والمغفرة لا تقتصر على المؤمنين فحسب، بل هي لعموم الناس دون استثناء، فتشمل الكفار والمشركين حتى وهم في ذروة كفرهم وشركهم، فيمن الله تعالى عليهم بأن يجعلهم في حالات صفاء نفسي في أوقات ما، ويجعلهم يمرون بمواقف مختلفة تؤدي بهم إلى الهداية، فترى نماذج عديدة من الكفار والمشركين تُقلع عن ماضيها المقيت، وتقبل على صفحة إيمانية جديدة مشرقة في حياتها، ومن جهة أخرى، هناك مَن لا يتعظون ولا يستجيبون لمواقف الإيمان التي يمن الله تعالى بها عليهم، ولا تحرك في دواخلهم ساكناً، وما ذلك إلا لتضخم درجات العناد والاستكبار لديهم.

إذن يضعك الله تعالى الآن أمام هذه الفئة المزدوجة في هذه السورة الكريمة ليريك أنها في الآخرة ترى ما كانت عليه في الدنيا، أي في حالة قلق واضطراب، فلم تسلم كل التسليم ليقودها إسلامها إلى الجنة، ولم تذنب كل الذنوب لتقودها ذنوبها إلى الجحيم؛ فهي عندما كانت تؤدي طاعة، كانت بموازاة ذلك ترتكب معصية، وعندما ترتكب معصية، بموازاة ذلك تؤدي طاعة، وفق التساوي الذي لا ترجح معه كفة على أخرى. وإذا كانت السورة الكريمة تقدم لك هذا التساوي في الحسنات والسيئات، فتبين لك أن لا شيء في الكون إلا وقد خلقه الله بشكل منضبط، وذلك حتى تضبط حياتك من خلال هذا الانضباط، ولا تكون مستهتراً بما قد يؤدي إلى خلل في توازن شخصيتك، فتعيش حالة اضطراب في حياتك، ولا تنعم بنسائم الاستقرار النفسي، والصفاء الذهني.

أعلى