أهل القبلة
من دلائل النبوة الدالة على صدق رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وديموميتها في
كل زمان ومكان إخباره بوقوع وحصول حوادث وأحوال وأمور غيبية لا مجال للعقل في
توقعها ولا يمكن تخرصها ولو على سبيل الفرضية، ففي وقت كانت راية الإسلام تتمدد في
ربوع الجزيرة العربية وتنتقل إلى الآفاق، وكان التآزر والتعاضد والاجتماع بين
المؤمنين في أوج قوته وحيويته، وزمن الافتراق والتشرذم قد ولى بغير رجعة بعد أن هذب
الإسلام أخلاق أتباعه وحولهم من مجتمع يتعامل بمنطق القوة والغلبة إلى أمة تسودها
الرحمة والعدل؛ أخبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستنقسم إلى أحزاب
وجماعات فعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بني
إسرائيل افتَرَقَتْ على إحدى وسبعين فرقةً، وإن أمَّتي ستفترق على ثنتين وسبعينَ
فرقةً، كلها في النار؛ إلا واحدة، وهي الجماعة»[1].
وقد يكون من أسباب هذا التشرذم انتشار بعض الأمراض القلبية التي أصابت الأمم
السابقة، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيصيب أمتي داء الأمم،
قالوا: يا نبي الله، وما داء الأمم؟ قال: الأشر والبطر، والتكاثر والتشاحن في
الدنيا، والتباغض، والتحاسد حتى يكون البغي ثمّ الهرج»[2].
وكل مجتمع أو أمة يصاب بهذه المهلكات يصبح فريسة سهلة لمن يتربص به ويطمع فيه ليسلب
ما في يديه ويحول مجده إلى خراب ودمار، وهذا مصداق ما ورد في حديث ثوبان قال: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ
مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا». قَالَ: قُلْنَا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «أَنْتُمْ
يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ
الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيُجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنُ».
قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ
الْمَوْتِ»[3].
وتعيش أمة الإسلام اليوم فترة من أحلك وأسوأ أيامها مقارنة بفترات سابقة لبّدت
سحابة سوداء في أجوائها، وأورثت مآسي كثيرة، لأن التفرق والتشرذم بلغ مستوى قياسياً
لم تبلغه الأمة من قبل.
ولأجل تذكير الأمة بماضيها الجميل والعودة إلى منبعها النقي الصافي، والترفع عن
الخلافات الثانوية والحزبية والفئوية، والبحث عن حلول جذرية بين الفرقاء في إطار
الدائرة الكبيرة للإسلام، التي تتسع للجميع ولا تقصي أحداً، وتجمع المسلمين في بناء
واحد، نحاول إلقاء الضوء على مفهوم «أهل القبلة»، حتى يتسنى لنا ردم بعض الهوة
الموجودة بين المسلمين.
وأهل القبلة هم من يؤمنون بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم
نبياً ورسولاً، وبالقرآن كتاباً، وبالكعبة قبلة، ويؤمنون بالبعث والنشور والحساب
والجنة والنار، وغير ذلك مما له علاقة بمجمل قواعد الإسلام وكلياته.
يقول الإمام الطحاوي: «ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي
صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ
ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ، وَذِمَّةُ
رَسُولِهِ، فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ»[4].
والمراد بقوله: «أهل قبلتنا»، من يدعي الإسلام ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل
الأهواء، أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه
وسلم.
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: «فيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن
أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك»[5].
وقد ورد في هذا المفهوم أحاديث كثيرة منها: حديث عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا،
وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكُمُ الْمُسْلِمُ»[6].
عَنْ عَائِشَةَ، أوَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ اشْتَرَى كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ
سَمِينَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، فَذَبَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ
أُمَّتِهِ، لِمَنْ شَهِدَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ،
وَذَبَحَ الْآخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَعَنْ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم[7].
وعن أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا
فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله»[8].
قال حميد الطويل قال سأل ميمون بن سياه أنس بن مالك قال يا أبا حمزة ما يحرم دم
العبد وماله فقال من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل
ذبيحتنا فهو المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم (البخاري).
إذن فأهل القبلة هم من توفرت في حقهم شروط دخول الإسلام ولم يأتوا ما يناقض الإسلام
من أقوال وأفعال، ولم يثبت في حقهم عذر الجهل أو النسيان أو الفهم المغلوط أو
الإكراه أو التأويل المعتبر أو غير ذلك من الأسباب المانعة من حكم التكفير.
ولأجل عظمة كلمة التوحيد ومكانتها في الإسلام عظم الإسلام من شأن كل من نطق بهذه
الكلمة وأجرى الحكم على ظاهره من غير الدخول في باطنه وقلبه وحماه بسياج من الحصانة
والتقدير في حياته وبعد مماته، فلم يترك الصلاة عليه بعد وفاته، قال الإمام محمد بن
سيرين: «لا نعلم أحداً من أصحاب محمد ولا من غيرهم من التابعين تركوا الصلاة على
أحد من أهل القبلة تأثماً». وقال الإمام إبراهيم النخعي: «لم يكونوا يحجبون الصلاة
عن أحد من أهل القبلة». وقال الإمام عطاء بن رباح: «صل على من صلى إلى قبلتك». وقال
أبو إسحاق الفزاري: «سألت الأوزاعي وسفيان الثوري هل تترك الصلاة على أحد من أهل
القبلة وإن عمل أي عمل؟ قال: لا». وقد روي مثل هذا عن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي
ثور وأبي عبيدة.
ولا يفهم من قول الأئمة «وإن عمل أي عمل» أنه حتى لو عمل ما يناقض أصول التوحيد
ويخرج صاحبه من الملة، كما يعتقد كثير من عوام المسلمين أنه من دخل الإسلام لا يخرج
منه ولو ارتكب المكفرات، ولعل المقصود من كلام الأئمة هو من مات ولو كان مصراً على
الكبائر من غير توبة ولا استحلال لها امتثالاً للحديث القدسي: «من لقيني بقراب
الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بقرابها مغفرة».
ولم يكن من عادة السلف الاستسهال والتسرع في توصيف الكفر والشرك لمن ثبت إسلامه
بيقين، وكانوا يتحاشون ذلك حماية لجانب التوحيد، ومما يدل على ذلك ما رواه الإمام
اللالكائي في شرح أصول السنة بسنده أن سليمان بن قيس اليشكري سأل جابر بن عبد الله:
أفي أهل القبلة طواغيت؟ قال: لا، قلت: أكنتم تدعون أحداً من أهل القبلة مشركاً؟
قال: لا.
وقد يحمل هذا الكلام أن كل من تلبس ببدعة غير مكفرة ولا مخرجة من الملة ولو استمر
في تعاطيها مع الحفاظ على الصلاة وأداء الواجبات واجتناب المنهيات لا يطلق عليه لفظ
مشعر بذلك، لأن ألفاظ الشرع لا يجوز استعمالها إلا فيما وضعت له مع تحقق المناط
وانتفاء الشروط، وهذا ما كان يؤكده أئمة السلف من قبل، عن أبي سفيان قال: «قلت
لجابر بن عبد الله: كنتم تقولون لأهل القبلة: أنتم كفار؟ قال: لا، قلت: فكنتم
تقولون لأهل القبلة أنتم مسلمون؟ قال: نعم».
وقد ابتلي المسلمون منذ زمن بعيد بالخلاف والافتراق والتنازع حتى وصل بهم الحال أن
سلَّ بعضهم على بعض السيف، واعتدى على المحرمات بسبب تأويلات فاسدة أو شبهات أوهى
من بيت العنكبوت، بل انتهى بهم الأمر إلى التكفير والتفسيق من غير ما سبب شرعي
يُجَوِّز ذلك.
ولكي يستعيد المسلمون قوتهم ومكانتهم بين الأمم يجب عليهم العودة الصحيحة إلى ما
كان عليه الجيل الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم في تمسكهم وامتثالهم للكتاب
والسنة.
وإحياء مبدأ ومدلول أهل القبلة ضروري للأمة، وخاصة في هذا الزمان الذي تفرقت فيه
الأمة إلى كيانات وأحزاب يعادي بعضها بعضاً، ووصل التنابز بالكفر وملحقاته مبلغاً
لم يبلغه من قبل، وأصبح الإسلام غريباً بين أهله والمنتسبين إليه.
ولأجل حفظ ورعاية مصطلح أهل القبلة والمنتمين إليها لم تتوقف مقالات العلماء في
التحذير من مغبة التسرع في إطلاق كلمة الكفر مهما كان الأمر ما لم يكن هناك بينة لا
لَبْس فيها ولا شبهة، إعمالاً لحديث: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»[9].
ويقول الإمام الذهبي: «رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي: سمعت
أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب أجل أبي الحسن الأشعري
في داري ببغداد دعاني فأتيته، فقال: أشهد علي أني لا أكفر أحداً من أهل القبلة، لأن
الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف في العبارات»، وعلق الذهبي عليها
قائلاً: «وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: لا يحافظ
على الوضوء إلا مؤمن، فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم».
وأما تكفير كل من وقع في بدعة من دون تمحيص أو تحقيق لم يقل به أحد ممن يُعتَد
بقوله من العلماء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «والعلماء قد
تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار وما من الأئمة إلا من حكي
عنه في ذلك قولان كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعض أتباعهم يحكي هذا النزاع
في جميع أهل البدع وفي تخليدهم، حتى التزم تخليدهم كل من يعتقد أنه مبتدع بعينه،
وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى».
وكما قرر العلماء عدم صحة قول من قال أن الكفر لا يلحق من أتى بمكفر لا شبهة فيه
قال شيخ الإسلام: «وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يطلق كفر أحد من أهل الأهواء وإن
كانوا أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والإلحاد».
وقد اعتبر أهل العلم التفريق بين الحكم على جنس القول والفعل والقائل، فيوصف في
الأول حكم الكفر مطلقاً، دون الثاني، ولذا قال الإمام ابن تيمية: «لكن تكفير الواحد
المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه».
ويقول الإمام البربهاري: «ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يَرُدَّ آية
من كتاب الله عز وجل أو يرد شيئاً من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يصلي
لغير الله أو يذبح لغير الله، وإذا فعل شيئاً من ذلك فقد وَجَبَ عليك أن تخرجه من
الإسلام، فإذا لم يفعل شيئاً من ذلك فهو مؤمن ومسلم بالاسم لا بالحقيقة».
ولا تعني الدعوة إلى جمع شمل المسلمين جميعاً تحت راية ومدلول أهل القبلة التنازل
عن ثوابت الإسلام أو التهوين من العقيدة الصحيحة أو الرضا بالإساءة إلى مقامات
العظماء من الصحابة أو التغافل والتغاضي عن البدع والخرافات وقبولها، أو التساهل في
بيان الكفر وتطبيق حكمه على من ثبت في حقهم، أو غير ذلك مما له علاقة بأحكام
الإسلام وقواعده الكلية، بل المراد من هذه الدعوة الخروج من الضعف والتشتت الذي
يعاني منه جمهور المسلمين في كل أصقاع الأرض، والتمسك بحبل الإسلام من غير تفريط
ولا إفراط، والانشغال بالاجتماع على الأصول، وعدم الانجرار وراء مسائل فرعية تتسع
للجميع، وتقديم مصلحة الدين والأمة على مصلحة المذهب أو الطائفة، لكي يستعيد
الإسلام رونقه ويستعيد المسلمون مكانتهم بين الأمم، ليتحقق فيهم قول الباري:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}
[آل عمران: 103].
[1] سنن ابن ماجه، حديث صحيح.
[2] صحيح الجامع.
[3] مسند الإمام أحمد.
[4] مسند الإمام أحمد.
[5] فتح الباري (1/592).
[6] سنن النسائي، صحيح.
[7] سنن ابن ماجه، صحيح.
[8] صحيح البخاري.
[9] صحيح البخاري.