• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أكل الحلال وحلاوة المناجاة

أكل الحلال وحلاوة المناجاة

يقال: إن الحَجَّاج بن يوسف لما ولي العراق، وكان أهله لا يتولى عليهم أحد يشوش عليهم إلا هلك سريعاً بدعائهم عليه، فأمرهم الحجاج أن يأتي كلُّ واحد منهم ببيضة دجاجة، ويضعها في صحن الجامع، وأراهم أن له بذلك ضرورة، فاستخفوا ذلك منه ففعلوا، ثم أمرهم بعد ذلك أن يأخذ كل واحد عين بيضته، وأراهم أن قد بدا له الرجوع عمَّا أراده، فلما أخذوا ذلك لم يعلم كل واحد منهم عين بيضته، فلما علم الحجاج أنهم تصرفوا في ذلك مدَّ يده إليهم، فدعَوا عليه على عادتهم فمُنِعوا الإجابة[1].
قال ابن الحاج (ت 737هـ) معلقـاً على تلك الحادثة -: «ولأجل هذا المعنى كَثُرت المظالم اليوم، وكثر الدعاء على فاعلها وقلَّت الإجابة أو عدمت... فلو سلم بعضهم من مثل هذه الحال، ودعا لاستجيب له عاجلاً»
[2].

ولقد احتفى أهل السُّنة بأكل الحلال تقريراً وتحقيقاً، حتى أثبتوه في عقائدهم. يقول الفضيل بن عياض: «إن لله عباداً يحيي بهم البلاد والعباد، وهم أصحاب سنَّة، من كان يعقل ما يدخل جوفه من حِلِّه كان في حزب الله، تعالى»[3].

قال ابن رجب معلقاً على عبارة الفضيل: «وذلك لأن أكل الحلال من أعظم الخصال التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه»[4].

ووصف شيخ الإسلام الصابوني أهل الحديث والسُّنة أنهم يتواصون بالتعفف في المآكل والمشارب والمنكح والملبس، وكذا قرره قِوام السُّنة الأصفهاني[5].

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله - تعالى - أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: «{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِـحًا} [المؤمنون: 51]، وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا ربِّ يا ربِّ! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي الحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟»[6].

ومن شروحات ابن رجب لهذا الحديث قوله: «مِنْ أعظم ما يحصل به طيبة الأعمال للمؤمن طيب مطعمه، وأن يكون من حلال، فبذلك يزكـو عمله... وفي الحديث إشارة إلى أنه لا يُقبَل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله... فالرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، وبالعمل الصالح؛ فما دام الأكل حلالاً، فالعمل صالح مقبول، فإذا كان الأكل غير حلال، فكيف يكون العمل مقبولاً؟»[7].

والمقصود أن على الداعي أن يتحرى أكل الحلال، ويتورَّع في مطعمه ومشربه؛ فإن هذا من آكد آداب الدعاء، بل هو من شروط الدعاء المستجاب[8].

إن من أجلِّ آداب الدعاء: إظهارُ الافتقار إلى الله، والانطراح والانكسار بين يديه، سبحانه. وكما قال سهل التستري: «ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار»[9].

وكلما ازداد الشخص عبودية وافتقاراً إلى الله، ازداد كماله وعَلَت درجته؛ فأكرم ما يكون العبد على الربِّ - سبحانه - أحوج ما يكون إليه، وأما الخلق فأهون ما يكون عليهم الشخص أحوج ما يكون إليهم[10].
فمن أعرض عن الدعاء والافتقار والإلحاح على الله، فإنه يشتغل بمسألة الناس، ويُقْبِل على التذلل لهـم... فيرتكـب ثلاث مفاسد: مفسدة الافتقار إلى غير الله، ومفسدة إيذاء المسؤول، ومفسدة امتهانه لنفسه، وذله لغير الله
[11]
.

قال ابن تيمية: «وقد جرَّب الناس أن من لم يكن سائلاً لله سأل خلقه، فإن النفس مضطرة إلى من يُحصِّل لها ما ينفعها، ويدفع عنها ما يضرها؛ فإن لم تطلب ذلك من الله طلبته من غيره»[12].

وهذ حال بعض شيوخ الصوفية الذين يتركون الدعاء استكباراً وغروراً، ويدَّعون الاستغناء عن اللجأ إلى الله - عز وجل - ثم آخر حالهم يعكفون على أبواب الظَلَمة، ويقتاتون من مكاسب خبيثة.
وقد وصف ابن تيمية أولئك الشيوخ بقوله: «هكذا شيوخ الدعاوى والشطح، يدَّعي أحدهم الإلهية، وما هو أعظم من النبوة، ويعزل الربَّ عن ربوبيته، والنبيَّ عن رسالته، ثم آخرته شحَّاذ يطلب ما يقيته، أو خائف يستعين بظالم على دفع مظلمته، فيفتقر إلى لقمة، ويخاف من كلمة؛ فأين هذا الفقر والذل من دعوى الربوبية المتضمنة للغنى والعزِّ؟»
[13]
.

وفي غمرة الغفلات المتتابعة، وحظوظ النفس المتشعبة، وصخب الحياة الجسدية، فإن النفس لا تنفك عن الجهل والظلم، وحينئذٍ يعتدُّ الأشخاص بقدراتهم، ومواهبهم التي امتن الله بها عليهم، ويركنون إلى حولهم وقوَّتهم، ويدَّعي أحدهم بلسان الحال أو المقال أنه «العملاق» أو «سوبر مان».

بل إن اعتداد الشخص وثقته بنفسه وطاقته بعُجَرها وبُجَرها قد استحوذ على فئام من الدعاة، فلا تكاد تخطئ عينك كثرة الدورات والندوات في هذا الشأن؛ وغرق القوم في الالتفات والاعتماد على الأسباب الظاهرة المحسوسة، بل تجاوزوه إلى تعلُّق بأسباب مثالية موهومة. وأعقب ذلك ما نكابده من ضعف الأحـوال الإيمـانية: من الإخبـات والخشوع والإنابـة إلى اللـه - تعالى - بل ربما غاب ما يتعين استصحابه من فقرنا وفاقتنا، وضعفنا ومسكنتنا، وعجزنا وتفريطنا في جنب الله.

والناظر إلى الأئمة الأعلام لدى أهل الإسلام والسُّنة، وسيرهم وأحوالهم، لا تكاد تجدهم إلا أصحاب إخبات وانطراح بين يدي الله - تعالى - واعتراف بالذنب والتقصير، ويقين بالفاقة إلى الغني الحميد، سبحانه. فرحمة اللهِ على تلك الأرواح، لم يبقَ منهم إلا الأشباح.

وقدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول: «سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب


 
[1] انظر: المدخل، لابن الحاج: 2/355.

[2] المدخل: 2/355.

[3] أخرجه أبو نعيم في الحلية: 8/104.

[4] كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة: ص 2.

[5] انظر: عقيدة السلف للصابوني: ص 297، والحجة للأصفهاني: 2/528.

[6] أخرجه مسلم.

[7] جامع العلوم والحكم: 1/260 = باختصار.

[8] انظر: الدعاء ومنزلته من العقيدة لجيلان العروسي: 1/183.

[9] انظر: مجموع الفتاوى: 10/108.

[10] انظر: العبودية لابن تيمية: ص80، وقاعدة في توحيد الألوهية لابن تيمية.

[11] انظر: قاعدة جليلة في التوسل: ص 66.

[12] الرد على الشاذلي: ص 11.

[13] منهاج السُّنة النبوية: 7/209.

أعلى