مسلمو النمسا.. بوصلة جديدة في الغرب
أصبحت النمسا بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة وما صاحبها من صعود بارز لمرشح اليمين المتطرف الدولة الأبرز في تحديد ملامح مستقبل الصراع السياسي في دول الاتحاد الأوربي بشكل خاص، والقارة الأوربية بشكل عام، لاسيما فيما يتعلق بوضع المسلمين هناك ومدى قدرتهم على أن يكونوا رقماً فاعلاً في توجيه دفة القرار في الغرب.
فقد شهدت الانتخابات النمساوية التي جرت نهاية العام الماضي متغيراً جديداً يعكس صعود نفوذ اليمين المتطرف الذي نجح في دفع مرشحه عن حزب الحرية نوربرت هوفر لتحقيق 47% من الأصوات، وهي نسبة عالية برغم هزيمته أمام منافسه ألكسندر فان دير بيلين زعيم حزب الخضر السابق الذي فاز في هذه الانتخابات بـ53%.
ويشير الفارق الطفيف بين المرشحين إلى بروز كتلة المسلمين في النمسا كلاعب مؤثر في توجيه مسار المشهد السياسي، حيث يبلغ عدد المسلمين ٦٠٠ ألف نسمة، ما يمثل أكثر من 6% من عدد المواطنين في البلاد، وهي نسبة رجحت كفة «دير بيلين» على حساب مرشح اليمين المتطرف، في ظل الحشد الواضح من جانب المسلمين في هذه الانتخابات لمنع وصول «هوفر» لرأس السلطة.
المسلمون كتلة انتخابية صلبة أسقطت مرشح اليمين المتطرف
خلال الانتخابات الرئاسية في النمسا ظهر المسلمون ككتلة صلبة للتصدي لليمين المتطرف هناك على ضوء المواقف والتصريحات الصادرة من جانب قادته تجاه المسلمين بزعم أنهم يمثلون خطراً على مستقبل وهوية البلاد، لاسيما فيما يخص قضية اللاجئين، والتي كانت محور انقسام كبير أيضاً بين البلدان الغربية، وذريعة لباقي أحزاب اليمين المتطرف لإثارة مخاوف الشعوب.
وبرغم أن مواقف اليمين المتطرف لاقت تأييداً من قطاعات واسعة، وظهرت انعكاساتها في هذا الصعود اللافت لمرشح حزب الحرية في الانتخابات النمساوية، إلا إنها أوجدت في المقابل حالة من الوعي السياسي لدى المسلمين لتشكيل تلك الكتلة الانتخابية الصلبة التي تمكنت من تغيير مسار المشهد الانتخابي.
كما مثلت تلك التجربة الحية نموذجاً متوقعاً في الانتخابات المقررة هذا العام في هولندا وفرنسا وألمانيا، سواء من حيث صعود اليمين المتطرف أو زيادة فرص المسلمين ككتلة انتخابية مؤثرة، في ظل التقارب الواضح بين نسب المسلمين في النمسا، والدول الأخرى الفاعلة في الاتحاد الأوربي.
لكن برغم أهمية تلك الكتلة التصويتية في الانتخابات الرئاسية كما ظهر مؤخراً في النمسا، إلا إن هذه الكتلة لا تبدو قادرة على مواجهة حملات أخرى منظمة ضد المسلمين في التشريعات الصادرة عن برلمانات الدول الغربية، وذلك بسبب تشتت أصوات تلك الكتلة في الانتخابات التشريعية التي تجري بحسب التقسيم الجغرافي للمدن والمحافظات والولايات، وهو ما يمثل صعوبة بالغة في حشد نسبة كافية لترجيح كفة عشرات المرشحين أو بالأحرى إسقاط مرشحي أحزاب اليمين المتطرف في كل أنحاء الدولة بكتلة تصويتية مؤثرة.
انطلاقاً من هذه النقطة، تلوح في الأفق أداة التشريع كرأس حربة لليمين المتطرف لإحداث أكبر ضرر ممكن بالمسلمين، بالتوازي مع الحملات الإعلامية لتشويههم وتسهيل تمرير قوانين تحظى بتأييد قطاعات واسعة من الشعب.
التشريعات ضد المسلمين تهدد تعايشاً دام قرناً من الزمان
على مدار السنوات الماضية شهدت النمسا سلسلة من التشريعات التي استهدفت المسلمين بشكل خاص، وهو ما يعكس تحولاً خطيراً في السلم المجتمعي الذي اتسمت به هذه الدولة على مدار أكثر من مئة عام، كانت خلالها في مقدمة البلدان الأوربية في التعامل القانوني المنفتح على الدين الإسلامي والمسلمين، لاسيما بعد صدور «قانون الإسلام» عام 1912.
في هذا السياق، أعربت الهيئة الإسلامية الرسمية في النمسا في 4 فبراير الماضي عن قلقها من تفاصيل تعديلات «قانون الاندماج» التي قدمها وزير الخارجية والاندماج المنتمي لحزب الشعب المحافظ، سباستيان كورتس، في برنامج الحكومة المعدل.
وحذر إبراهيم أولجون رئيس الهيئة من «القوانين الملتوية» التي تستهدف المسلمين، مؤكداً أن «حرية الدين غير قابلة للتفاوض»، وذلك في إشارة إلى عبارات غير واضحة في تعديلات قانون الاندماج مثل «التزام الحيادية».
واعتبر في تصريحات نقلتها وكالة أنباء الشرق الأوسط أن الهدف من تلك العبارات هو منع ارتداء الحجاب في وظائف القضاء والمدعين العموم والشرطة، وهو التطور الذي يحرم المسلمات المحجبات من العمل في هذه الوظائف.
وقال أولجون: «إن الاندماج لا يجب أن يتضمن سياسة إقصاء تمييزية ضد السيدات المسلمات»، معرباً عن إدانته لهذه السياسة التي اعتبرها تحتوي على «إشارات الإخضاع ضد المحجبات»، في إطار مغازلة اليمين الشعبوي والاستجابة للمخاوف القائمة وحالة الاستياء ضد الإسلام، وذلك في إشارة إلى سعي الحزب المحافظ إلى تحقيق غايات سياسية ومكاسب انتخابية على كاهل الجالية الإسلامية، استعداداً للانتخابات البرلمانية المقبلة.
وفي السياق نفسه، بدأ المركز الإسلامي في العاصمة فيينا بالتنسيق مع العديد من الروابط والجمعيات الإسلامية جمع توقيعات المسلمين ضد التعديلات المقترحة على «قانون الاندماج»، التي أثارت غضب المسلمين في النمسا، بعدما كشفت تسريبات من الحزب الاشتراكي الحاكم أن الشريك الائتلافي المحافظ لوح بفسخ التحالف الحاكم، في حال عدم الموافقة على التعديل المقترح من وزير الاندماج، وهو ما اعتبره المسلمون تمييزاً صارخاً وصفعة على وجه السيدات المسلمات.
وكان محمد ترهان - رئيس الاتحاد الإسلامي في فيينا قد أشار إلى شكوك في وجود أياد خارجية تحاول انتزاع حقوق المسلمين الذين لا يرغبون بحال أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثالثة، مضيفاً أن الأحزاب النمساوية طرحت على نفسها تساؤلاً إن كان الضغط داخلياً أم خارجياً؟
ورفض ترهان التعامل مع المسلمين بطريقة أمنية، موضحاً أن وقوع خطأ في أي جمعية إسلامية لا يعطي الحق للحكومة بإقفالها، لأنها بذلك تخرق القانون، كما رفض تدخل الدولة في شؤون المسلمين مثل فرض ترجمة واحدة للقرآن الكريم وتعيين مدرسين غير متخصصين لتدريس المواد الإسلامية في جامعة فيينا، دون التشاور مع الجالية الإسلامية.
وأشار إلى أن المسلمين سيتحركون ضمن إطار القوانين للدفاع عن حقوقهم، وأن هناك حملة قامت لرفض القانون.
ومن جهتها، دعت المتحدثة باسم الشباب المسلم في النمسا كانان يسار الحكومة إلى تجنب التمييز ضد المرأة، معتبرة أن قرار حظر الحجاب سيبعث برسالة إلى العديد من النساء في النمسا: «أنكن لا تنتمين إلى هذا البلد.. لا يمكن معاملتكن على قدم المساواة».
وفي يناير من العام الجاري 2017م، ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية أن رئيس حزب الحرية النمساوي هاينز كريستيان شتراخه دعا إلى حظر رموز ما وصفه بـ«الإسلام الفاشي» أسوة بحظر الرموز النازية بالقانون في النمسا.
وحذر شتراخه من أن «الإسلام يمثل تهديداً وجودياً لأوربا»، قائلاً: «دعونا نضع نهاية لسياسة الأسلمة، وإلا فنحن النمساويين والأوربيين سنجد أنفسنا قد قضي علينا فجأة».
وقد سبق هذا الجدل الكبير في المجتمع النمساوي، تشريع آخر في عام 2015م ينظم سبل التعامل مع الإسلام، واختص الأقلية المسلمة بمعاملة لا تنطبق على أي من الجماعات الدينية الأخرى، حيث يحظر القانون الجديد أي تمويل أجنبي للمنظمات الإسلامية، ويقضي بأن تقدم وأن تستخدم أي جماعة تزعم أنها تمثل مسلمي النمسا ترجمة ألمانية للقرآن.
وتمثل هذه التشريعات في مجملها اتساقاً واضحاً مع مواقف اليمين المتطرف المتصاعدة ضد المسلمين، وقدرته على تحريك المشهد السياسي وبث المخاوف لدى المواطنين النمساويين، برغم وجود تاريخ طويل من التعايش والاندماج بين المسلمين وسائر مكونات المجتمع النمساوي.
مخططات عنصرية إقليمية وراء استهداف المسلمين
برز الإسلام في النمسا في أعقاب الحرب العالمية الأولى بعد هجرة مسلمين من أوربا الشرقية إلى هناك، ثم زادت هذه الهجرة بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة من يوغسلافيا وتركيا، قبل قدوم مسلمين من البلدان العربية، ولكن برغم هذا التعايش والقبول المجتمعي للمسلمين، برز مؤخراً تأثير اليمين المتطرف في الدفع باتجاه استهداف المسلمين.
وانعكس ذلك في التشريعات التي بدأت تظهر خلال السنوات الست الأخيرة، تحت بند المخاوف من تأثير المتغيرات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط على الأوضاع في البلاد، وذلك برغم أن التجربة التي يعيشها المسلمون في النمسا بشكل خاص، وفي كثير من البلدان الغربية بشكل عام تكشف عن استهداف ممنهج ضد المسلمين بعيداً عن التطورات الخارجية.
ففي عام 2015م، أصدرت مؤسسة «زارا» وهي إحدى المؤسسات المدنية غير الحكومية التي تقع في العاصمة النمساوية فيينا، وتعمل بمجال مكافحة العنصرية - تقريراً كشف الارتفاع الكبير في حوادث الاعتداء التي يتعرض لها المسلمون في أوربا، وحذَّرت من تبعات الجرائم التي تُرتكب في حق المسلمين وطالبي اللجوء في النمسا.
وأكد التقرير - الذي نقلته شبكة الألوكة الإخبارية - ارتفاع الاعتداءات العنصرية بالنمسا من 731 حالة اعتداء خلال عام 2013م إلى 794 حالة عام 2014م، منوهاً بأن 20% من هذه الاعتداءات تضمَّنت اعتداءات أو إشارات عنصرية في الأماكن العامة، و19% أثناء ممارسة الأعمال الاقتصادية، وأن 61 جريمة وقعت ضد المسلمين خلال عام 2014م.
يمكن من خلال هذا التقرير استنتاج دوافع تحرك المسلمين للدفاع عن وجودهم كمواطنين تعايشوا على مدار قرن كامل دون هذا الاستهداف والتحريض العلني ضدهم سياسياً واجتماعياً، وهو أمر ينطبق على تجارب مماثلة في بلدان غربية أخرى، ويعكس كذلك تحركات من اليمين المتطرف لإلصاق تهم الإرهاب والعنف بهم تحت ذريعة الملفات الخارجية الملتهبة في البلدان المسلمة.
فقبل عامين على انطلاق ثورات الربيع العربي، ظهر للعلن مخطط أعده اليمين المتطرف لاستهداف المسلمين في أوربا عندما أعلن قادة الأحزاب اليمينية في أربع دول أوربية مطلع عام 2008م عزمهم تشكيل حزب قومي أوربي جديد على مستوى القارة الأوربية، وقالوا إن الغرض منه مواجهة ما أسموه بـ«خطر الإسلام».
وكان زعيم «حزب الحرية» النمساوي هينز كرستيان سترش أحد الأطراف الأربعة المشاركة في هذا الاجتماع، إلى جانب زعماء حزب «فلامز بيلانج» القومي البلجيكي، و«الجبهة القومية» اليمينية المتشددة في فرنسا، و«حزب أتاكا» القومي البلغاري، حيث استهدف هذا التكتل استقطاب بقية الأحزاب اليمينية من ثلاث دول أخرى على الأقل، ليتجاوز نسبة العشرين مقعداً المطلوبة لدخول البرلمان الأوربي، لإحياء التكتل اليميني (أي. تي. إس) في البرلمان الأوربي، بعد أن تم حله في نوفمبر عام 2007م عقب انسحاب حزب «رومانيا الأعظم» اليميني منها.
حماية المسلمين.. أداة استقرار للغرب أمام مخططات اليمين المتطرف
كما يمكن تسليط الضوء من خلال هذه التحركات التي تبناها اليمين المتطرف في النمسا مع بلدان غربية أخرى على محاولات لنقل التحريض ضد المسلمين من إطار داخلي لكل دولة، إلى دائرة أوسع تستهدف صناعة قرار أوربي موحد ضد المسلمين، من خلال تشكيل تكتل يهدد كيان الاتحاد الأوربي برمته.
على ضوء ذلك، تفرض تلك التحركات على الأحزاب المناهضة لليمين المتطرف إيجاد أرضية مشتركة مع المسلمين للتصدي لهذا الفكر المتصاعد، ليس فقط من خلال الاعتماد على الكتلة الصلبة للمسلمين في الانتخابات، ولكن أيضاً من خلال حماية المسلمين من التشريعات التي تهدد تعايشهم الآمن في المجتمع وعدم تركهم فريسة لمخططات اليمين المتطرف، وكذلك لتحقيق فائدة أخرى تتمثل في إفشال فرص تكوين تكتلات إقليمية مشتركة لليمين المتطرف واستنساخ تجربة النمسا التي تحولت من التعايش إلى الانقسام المجتمعي بفعل اليمين المتطرف.
فتكرار تلك التجربة في بلدان أخرى أقل تماسكاً في نسيجها الاجتماعي من شأنه توجيه ضربة قاسية للمسلمين في الاستحقاقات التالية في ألمانيا وهولندا، كما هو الحال في فرنسا بعد الصعود الكبير لزعيمة الجبهة الوطنية اليمينية مارين لوبان نحو كرسي الرئاسة، وذلك وسط مناخ مضطرب يهدد بحل الاتحاد الأوربي برمته، خاصة بعد خروج بريطانيا منه، وفوز دونالد ترمب برئاسة الولايات المتحدة، وما يحمله في جعبته من أفكار تخدم توسيع نفوذ اليمين المتطرف من خلال نشر الكراهية والاضطهاد بحق المسلمين.
ومن هنا، تبقى النمسا نموذجاً يمكن من خلاله تحديد بوصلة القرار السياسي في الغرب خلال الفترة المقبلة ما بين الحفاظ على قيم التعايش التي أثبتت نجاحها على مدار قرن، أو الانخراط في مخططات اليمين المتطرف الهادفة إلى إبقاء الصراعات مفتوحة لحصد فوضى جديدة، في وقت أثبت مسلمو النمسا قدرتهم على توظيف الديمقراطية والوسائل السلمية لإثبات بقائهم ككتلة فاعلة مؤثرة في المسار السياسي، لا تسعى فقط للدفاع عن نفسها، وإنما حماية تلك البلدان من عنصرية دمرتها في قرون سابقة.