• - الموافق2024/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مع أصحاب ابن تيمية

مع أصحاب ابن تيمية

مع كثرة خصوم ابن تيمية، وشدة سطوتهم، وفداحة مكرهم، التي طالت أصحاب ابن تيمية ومحبيه، إلا إن له أصحاباً ومحبين لا يحصون، ثم إن ابن تيمية - كما وصفه الذهبي -: «لم يكن من رجال الدُّول، ولا يسلك معهم تلك النواميس»[1]، فأبو العباس فارغٌ من رسوم أصحاب الرياسات وإشاراتهم، والذين يلتفّ حولهم الأتباع فيكثرون وقت الطمع ويغيبون وقت الفزع، لكن أصحاب ابن تيمية يلازمونه في الضراء، ويرافقونه في الاحتساب وإزالة المنكرات، والجهاد في سبيل الله ضد التتار والروافض ونحوهم.

ونحكي شواهد على ذلك أوردها ابن كثير في تاريخه:

ففي سنة 699هـ خرج ابن تيمية في جماعة من أصحابه إلى ملك التتار[2]، كما دار ابن تيمية وأصحابه - في العام نفسه - على الخمارات والحانات فكسروا آنية الخمور، وأراقوها، وعزّروا جماعة من أهل الحانات[3]، وفي سنة 702هـ خرج ابن تيمية وأصحابه لقتال التتار في وقعة شقحب[4]، وفي سنة 704هـ ركب ابن تيمية ومعه جماعة من أصحابه إلى الروافض بجبال كسروان فاستتابوا خلقاً منهم وألزموهم بشرائع الإسلام[5].

والمدهش أن أصحاب ابن تيمية ومحبيه من جميع أصناف المجتمع، ففيهم الأمراء والعلماء والعباد، وفيهم الجند والتجار والمساكين، والخاصة والعامة، وقد استطاع ابن تيمية أن يكسب قلوب هؤلاء فيحظى بحبهم، ويحسن إليهم مع تنوع أحوالهم وتباين مقاماتهم، كما وضّحه الذهبي بقوله: «وله محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً بلسانه وقلمه»[6].

هذا النفع باعثه العلم والعمل بالحق، والرحمة والنصح للخلق، ولذا لما دخل ابن تيمية السجن - في إحدى سجناته السبع - ووجد المحابيس منشغلين بالشطرنج والنرد وتضييع الصلوات، أنكر عليهم وأمرهم بالصالحات ورغّبهم في الخير، فصار السجن خيراً من الزوايا والمدارس، وصار كثير من المحابيس إذا أطلقوا يختارون الإقامة عند ابن تيمية في الحبس[7].

وإذا كان ابن تيمية محل انبهار الأكابر في تعامله مع خصومه، حتى قال بعضهم: «وددتُ أنّي لأصحابي كابن تيمية لخصومه»[8]، فما بالك بتعامله مع أصحابه ومحبيه؟!

وعندما نستصحب الأحوال العصيبة التي كابدها ابن تيمية وأصحابه من سجن وتهديد، وأذى وتخويف، وعزل عن الولايات، وفصل عن الوظائف كما وقع سنة 705هـ، حتى إن قاضي قضاة الأحناف بدمشق تمّ عزله وفصله؛ لأجل أنه انتصر لابن تيمية[9]!

ونتذكر هذه الأحوال المخوفة، والوقائع العصيبة، والحافلة بأنواع البلاء والافتتان، فإن نفوس بعض أصحاب ابن تيمية ومحبيه قد أصابها ما أصابها من عوارض البلاء وآفاته.. ونسوق على ذلك مشهدين مؤثرين يحكيان ويوضحان طرفاً من تلك المعاناة.

أحدهما: حكاه ابن عبد الهادي بقوله: «لما حُبس [ابن تيمية] تفرّقت أتباعه، وتفرّقت كتبه، وخوّفوا أصحابه من أن يظهروا كتبه، فذهب كل أحد بما عنده وأخفاه، ولم يظهروا كتبه، فبقي هذا يهرب بما عنده، وهذا يبيعه أو يهبه، وهذا يخفيه ويودعه، حتى إن منهم من تسرق كتبه، فلا يستطيع أن يطلبها، ولا يقدر على تحصيلها»[10].

ثم إن هؤلاء الأصحاب يظهر عجزهم وحرصهم تجاه كتب ابن تيمية! كما عبّر عنه ابن عبد الهادي بقوله: «فيلتفت [ابن تيمية] إلى أصحابه ويقول: ردّوا خطي وأظهروه لينقل، فمن حرصهم عليه لا يردّونه، ومن عجزهم لا ينقلونه»[11].

والآخر: وهو أشد إيلاماً من الأول، حيث يكشف عما قد تسرب إلى نفوس بعض أصحابه إثر مثالب مكتوبة ضد ابن تيمية، فانتابهم نوع ثلب وتخذيل لإمامهم ابن تيمية، وقد حذّر ابن شيخ الحزّاميين رحمه الله من هذا المكتوب، وكتب في ذلك رسالة طويلة لأصحاب ابن تيمية فكان مما قاله: «وأما من عمل كراسةً في عدّ مثالب هذا الرجل القائم بهذه الصفات الكاملة [يعني ابن تيمية] في هذا الزمان المظلم.. ثم أخذ الكراسة يقرؤها على أصحابه واحداً واحداً في خلوة.. ففي ذلك تخذيل الطلبة، ومتى تغيرّت قلوبهم على شيخهم حُرموا فوائده الظاهرة والباطنة، وكذا إذا شعر أهل البدع أن في أصحابنا من يثلب رئيس القوم، فإنهم يتطرقون بذلك إلى الاشتفاء بأهل الحق ويجعلونه حجة لهم»[12].

ومهما يكن من تخذيل وثلب حاك في قلوب أولئك الأصحاب والأحباب تجاه إمامهم، فإن هذا الإمام الرباني قابل ذلك كله بالعفو والغفران، وسلامة الصدر، فلا عتاب ولا ملام، بل اعتذر لهم، ودعا لهم، وانتصر لهم فكان مما سطّره في هذا الشأن:

«تعلمون أني لا أحبّ أن يؤذى أحد من عموم المسلمين فضلاً عن أصحابنا بشيء أصلاً، لا باطناً ولا ظاهراً، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم أصلاً، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال، والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كل بحسبه»، إلى أن قال: «فيطوى بساط الكلام المخالف لهذا الأصل، كقول قائل: فلان قصّر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه.. ونحو هذه الكلمات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب، فإني لا أسامح من آذاهم»[13].

ثم إن المتأمل في تراجم ابن تيمية وأحوال أصحابه وأعمالهم، يلحظ أن ثمة تراتيب مهيأة لهؤلاء الأصحاب، هي تشبه إلى حدّ ما التنظيمات المعينة وما يصحبها من تحركات محددة، فالذين ترجموا لابن تيمية من أصحابه، نجدهم يطلقون لفظ «الجماعة» على أولئك الأصحاب، كما صنع الغياني[14]، وعلم الدين البرازلي[15]، وابن مرّي[16]، فحكى ابن كثير في حوادث سنة 709هـ أن الشيخ ابن الزملكاني عُزِل عن نظر المارستان «بسبب انتمائه إلى ابن تيمية»[17]!

ولما اقترب التتار سنة 699هـ من دمشق، وعاثوا في الأرض فساداً أرسل أعيان البلد إلى نائب القلعة أرجواش ليسلمها إلى التتار فامتنع أشد الامتناع، وكان ابن تيمية قد حضه على عدم تسليمها قائلاً: «لو لم يبقَ فيها إلا حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إن استطعت»[18].

وقد علق ابن كثير على ذلك بقوله: «وكان في ذلك مصلحة عظيمة لأهل الشام فإن الله حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزاً لأهل الشام التي لا تزال دار إيمان وسنة، حتى ينزل بها عيسى ابن مريم»[19].

فنائب القلعة لم يلتفت إلى إلحاح الأعيان والأمراء في تسليم القلعة إلى التتار، واستجاب لابن تيمية وأصر على الامتناع.

ومن أصحاب ابن تيمية: محمد بن عيسى التكريدي (ت728هـ)، ويمكن أن يقال عنه: إنه رجل المهمات الخاصة، وقد وصفه ابن كثير بقوله: «كانت فيه شهامة وحزامة، وكان يكون بين يدي الشيخ تقي الدين ابن تيمية كالمنفذ لما يأمر به، وينهى عنه، ويرسله[20] إلى الأمراء وغيرهم في الأمور المهمة، وله معرفة وفهم بتبليغ رسالته على أتم الوجوه»[21].

ومن أصحاب ابن تيمية المحتسبين: الشريف عماد الدين الخشاب (ت728هـ)، وقد نعته ابن كثير فقال: «كان من جملة أنصاره وأعوانه على الأمر بالمعروف والنهي على المنكر، وهو الذي بعثه إلى صيدنايا فلوث يده بالعذرة وضرب اللحمة التي يعظمونها هنالك، وأهانها غاية الإهانة[22] لقوة إيمانه وشجاعته رحمه الله وإيانا»[23].

ومهما يكن من إشارات وإرهاصات لتراتيب وتنظيمات لأولئك الأصحاب، فلا نتكلف وجود تنظيم تيمّي، فإن دعوة ابن تيمية وتراثه لها من الآثار والتأثيرات المباركة والنافعة والنافذة ما لا يحصى، وقد فاقت وحدها تأثير مجموع تنظيمات قوية مؤثرة قديماً وحديثاً، كما هو مشاهد ومجرب.

ونختم المقالة بالحديث عن اثنين من الأصحاب الفقراء، أحدهما: أبو بكر بن شرف الصالحي (ت728هـ) كان فقيراً ذا عيال، له عبادة واشتغال بالعلم، وصفه ابن كثير قائلاً: «وقد كان الشيخ [ابن تيمية] يحض على الإحسان إليه وكان يعطيه ويرفده»[24].

وأما الآخر فهو ابن رشيق رحمه الله (ت749هـ) كاتب مصنفات ابن تيمية، وله الرسالة المشهورة في سرد مؤلفات ابن تيمية، وقد نعته ابن كثير فقال: «كاتب مصنفات شيخنا العلامة ابن تيمية، كان أبصر بخط الشيخ منه، إذا عزب شيء منه على الشيخ استخرجه ابن رشيق، كان سريع الكتابة، عابداً ديناً، له عيال وعليه ديون»[25].

وقد أوصى ابن مُرّي أصحابَ ابن تيمية بابن رشيد خيراً، وألحّ في ذلك، وكأن الأصحاب قصّروا في حقه مع درايته الفريدة بتراث ابن تيمية، ومع فقره وكثرة ديونه، وقد عاش ابن رشيق أكثر من عشرين عاماً بعد وفاة ابن تيمية، وكانت كفيلة بخدمة مؤلفات ابن تيمية وتعاهدها أكثر مما هو حاصل.

وقد دوّن ابن مري في شأن ابن رشيق عبارات موجعة كما في قوله: «احتفظوا بالشيخ أبي عبد الله [ابن رشيق] وبما عنده من الذخائر والنفائس، وأقيموه لهذا المهم الجليل بأكثر مما تقدرون عليه، ولو تألمتم أحياناً من مطالبته؛ لأنه قد بقي في فنه فريداً.. فاحتسبوا مساعدته عند الله، وانهضوا بمجموع كلفته، وأوصيه بالصبر، وإن قصّر الإخوان في حقه، وليطلب نصيبه من الله متكلاً عليه في رزقه.. فالشيخ أبو عبد الله فهو بلا تردد واسطة نظام هذا الأمر العظيم، فأزيلوا ضرورته، واغتنموا بقية حياته»[26].

فرحم الله الفقير ابن رشيق الذي احتفى بذخائر ابن تيمية ونفائسه، مع قلة ذات اليد، وكثرة العيال، وغلبة الدين، وتقصير الصاحب، ولكن ألطاف الرب سبحانه حفظت هذه الكنوز فصارت ملء السمع والبصر في أنحاء الأمصار ومختلف الأزمان.

 
 


[1] العقود الدرية ص253.

[2] ينظر: البداية لابن كثير 14/ 8.

[3] ينظر: البداية لابن كثير 14/11.

[4] ينظر: البداية لابن كثير 14/ 25،24.

[5] ينظر: البداية لابن كثير 14/35.

[6] العقود الدرية ص169.

[7] ينظر: العقود الدرية ص331.

[8] مدارج السالكين 2/ 345.

[9] ينظر: الجامع لسيرة ابن تيمية ص126.

[10] العقود الدرية ص109 = بتصرف يسير.

[11] العقود الدرية ص108.

[12] العقود الدرية ص380-382 = بتصرف واختصار.

[13] العقود الدرية ص324،323 = باختصار.

[14] ينظر: الجامع لسيرة ابن تيمية ص91.

[15] ينظر: العقود الدرية ص335.

[16] ينظر: الجامع لسيرة ابن تيمية ص98.

[17] البداية 14/50.

[18] البداية 14/8،7.

[19] البداية 14/8،7.

[20] المثبت في الأصل: ويرسل، ولعل الصواب ما أُثبت، كما يقتضيه السياق.

[21] لعل هذه الإهانة لتلك اللحمة التي يعظمونها مأخوذة من تقريرات ابن تيمية في قوله: «كل ما عظم بالباطل من مكان أو زمان، أو شجر أو بِنية يجب قصد إهانته، كما تهان الأوثان المعبودة» اقتضاء الصراط المستقيم 1/477.

[22] المثبت في الأصل: ويرسل، ولعل الصواب ما أُثبت، كما يقتضيه السياق.

[23] البداية 14/209.

[24] البداية 14/141.

[25] البداية 14/229 = بتصرف يسير.

[26] الجامع لسيرة ابن تيمية ص98-100 = باختصار شديد.

أعلى