أراكان.. بين مطرقة الحكومة وسندان المجتمع الدولي
عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يوشك الأمم أن
تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال:
بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم
المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما
الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت»[1].
قال العظيم آبادي رحمه الله في شرح هذا الحديث: «(يوشك الأمم)، أي يَقْرُب فِرَق
الكفر وأمم الضَّلالة. (أن تداعى عليكم) أي: تتداعى، بأن يدعو بعضهم بعضاً
لمقاتلتكم، وكسر شوكتكم، وسلب ما ملكتموه مِن الدِّيار والأموال. (كما تداعى
الأكلة) أي: يَقْرُب أنَّ فِرَق الكفر وأمم الضَّلالة... يدعو بعضهم بعضاً إلى
الاجتماع لقتالكم وكسر شوكتكم؛ ليغلبوا على ما ملكتموها مِن الدِّيار، كما أنَّ
الفئة الآكلة يتداعى بعضهم بعضاً إلى قصعتهم التي يتناولونها مِن غير مانع،
فيأكلونها صفواً مِن غير تعب»[2].
من تأمل هذا الحديث النبوي الشريف وعلم شرحه وجد أن حال المسلمين في أراكان مطابق
لما في هذا الحديث؛ بل هو حال كثير من بلاد المسلمين، وصدق الشاعر محمود غنيم؛ حين
قال:
أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلــــــــدٍ
تجده كالطير مقصوصاً جناحـــــــــاهُ
لقد بدأت النكسة والمعاناة في إقليم أراكان منذ استقلال بورما عن بريطانيا عام
1948م،
ولما تولى الجنرال العسكري «نيوين» البوذي الحكم باستخدام القوة العسكرية تحولت
المعاناة إلى أبشع مما كانت عليه، بل وضعت ولاية أركان تحت الخطوط الحمراء لإرساء
البرمنة والقضاء على الإسلام بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، علانية وسراً، بحيث تفرض
على المسلمين الدين البوذي وثقافته، فمن اقتنع به فهو بورمي ومن رفضه فهو أجنبي
يعامل معاملة الأجانب.
ومن تلك الأنظمة البوذية التي فرضت على المسلمين ما يلي:
1-
وجوب تغيير حروف القرآن الكريم بحروف بورمية بدلاً من العربية.
2-
وجوب إدخال تعليم الديانة البورمية في المدارس الإسلامية الأهلية.
3-
تبادل الزواج بين المسلمين والبوذيين.
4-
حرية الدولة في إخراج المسلمين من بورما متى شاءت ولو بعد منح الجنسية.
5-
إلزام المسلمات وإجبارهن على خلع الحجاب الإسلامي.
6-
الأضحية غير مصرح للمسلمين بها في الأعياد دون موافقة السلطات.
7-
منع المسلمين من السفر لأداء فريضة الحج.
8-
تغيير الأسماء الإسلامية بأسماء بوذية[3].
يقول معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي
–
حفظه الله
-: «ذكرت
إذاعة كَاتُولِي أنه تحت حكم نظام
(نيوين)
العسكري المتعصب وحزب البرنامج الاشتراكي في بورما، تتعرض كل العقائد الدينية
باستثناء الديانة البوذية لمحاولات تقويضها والتدخل في شئونها والاعتراض عليها،
ويقع على المسلمين الجزء الكبير من الاضطهاد»[4].
وجد الروهينجيون أنفسهم مطاردين محرومين منبوذين، تحاربهم السلطة الحاكمة وتضيق
عليهم الخناق، ويبغضهم كهنة المعابد البوذية، فيحرضوا أتباعهم ضدهم، حتى أضحى من
الصعب عليهم الانتقال من قرية إلى أخرى من دون تصريح من الكهنة، أو من دون الحصول
على إذن مسبق من أمن الدولة.
يعمل الروهينجيون في صيد الأسماك والرعي والفلاحة والمهن الاجتماعية الرخيصة، أما
الوظائف الحكومية فأبوابها موصدة بوجوههم، ولا يحق لهم إطلاق الأسماء الإسلامية على
أولادهم وبناتهم، فالأسماء البوذية هي الخيار الأوحد، وهي المسموح بها في التداول،
ومنعتهم أيضاً من إطلاق لحاهم أو ارتداء الزي الإسلامي.
لقد مارست العصابات البوذية ولا تزال جرائم القتل والسحل والاغتصاب والتصفيات
الجسدية في صفوف المسلمين بغية طرد المواطن الروهينجي وإحلال البوذي محله، وتكررت
هذه الحملات المسعورة لحرق القرى بالقنابل الفسفورية.
في بورما عشرة ملايين مسلم تحت البطش العنصري من مجموع سكان ميانمار البالغ تعدادهم
خمسين مليون نسمة، ومن أبشع حملات الإبادة الجماعية تلك التي تعرض لها المسلمون في
عام
1942م
حيث راح ضحيتها أكثر من
100
ألف مسلم ومسلمة.
ولم تتغير أحوال المسلمين الروهينجيا بعد الانتخابات التي جرت في نوفمبر
2010م،
برغم إعلان حكومة ميانمار تغيير نظام الدولة من نظام عسكري إلى نظام ديمقراطي!
ينظر البوذيون إلى المسلمين على أنهم
«مواطنون
ضيوف»،
أي يعدون المسلمين
-
الذين كانوا في وقت من الأوقات حكام البلد
-
ضيوفاً طارئين.
وعندما تكون هناك مشكلة متعلقة بالمسلمين فإن جميع منظمات حقوق الإنسان في العالم
تكون خرساء ولا تنبس ببنت شفة، وكأنها جميعاً قد تواصت بهذا الصمت.
وقد انتهز البوذيون هجرة المسلمين عن قراهم ومزارعهم فبدؤوا بالاستيلاء على
ممتلكاتهم.
وبعد قيام المجلس العسكري بالاستيلاء على الحكم منذ عام
1988
زادت الضغوط على المسلمين في بورما، فتحت حجة
«التنمية
المهنية»
ساقوا العديد من النساء المسلمات في معسكرات جماعية وانتهكوا أعراضهن، وبعد أن حمل
بعضهن أجبروهن على الزواج من رجال الأمن البوذيين في المعسكرات.
كما سيق المسلمون الذين أُجلوا عن مساكنهم وبيوتهم للعمل الإجباري.
والمعروف أنه تُعطى دروس إجبارية في الدين البوذي للأطفال المسلمين في المدارس
الابتدائية في
مدينة
«آكياب»
عاصمة مقاطعة
«أراكان»،
ولا يستطيع أولياء هؤلاء الطلاب الاحتجاج على هذه البرامج الدراسية؛ لأنهم يخافون
قيام المسؤولين بطرد أبنائهم من المدرسة، وليس للطلاب المسلمين الحق في تعلم دينهم
في المدارس.
أي إن الزعم بأن الحرية الدينية موجودة في بورما زعم باطل ولا يتجاوز إطلاق
الشعارات.
والحقيقة أن سياسة النظام في بورما تتلخص في الشعار الآتي:
«لكي
تكون بورمياً عليك أن تكون بوذياً».
وفي الجانب الآخر يعيش مئات الآلاف من المشردين الذين اضطروا لترك قراهم وديارهم
أوضاعاً إنسانية صعبة للغاية بعد أن أحرقها البوذيون، حيث يتجمع الآن أكثر من
100
ألف روهينجي في مدينة آكياب بأراكان بورما، ويعيشون في مخيمات مؤقتة تفتقد لأدى
مقومات الحياة وعلى الأرصفة وفي الغابات دون أن تصل إليهم أيدي المنظمات الإغاثية
والإنسانية، وفي الوقت ذاته هناك مخيمات متفرقة داخل أراكان تعيش فيها مجموعات
كبيرة من المهجّرين الأراكانيين في ظروف قاسية، والجميع يعلم معاناة مئات الألوف من
الروهينجيا الذين يسكنون في أكواخ بالية على حدود بنجلاديش ممن تم تهجيرهم منذ عقود
من الآن.
وما تزال الأحداث المريرة تجري على أرض أراكان النازفة المغتصبة، وتفتك بشعبها
المسلم، وتتعاقب تعاقب الليل والنهار، وتتتابع من وضع إلى ما هو أشد منه، حتى
فُجِعنا بيوم النكبة والمأساة العظيمة التي حلت في
10
يونيو
2012،
إنها الفاجعة الأليمة!
وقد يتعجب المتابع من سكوت الدول الكبرى والهيئات العالمية كالأمم المتحدة وأمريكا
والهند والصين حفاظاً على مصالحها الاقتصادية، وكون الأزمة تخص المسلمين، ويزداد
العجب أكثر من تباطؤ بعض الدول والحكومات والهيئات والمنظمات الإسلامية عن نجدة
إخوانهم ونصرة مظلومي بورما والوقوف بقوة في وجه الحكومة الميانمارية الظالمة التي
تنفذ مخططها التعسفي بإجلاء المسلمين الروهينجيا من موطنهم ومحو الهوية الإسلامية
من المنطقة بالكلية.
وبرغم الحراك الإعلامي للقضية نسبياً وبعض التحركات الدبلوماسية والسياسية
والحقوقية، وبعض الجهود الإغاثية إلا أنها لم تصنع شيئاً يذكر في الميدان، فالجرح
لا يزال ينزف والقضية بحاجة ماسة إلى تحركٍ دولي وإعلامي أقوى وعلى كافة الصعد،
لتمكين المسلمين من الدفاع عن أنفسهم وحماية أعراضهم وإعادة حقوقهم كاملة، ولن يضيع
بإذن الله حق وراءه مطالب.
وقامت مؤسسة
UNHCR
التابعة للأمم المتحدة عام
1995م
بنشر تقرير ذكرت فيه أن رجوع هؤلاء المهاجرين المسلمين إلى ديارهم وأراضيهم يُعد
شيئاً خطراً، وبعد تعاونها مع حكومة بورما في الأشهر الأخيرة ذكرت أن الوضع أصبح
ملائماً لعودة المسلمين إلى منطقة أراكان، والحقيقة أن هذا الموقف لمؤسسة
UNHCR
يرمي إلى خداع الرأي العام العالمي ولاسيما العالم الإسلامي الذي يهتم بهذا الموضوع.
ومن العجيب أنه بعد عقود من الصمت نجد أن الولايات المتحدة تطالب حكومة ميانمار ذات
الأغلبية البوذية بوقف ممارساتها القمعية ضد الأقلية المسلمة المعروفة بالروهينجيا
الذين أجبر مئات الآلاف منهم على الفرار من البلاد بسبب إجبارهم على التحول للبوذية.
حيث قال ريتشارد باوتشر مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية: إن الولايات المتحدة تدرك
أن الكثيرين من مسلمي الروهينجيا يفرون من ميانمار بسبب الاضطهاد، وشدد على أن
بلاده تشعر بقلق بالغ إزاء هذا الأمر، وتطالب ميانمار بوقف قمعها للأقلية المسلمة.
وأصدرت «لجنة الشعوب المهددة بالانقراض»
GfbVبياناً
عن الحالة المأساوية لشعب روهينجا، الذي تمارس ضده الطغامةُ العسكرية في بورما أقسى
أنواع الإبادة؛ حيث أعلنت الجمعية أن أكثر من
1160
من لاجئي شعب روهينجا الذين فروا عبر الحدود من بورما تم اعتقالهم بعد وصولهم إلى
أراضي بنجلاديش في يناير
2010،
وسوف يتم ترحيلهم مرة أخرى إلى بورما، ويتعرض المسلمون أيضاً في بنجلاديش إلى
الملاحقة، فهم يسلموا إلى حكومة بورما، أو يصبروا على معاناة الجوع في معسكرات
الاعتقال؛ بسبب منع سلطات بنجلاديشوصول المعونات الغذائية من المنظمات الإغاثية إلى
المحتجزين.
وقد حذرت منظمة حقوق الإنسان الأمريكية
(أطباء
من أجل حقوق الإنسان)،
في تقرير صدر لها من عدة أيام أن
200
ألف روهينجي في بنجلاديش يعانون من حالة متدهورة من الناحية الإنسانية، وأن مسلمي
روهينجا سيتعرضون لخطر المجاعة إذا لم تتم زيادة السلع الغذائية، وتقول المنظمة إن
18%
من الأطفال يعانون بالفعل من سوء تغذية حاد.
ومن ناحية أخرى اتهمت منظمة
«مشروع
أراكان»
الحقوقية المعنية باضطهاد
«الروهينجيا»
في ولاية أراكان غربي ميانمار الجيش التايلاندي بدفع
992
شخصاً من لاجئي الروهينجيا الذين لجؤوا إلى شواطئهم في ديسمبر الماضي إلى البحر، ما
أدى إلى غرق ما بين
400
إلى
500
شخص منهم.
وجاءت الأنباء أخرى عن دفع الجيش التايلاندي لاجئي الروهينجيا إلى البحر لتلقي
الضوء على حادث وقع في الشهر نفسه عندما أنقذت البحرية الهندية
107
أشخاص في قارب بلا محرك، قالوا إن البحرية التايلاندية ألقت بهم للبحر.
وهذا غيض من فيض من الاضطهاد والممارسات القمعية في الداخل من قبل الحكومة البوذية
والسكوت والخذلان من قبل المجتمع الدولي تجاه قضية لها أكثر من
60
عاماً وشعب مهجر ومغلوب على أمره يعاني الفقر والجوع والتشرد.
:: مجلة البيان العدد 353 مـحــرم 1438هـ، أكـتـوبـر 2016م.
[1] أبو
داود
(4297).
[2]
انظر عون المعبود،
273/11.
[3]
المسلمون في بورما التاريخ والتحديات ص40،
نور الإسلام آل فائز.
[4]
بورما الخبر والعيان، ص12.