نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة موسى صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم

نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة موسى صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم

حِكَم وأسرار :

كثيراً ما يقرن الباري - سبحانه وتعالى - بين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة موسى صلى الله عليه وسلم، وبين كتابيهما وشريعتيهما.

أولاً: اقتـران نبـوَّة محـمـد صلى الله عليه وسلم ونبــوَّة مـوسى صلى الله عليه وسلم: قـال - تعالى -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ إلَى الْـمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ١ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلاً} [الإسراء: ١ - ٢]، وقال - تعالى -: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108]، وقال - تعالى -: {يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً} [النساء: 153]، وقال - تعالى -: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164]، وقال - تعالى -: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إذْ قَضَيْنَا إلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [القصص: ٤٤]،  وقـال - تعالى -: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إسْرَائِيلَ} [السجدة: 23]، وقال - تعالـى -: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْـحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: ٣]، وقال - تعالى -: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [النازعات: 15].  

ثانياً: اقتران كتابيهما: قـال - تعالى -: {وَلَـمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّـمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٠١]، وقـال - تعالى -: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إنَّهُ الْـحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17]، وقال - تعالى -: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف: 12].

ثالثاً:  اقتران اتباعهما: قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً}. [الأحزاب: 69]  

وفي السُّنة النبوية:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُنَاساً فِي الْقِسْمَةِ؛ فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاساً مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ. قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ! فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم! فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ»)[1].

ومن حكمة هذا الاقتران:

أن كتابيهما أفضل الكتب، وأن شريعتيهما أكمل الشرائع، وأن نبوَّتيهما أعلى النبوات، أن أتباعهما أكثر المؤمنين، وأن كليهما كانت مهمته شاقة في دكِّ عروش الظلم وحصون الاستبداد ومقاومة الطغيان والإلحاد والخرافة، وتحرير الرقاب والقلوب من استعباد الإنسان للإنسان واستعباد الهوى للنفس؛ فبنو إسرائيل أذلَّهم الحكم الطاغي فأصبحوا لا يملكون من أمر أنفسهم شيئاً، والعرب أخذ سلطان القبيلة بنواصيهم واستحوذت العصبية القبلية على نفوسهم فخضع الضعفاء للأقوياء ودان العبيد للسادة[2].

وإن الله - سبحانه - علم أن أجيالاً من هذه الأمة المسلمة ستمر بأدوار كالتي مرَّ فيها بنو إسرائيل، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف شبيهة بمواقف بني إسرائيل؛ فعرض عليها مزالقَ الطريق، مصوَّرةً في تاريخ بني إسرائيل؛ لتكون لها عظةً وعبرةً؛ ولترى صورتها في هذه المرآة المرفوعة لها بِيَد الله - سبحانه - قبل الوقوع في تلك المزالق أو اللجاج فيها على مدار الطريق[3].

وكما أن الأنبياء لا تخلو من الابتلاء بالمعاندين، كما حدث لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - فكذا لا تخلو الأولياء والعلماء عن الابتلاء بالجاهلين؛ فقلما انفك وليٌّ أو عالم عن ضروب من الإيذاء، بنحو إخراج من بلدة، وسعاية إلى سلطان، وشهادة عليه حتى بالكفر، فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا[4].

من مقاصد بعثة  الرُّسل تحرير الإنسان:

أولاً: المقصد من بعثة الرُسُل تحرير أقوامهم من عبودية البشر:

قال - تعالى - على لسان موسى صلى الله عليه وسلم ملخِّصاً مقصدَ رسالته: {قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105]، وقـال - تعالـى - آمـراً مـوسى وهـارون - عليهما السلام -: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائِيلَ} [طه: 47]؛ أي: (أطلقهم من أسْرك وقهرك، ودعهم وعبادة ربك وربهم)[5]، (فإن بني إسرائيل عبيد لله وحدَه، وإن الإنسان لا يخدم سيدين، ولا يعبد إلهين؛ فمن كان عبداً لله، فما يمكن أن يكون عبداً لسواه. وإذا كان فرعون إنما يُعَبِّد بني إسرائيل لهواه؛ فقد أعلن له موسى صلى الله عليه وسلم أن رب العالمين هو الله. وإعلان هذه الحقيقة يُنهِي شرعية ما يزاوله فرعون من تعبيد بني إسرائيل. إن إعلان ربوبية الله للعالمين هي بذاتها إعلان تحرير الإنسان:

- تحريره من الخضوع والطاعة والتبعية والعبودية لغير الله.

- تحريره من شرع البشر، ومن هوى البشر، ومن تقاليد البشر، ومن حكم البشر)[6].

وحتى يتحقق كمال الحرية لا بد أن تكون الحرية مع أهل الرشد والسداد؛ كما قال موسى صلى الله عليه وسلم (مَعِيَ) فَتَقْيِيدُهُ بِـ (مَعِيَ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ مِصْرَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الرَّسُولِ ليرشدهم وَيُدبر شؤونهم[7].

وهنا تساؤل: لماذا اقتصر موسى صلى الله عليه وسلم عَلَى طَلَبِ إِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟

قال ابن عاشور – رحمه الله –: (والِاقْتِصَارُ عَلَى طَلَبِ إِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى أُرْسِلَ لِإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَكْوِينِ أُمَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ؛ بِأَنْ يَبُثَّ فِيهِمُ الشَّرِيعَةَ الْمُصْلِحَةَ لَهُمْ، وَالْمُقِيمَةَ لِاسْتِقْلَالِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ»[8].

وهذا الذي قاله موسى صلى الله عليه وسلم يَسُن لنا أن يكون قادةُ النهضةِ أهلَ رُشدٍ وسدادٍ، قادرين على تدبير شؤون الخلق بما يحقق لهم السعادة في الدنيا والآخرة. وأنه لا يستطيع قادةُ النهضة تكوين أمة ناهضة إلا بعد تحريرهم من استبداد المستبدين.

وهنا تساؤل أيضاً: هل حَرَّرَ موسى صلى الله عليه وسلم بني إسرائيل من استبداد فرعون؟

نعم! لقد تحقق ذلك، ودليل ذلك: قول الله - تعالى - على لسان موسى صلى الله عليه وسلم ممتنّاً على بني اسرائيل: {وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} [المائدة: 20]. قيل: المراد بالـمُلْك أنهم مَلكُوا أمرهم بعد أن كانوا مملـوكين لفرعون[9]. وقـال السدي – رحمه الله -: «جعلكم أحراراً تملكون أنفسـكم بعد ما كنتـم في أيدي القبط بمنـزلة أهـل الجـزية فينا، ولا يغلبكم على أنفسـكم غالب»[10]. وقال الحسـن - رحمه الله -: «لأنهم مَلَكوا أنفسهم بأن خلَّصهم من استعباد القبط لهم»[11].

ثانياً: التوحيد هو الصورة المُثْلَى للتحرر:

إن الحرية الكاملة هي العبودية الكاملة لله لا لأحد سواه، وهذا ما حكاه القرآن عن نذر امرأة عمران. قال - تعالى -: {إذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35]؛ «أي: خالصاً مفرَّغاً للعبادة، ولخدمة بيت المقدس»[12]. فهو: محرر من كل قيد ومن كل شرك ومن كل حق لأحد غير الله، سبحانه. والتعبير عن الخلوص المطلَق بأنه تحرر تعبيرٌ موحٍ؛ فما يتحرر حقاً إلا من يَخلُص لله كله، ويفر إلى الله بجملته، وينجو من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل قيمة؛ فلا تكون عبوديته إلا لله وحده. فهذا هو التحرر إذن، وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية.

ومن هنا يبدو التوحيد هو الصورة المثلى للتحرر؛ فما يتحرر إنسان وهو يدين لأحد غير الله بشيء مَّا في ذات نفسه، أو في مجريات حياته، أو في الأوضاع والقيم والقوانين والشرائع التي تصرِّف هذه الحياة... لا تحرُّرَ وفي قلب الإنسان تعلُّق أو تطلُّـع أو عبـودية لغيـر الله، وفي حياته شريعة أو قيم أو موازين مستمدَّة من غير الله. وحين جاء الإسلام بالتوحيد جاء بالصورة الوحيدة للتحرر في عالم الإنسان[13].

 

من دلائل حرية الإنسان في القرآن:

- استخلاف الله - تعالى - الإنسانَ وتسخير العالم المشاهَد كله لخدمته:

لقد منح الله الإنسان كامل السيادة على الكون المشاهَد؛ وهذه لا تكون إلا لمن هو كامل الحرية القادر على إعمار الأرض وإقامة شرع الله فيها. قال - تعالى -: {وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]؛ فهي المشيئة العليا تريد أن تسلِّم لهذا الكائن الجديد في الوجود زمامَ هذه الأرض، وتطلقَ فيها يدَه، وتَكِلَ إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين، والتحليل والتركيب، والتحوير والتبديل، وكَشْف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كله - بإذن الله - في المهمة الضخمة التي وَكَلَها الله إليه[14]، كما قال - تعالى -: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13].

- القدرة على التمييز بين الخير والشر:

لقد وهب الله الإنسان حرية الإرادة والاختيار ليحاسَب على عمله ويتحمل المسؤولية الكاملة المترتبة عليه، وهذه الإرادة هبة ربانية، وهي مَنَاط تكليف الإنسان على غيره من المخلوقات. قال - تعالى -: {مَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. قال الكعبي: (الآية دالة على أن العبد متمكِّن من الخير والشر، وأنه غير مجبور على عمل بعينه أصلاً؛ لأن قوله: {مَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكن منه كيف شاء وأراد. أما المجبور على أحد الطرفين، الممنوع من الطرف الثاني فهذا لا يليق به)[15].

ثالثاً: إرسال الرسل دليل على حرية الإنسان:

فإذا كان الإنسان مجبوراً على أعماله لا خيار له فيها، فما الفائدة من إرسال الرسل إليه؟ ولماذا وجَّه الرسل دعوتهم إلى أقوامهم إذا كانوا لا حرية لهم؟ وما تفسير إنجاء الله للذين سمعوا للرسل وأطاعوا؟ وما تفسير إهلاك الله للذين سمعوا وعصوا؟ إلا أنهم مُنِحوا الحرية للاختيار بين طريق الحق وطريق الباطل، بين سبيل الهُدى وسبيل الضلال.

وقد حكى لنا القرآن قصة قرية كذبوا الرسل فأخذهم الله بالعذاب كما قال - تعالى -: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْـجُوعِ وَالْـخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ 112 وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِـمُونَ} [النحل: 112 - 113].

 وحكى لنا القرآن قصة قرية نفعها إيمانها وهم أهل قرية يونس بن مَتَّى؛ فإنهم لـمَّا أيقنوا أن العذاب نازل بهم تابوا إلى الله - تعالى - توبة نصوحاً، فلمَّا تبيَّن منهم الصدق في توبتهم كشف الله عنهم عذاب الخزي بعد أن اقترب منهم، وتركهم في الدنيا يستمتعون إلى وقت إنهاء آجالهم، كما قال - تعالى -: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَانُهَا إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَـمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْـخِزْيِ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ} [يونس: 98].

 ضوابط الحرية:

لقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم مفهوم الحرية في الحديث الذي رواه النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ. فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعاً»[16]. ومن هذه الضوابط:

1 - الاستقامة على شرع الله: والمراد: تمكُّن الاستقامة في النفس حتى تصرِّف غرائزها بمقتضى آداب الله تصريفاً جِبِلِّياً.

2 - عدم إيقاع الضرر بالنفس وبالآخرين: فالحرية هي ألا تتجـاوز حـدود الآخـرين فتضـرَّهم. والإضرار بالنفـس لا يجوز كذلك؛ فالإنسان يسعى في أرض الله ويبتغي الربح، ولكن بالوسائل المشروعة التي لا تؤذي المجتمع، ومن هنا حرَّم الإسلام الربا والقمار واحتكار أقوات الناس، كما أعطى الإسلامُ الإنسان حرية التصرف في ما رزقه الله من مال وثروة ولكن بشرط ألا يتعدى الحدود الفاصلة بين العاقل والسفيه؛ فإن فعل وجب تعطيل نعمة الله عليه وسحب الحرية التي مُنِحَها فلم يُحِسن استخدامها؛ كما قال - تعالى -: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} [النساء: ٥].

3 - ألا تؤديَ حرية الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة النظام العام وتقويض أركانه.

4 - وألا تفوِّتَ حقوقاً أعم منها؛ وذلك بالنظر إلى قيمتها في ذاتها ورتبتها ونتائجها.

إذن فحرية الإنسان مقدسة، ليس لأحد أن يعتدي عليها، ويجب توفير الضمانات الكافية لحماية الأفراد، ولا يجوز تقييدها أو الحد منها إلا بسلطان الشريعة، وبالإجراءات التي تُقِرُّها، «كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟»[17]. ولا يجوز لشعب أن يعتدي على حرية شعب آخر، وللشعب المُعْتَدى عليه أن يرد العدوان، ويستردَّ حريته بكل السبل الممكنة. قال - تعالى -: {وَلَـمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: ١٤]؛ «أي ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم»[18]. وعلى المجتمع الدولي مساندة كل شعب يجاهد من أجل حريته.

مما سبق ذكره يتضح لنا: أن المُتَمَتِّع بكامل حريته في التصرف في ما يملكه، يكون عزيزاً قوياً، قادراً على تأسيس نهضة جديدة بما ملَّكه الله من طاقات وإمكانات ووهبه من إبداعات في حدود الضوابط التي حددها الشرع متعبداً بذلك لله، ساعياً لرضاه بما فيه سعادة الخلق أجمعين، صابراً على الابتلاء واللأواء مستعيناً في ذلك برب الأرض والسماء.

وورثةُ الأنبياء منوطٌ بهم السعي لتحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، والله معهم ولن يترهم أعمالهم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 


[1] صحيح البخاري: بَاب مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْخُمُسِ وَنَحْوِهِ، ( 2917).

[2] تفسير سورة الأعراف د: محمد البهي، ص 98.

[3] في ظلال القرآن: 1/ 242.

[4] فيض القدير: 4/ 36.

[5] تفسير ابن كثير: 3/ 454.

[6] في ظلال القرآن: 3/ 268.

[7] التحرير والتنوير: 9/40.

[8] التحرير والتنوير: 9/40.

[9] فتح القدير: 2/ 289.

[10] تفسير الرازي: 6/ 22.

[11] تفسير النكت والعيون: 1/ 355.

[12] تفسير ابن كثير:  2/ 33.

[13] في ظلال القرآن: 1/ 363.

[14] في ظلال القرآن: 1/  28.

[15] تفسير الرازي: 10/ 17.

[16] صحيح البخاري، بَاب: هَلْ يُقْرَعُ فِي الْقِسْمَةِ وَالِاسْتِهَامِ فِيهِ، ( 2313).

[17] كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: علي بن حسام الدين المتقي الهندي: (12/ 873)، كلمة لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، مؤسسة الرسالة - بيروت 1989م.

[18] تفسير ابن كثير: (5/ 151).

 

أعلى